أخبار
جدري القرود يذكّرنا بعاقبة عدم الإنصات إلى صوت العلم
مع انتشار اللقاحات على مستوى العالم، يخشى الباحثون الأفارقة أن يُتْرَكوا في آخر الركب.
- Nature (2023)
- doi:10.1038/d41586-022-01686-z
- English article
- Published online:
امرأة وطفل ينتظران العلاج من جدري القرود في جمهورية إفريقيا الوسطى في عام 2018.
CHARLES BOUESSEL/AFP/GETTY
بعد الانتشار السريع لحالات الإصابة بجدري القرود في شهر مايو في بلدانٍ مثل البرتغال وإسبانيا والمملكة المتحدة - حيث انتشار الأوبئة ليس بالأمر الشائع – سارع العالم إلى محاولة الاستجابة، التي تضمّنتْ توزيع اللقاحات في بعض البلدان. لكن جدري القرود ينتشر في أجزاء من وسط وغرب إفريقيا منذ أعوامٍ، ما أورث الباحثين الأفارقة شعورًا بالخذلان، لعدم إتاحة مثل هذه الموارد في بلدانهم، حيث كانت حصيلة ضحايا المرض أكبر. وأشاروا إلى أنهم كانوا ينبهون منذ فترةٍ طويلةٍ إلى احتمال انتشار فيروس جدري القرود، الذي كان يسلك مسلكًا جديدًا، على نطاقٍ أوسع.
حتى هذا الوقت من العام، رُصد أكثر من 5700 حالة إصابةٍ مؤكدةٍ بجدري القرود في بلدانٍ خارج وسط وغرب إفريقيا، لكن لم تسجَّل أية وفياتٍ. إلّا أنّ مسؤولي الصحة في إفريقيا أفادوا بوقوع أكثر من 70 حالة وفاةٍ يشتبهون في أنها ناجمةٌ عن جدري القرود. يقول ديمي أوجوينا، طبيب الأمراض المُعدية من جامعة دلتا النيجر في أماسوما في نيجيريا، إنّ هذا العدد قد يكون أقلّ من العدد الفعلي، بالنظر إلى ضعف إمكانات الفحص والرصد الوبائي.
مع أنّ أوجوينا يشعر بالإحباط بسبب تجاهل الدول الغربية لجدري القرود إلى حدٍ كبيرٍ حتى الآن، إلا أنّه يخشى كذلك ألا تؤدي الفاشيات الحالية في أنحاء شتى من العالم إلى تحسين الأوضاع في إفريقيا. يقول: "إذا لم نلفت أنظار العالم إلى هذه المشكلة، فإن الكثير من الحلول ستعالج المشكلة في أوروبا، دون إفريقيا".
جدري القرود في إفريقيا
قبل هذا العام، رُصِدَ عددٌ قليلٌ فقط من حالات جدري القرود خارج إفريقيا؛ كانتْ مرتبطةً باستيراد الحيوانات من القارة، أو بالمسافرين القادمين من مناطق موبوءة. كانتْ أكبر هذه الفاشيات فاشيةً قصيرة الأجل في الولايات المتحدة في عام 2003، نَجَمَتْ عن استيراد الحيوانات وسبّبَتْ إصابة أكثر من 70 شخصًا بالمرض.
أما في إفريقيا، فقد واجهت بعض فاشيات جدري القرود منذ أن كشف العلماء أول حالةٍ بشريةٍ في جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 1970. على الرغم من أن الباحثين ما زالوا لا يعرفون على وجه التحديد الحيوانات التي تؤوي الفيروس بصورةٍ طبيعيةٍ، إلا أنهم يعرفون أنّه ينتشر بين العديد من أنواع القوارض، ومنها يمكن أن ينتقل إلى البشر. ظهرَتْ فاشيةٌ كبيرةٌ في نيجيريا في عام 2017، وسبّبَتْ أكثر من 200 حالة إصابة مؤكدة، و500 حالةٍ مشتبهٍ فيها. وخلال العقد الماضي، شهدَتْ جمهورية الكونغو الديمقراطية آلاف الحالات المشتبه فيها، إضافةً إلى مئات الوفيات التي ربما تكون ناجمة عن الإصابة بالمرض. وفي إفريقيا الوسطى، كانت السلالة التي أصابت الأشخاص أشدَّ فتكًا من غيرها، إذ بلغ معدل الوفيات نحو 10٪.
بالنسبة إلى أديسولا ينكا-أوجيلاي، وهي عالمة وبائياتٍ في المركز النيجيري لمكافحة الأمراض في العاصمة أبوجا، ترك الانتشار العالمي للمرض لديها إحساسًا بسبق الرؤية، أو "الديجافو". فقبل أن تضرب نيجيريا فاشيةُ عام 2017، بدا أن الفيروس محصورٌ في المناطق الريفية، حيث كان الصيادون يخالطون الحيوانات، مسبِّبًا حمى وآفاتٍ مميزةً ممتلئةً بسائلٍ "جدري" على الوجه واليدين والقدمين. بعد عام 2017، نبّهَتْ – هي وعلماء وبائياتٍ آخرون – إلى أنّ الفيروس كان ينتشر بطريقةٍ غير مألوفةٍ: إذ ظهر في المناطق الحضرية، وظهرت على بعض المصابين آفاتٌ تناسلية، في إشارة إلى أن الفيروس قد ينتشر بالاتصال الجنسي (انظر: A. Yinka-Ogunleye et al. Lancet Infect. Dis. 19, 872–879; 2019). والآن، مع انتشار الفيروس في المدن الغربية عبر الاتصال الجنسي أيضًا، في أكبر الظن، تقول: "إنّ العالم يدفعُ ثمن عدم الاستجابة استجابةً مناسبة" في عام 2017.
Source: E. M. Bunge et al. PLoS Neg. Trop. Dis. https://doi.org/10.1371/journal.pntd.0010141 (2022).
مناعةٌ أضعف
في الوقت نفسه، نبّه الباحثون إلى أنّ حالات الإصابة بجدري القرود في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تزداد منذ أعوام. وذلك يعود، في جانبٍ منه، إلى توقف البلدان عن إعطاء لقاحاتٍ ضد الجدري، الذي يسببه فيروس الجدري، وهو فيروسٌ قريبٌ جدًا من الفيروس المسبِّب لجدري القرود. قُضي على الجدري في عام 1980 فأُوقِفَ التلقيح، مما يعني أن النسبة المئوية للسكان المعرضين له - ومن ثمّ لجدري القرود – في ازدياد (انظر: زيادة حالات جدري القرود في إفريقيا).
منذ ذلك الوقت، احتفظَتْ بعض الدول بمخزوناتٍ وطنيةٍ من لقاحات الجدري، لأن مسؤولي الصحة ساورتهم مخاوف من أن يحدث خطأ يتسرَّب على أثره فيروس الجدري من المختبرات التي تحتفظ بعيناتٍ منه، أو أن يتحول الفيروس إلى سلاح. تستخدم دولٌ ككندا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة هذه المخزونات في استراتيجية «التطعيم الحلقي»، لحماية المخالطين للشخص المصاب. ولما كان العديد من الحالات قد حدثت حتى الآن بين رجالٍ مثليِّين، فقد قَطَعَتْ السلطات في بعض البلدان خطوةً أخرى إلى الأمام، بالبدء في تقديم اللقاحات لجماعات الرجال المثليين.
يقول ستيف أهوكا، عالم الفيروسات بجامعة كينشاسا، إنّ هذه اللقاحات ستكون مفيدةً في معالجة الفاشيات في إفريقيا؛ إلا أن البلدان لا تملك مخزونات كبيرة، ولم تتبرع الدول الغربية بلقاحاتها لكي تُسْتَخْدَمَ ضد جدري القرود. ويتفق أهوكا ووينكا-أوجيلاي على أنّه إذا توفرت اللقاحات، فإنهما سوف يوصيان – على الأقل – بتلقيح العاملين في الرعاية الصحية، الذين يقفون في الصفوف الأمامية، إضافةً إلى فنيي المختبرات. وقال باحثون آخرون، في تصريحات أدلوا بها لدورية Nature، إنّ اللقاحات يمكن أن تساعد على الحدّ من جدري القرود في إفريقيا إذا أُعْطيتْ لضعاف المناعة، ولأولئك الذين يخالطون الحيوانات البرية على نحو مخالطةً متكررة.
دعمٌ محدود
يخشى بعض مسؤولي الصحة في إفريقيا جنوب الصحراء بالقلق من أن يظلُّوا في آخر الركب. وهو قلق له ما يبرره؛ بالنظر إلى ما كان من غياب العدالة في توزيع اللقاحات إبان جائحة «كوفيد-19». فعلى الرغم من ارتفاع أعداد الحالات، لم تزد نسبة المطعَّمين ضد فيروس «سارس-كوف-2» في إفريقيا على 18.5٪ فقط، مقارنةً بما نسبته 75.7٪ في البلدان ذات الدخل المرتفع في قارات العالم الأخرى.
تعهدَتْ الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية بتقديم أكثر من 31 مليون جرعةٍ من لقاح الجدري للوكالة، لتُسْتَخْدَمَ في حالات الطوارئ المتعلقة بالجدري؛ ولكن لم توزّع هذه الجرعات على إفريقيا لاستخدامها ضد جدري القرود. تقول المسؤولةُ التقنية عن جدري القرود في منظمة الصحة العالمية، روزاموند لويس، إنّ ذلك راجع، في جانبٍ منه، إلى أنّ قسمًا من مخزون الوكالة الذي تعهدت به يتكون من لقاحات "الجيل الأول"، التي يمكن أن تكون ذات تأثيراتٍ جانبيةٍ خطيرة، ولا يُنْصَح بتناولها للحماية من جدري القرود، الأقل فتكًا من الجدري.
وأشارت لويس كذلك إلى "المسائل التنظيمية"؛ إذ إنّ بعض الدول الأعضاء قد صرحَّت بتوزيع اللقاحات لكي تُسْتَخْدَمَ ضد الجدري فقط، لا ضد جدري القرود. (صحيحٌ أنّ اللقاحات تُعْتَبَرُ آمنةً وفعّالةً للاستخدام على الأشخاص المصابين بالجدري، إلا أنّها لم تخضع إلّا لاختباراتٍ محدودةٍ ضد جدري القرود).
وعن الجهود المبذولة للتعامل مع جدري القرود في إفريقيا، تقول لويس: "ربما لم يكن الاستثمار كما كنا نريده أن يكون، لكنه لم يكن معدومًا". وتضيف أنّ منظمة الصحة العالمية تنسق مع الدول الإفريقية التي تشهد فاشيات جدري القرود لتحسين إجراءات التشخيص والرصد الوبائي.
في الشهر الماضي، اعترفَتْ منظمة الصحة العالمية بعدم المساواة في الاهتمام العالمي الذي يتلقاه جدري القرود. كانت المنظمة قد أعلنت، في السابع عشر من يونيو الماضي، أنها لن تعلن بعد الآن عن حالات جدري القرود والوفيات في إفريقيا جنوب الصحراء بمعزل عن بقية العالم، في سعيها إلى تحقيق "الاستجابة الموحدة المطلوبة". وبعد أن نشر الباحثون اقتراحًا بتغيير اسم سلالتَي جدري القرود الفيروسية - اللتين يُشار إليهما حاليًا بسلالة غرب إفريقيا وسلالة حوض الكونغو - قدّم المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، دعمه للتغييرات، للحدِّ مما قد يرتبط بهذا المرض من وصم اجتماعي، ووعد "بالإعلان عن الأسماء الجديدة في أسرع وقتٍ ممكنٍ".
لكنّ أويووالي توموري، وهو عالم فيروساتٍ مستقلٌ يقيم في إبادان في نيجيريا، يقول إنّه حتى لو أمَّنَتْ دول إفريقيا جنوب الصحراء اللقاحات، فإنّ التطعيم وحده لن يقضي على جدري القرود. ونبّه إلى أنّ التطعيم لن يجدي نفعًا ما لم يتوصل مسؤولو الصحة إلى معرفة الجوانب الوبائية من الميكروب المسبِّب للمرض؛ لاسيما أنه لا تزال هناك العديد من الأسئلة عن كيفية استمرار ظهور حالاتٍ معزولةٍ من المرض في جميع البلدان المتضررة في إفريقيا جنوب الصحراء. وأوصى توموري بدعم الأبحاث الهادفة إلى تحديد المصدر الحيواني لجدري القرود، حتى يتمكن مسؤولو الصحة من وضع تدابير أكثر دقةً للحد من انتشار الفيروس. يقول: "إنْ لم نعالج جوهر المسألة، فسينتهي بنا الأمر استنفدنا جميع ما لدينا من لقاحات ضد جدري القرود"، بدلًا من التعامل مع موطن الداء، المتمثل في المخالطة بين البشر والحيوانات البرية.
يقول أوجوينا إنّ استراتيجيات تسريع فحص جدري القرود يحظى بالقدر نفسه من الأهمية، لأنّه كلما أسرعنا في تأكيد الحالة، سوف يتيح ذلك لمسؤولي الصحة العامة البدء بصورةٍ أسرع في إجراءات الاحتواء والمكافحة. ويضيف أنّ هذه الخطوات لابد أن تُتخَذ بأسرع وقتٍ ممكنٍ في إفريقيا جنوب الصحراء، مؤكدًا أنّ "الحلول محدودة النطاق، التي تحل المشكلة في البلدان المتقدمة دون النامية، ستدخلنا الدوامة نفسها مرةً أخرى". ومشيرًا إلى الفاشيات التي ظهرت في الماضي ثم عاودت الظهور بين الفينة والأخرى، قال: "إنّها مسألة وقتٍ فقط".