رؤية كونية
كيف ستؤثِّر الأزمات العالمية على النظم الغذائية؟ «التوأمة الرقمية» تقدم لنا الإجابة
ما بين أزمة جائحة «كوفيد-19» وأزمة الحرب في أوكرانيا، كان يمكن للنماذج الافتراضية أن تطرح سياسة استباقية عالمية للتعامل مع الأزمات الغذائية قبل وقوعها.
- Nature (2023)
- doi:10.1038/d41586-023-00640-x
- English article
- Published online:
NATASCHA MEHRABI
في أبريل 2020، ووسط تدابير الإغلاق التي اتُّخذت لمكافحة جائحة «كوفيد-19»، جلستُ في الهواء الطلق مع زميل لي داخل حرم جامعي مهجور. في ذلك الوقت، كانت البضائع المرصوصة على رفوف المتاجر ي جميع أنحاء أوربا وأمريكا الشمالية على وشك النفاد. فُسِّرَت هذه الظاهرة في البداية بأنها نتيجة الاندفاع نحو الشراء بدافع الذعر، غير أن أسبابًا أخرى كانت تطلُّ برأسها: مثل مرض العمال، والقيود المفروضة على التنقل والتجارة. وهذا إن دلَّ فإنما يدل على وجود التباس يشوب كيفية تسبُّب هذه العوامل في اضطراب الإمدادات. وبوصفنا علماء متخصصين في النظم الغذائية، توصلنا معًا إلى أننا، وبكل بساطة، تعوزنا الأدوات اللازمة لإجلاء ذلك الالتباس.
خلال السنوات الأخيرة، كان الأمن الغذائي العالمي قد مُنِيَ بضربات موجعة: من جائحة «كوفيد-19»، إلى الاجتياح الروسي لأوكرانيا، إلى ظواهر المناخ المتطرف، إلى غير ذلك من الحوادث التي حلَّت بالنظام الغذائي العالمي. وها نحن – أنا وزملائي – لا نألو جهدًا من أجل سرعة التوصل إلى إجابات مقنعة تلبِّي نداءات واستغاثات الجهات المختصة بالتنمية، ومنظمات الإغاثة، ومؤسسات الفكر الحكومية التي تُمطِرنا بوابل من الأسئلة، على شاكلة: كيف يمكن للقيود المفروضة على التنقل إبان جائحة «كوفيد-19» أن تؤثر في المحاصيل في جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية؟ وكيف يمكن لاستغناء ألمانيا عن الغاز الطبيعي الروسي أن يؤثر في الإنتاج والاستخدام العالميين للأسمدة؟ وكيف يمكن لموجات الحر أن تؤثر في قدرة الفئات الأشد فقرًا على تحمل نفقات شراء الطعام؟
لم تكد تنتهي تلك المحادثة، التي جمعتني بزميلي داخل الحرم الجامعي المهجور في عام 2020، إلا وقد استقرَّ في يقين كلَيْنا أننا نحتاج إلى نماذج أكثر تقدمًا للنظم الغذائية، بحيث تعتمد على أحدث التقنيات، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيانات الحقيقية، ولا تتوقف عن اقتناص أنماط إنتاج الغذاء ونقله وتجهيزه واستهلاكه، وتتيح إجراء الاختبارات التي تقيس قدرة النظم الغذائية على التصدي للأزمات، وإطلاق استجابات آنية ومستنيرة للصدمات التي تنتاب الأنظمة الغذائية العالمية.
وإننا لنلمس مثل هذه المحاولات لتمثُّل الواقع الملموس – التي يُطلَق عليها «التوائم الرقمية» digital twins – في بعض القطاعات. ففي مجال هندسة الطيران والفضاء، تُستخدَم «التوائم الرقمية» بُغية التأهب للأعطال الخطيرة في نُظُم الأجهزة، والتعامل معها حال وقوعها، ويُعتمد عليها في مجال التصنيع في الحفاظ على جودة المنتجات. كما أن الاتحاد الأوربي يموِّل مبادرة لتطوير «توائم رقمية» في مجال علوم النظام الأرضي، من أجل التصدي لتغير المناخ وتعزيز حماية الطبيعة. وعند الاستعانة بـ«التوائم الرقمية» في مجال النظم الغذائية، لن تتوفر البيانات اللازمة بالقدر المطلوب، في البداية على الأقل؛ حيث تختلف القدرة على استشعار تدفقات المواد الغذائية باختلاف الموقع، والنوع، ومستوى التجهيز. ولكن التقدم الذي تشهده مجالات توليد البيانات، والقدرات الحاسوبية، والذكاء الاصطناعي – كلُّ ذلك رسَّخ في نفسي قناعة بأن الوقت قد حان للاستعانة بهذه النماذج.
ومن يقرأ التاريخ يعرف أن أزمات الغذاء الكبرى (مثل أزمتي أسعار الغذاء العالميتين اللتين وقعت إحداهما خلال الفترة من عام 1972 حتى عام 1975، والثانية خلال عامَي 2007 و2008) أحدثت طفرات في مجال نمذجة النظم الغذائية؛ إلا أن الجهود المبذولة في هذا المجال كان ينقصها الاتحاد والتكاتُف. فعلماء الاقتصاد يستطيعون إنشاء نماذج معقدة للأسعار والتجارة تصلُح للتحليل السياسي، ولكنَّ درجة استبانتها الجغرافية المكانية محدودة. وعلى الجانب الآخر، يمتلك المتخصصون في الهندسة الزراعية شروحًا ممتازة وغاية في الدقة في مجال إنتاج المحاصيل وتحقيق العائد المرجو منها، ولكنها في العادة لا تتجاوز باب المزرعة. ما ينقصنا حقًا هو التفاصيل التي تتعلق بكيفية تدفق الغذاء عبر سلاسل الإمداد؛ كيف يشق العدس المزروع في كندا، مثلًا، طريقه حتى يصل إلى مطعم بالهند.
ورغم ذلك، فإن معظم التفاصيل التي تنقصنا موجودة بالفعل. فالأقمار الصناعية تتيح رصد إنتاج المحاصيل وتتبُّع استجابتها لعوامل مثل الطقس وغيره. كما يسهُل الحصول على البيانات التي تختص بالموقع الجغرافي وحركة السير على الطرق والسكك الحديدية والمجاري المائية والموانئ الرئيسة في العديد من البلدان. وباستخدام نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، يمكننا تحديد سرعة نقل البضائع من مكان إلى آخر. ونحن أيضًا على إلمام بالأماكن التي يعيش فيها الناس، ونستطيع تحديد حجم الطلب لديهم على العديد من الأغذية عن طريق بيانات القدرة الشرائية، كما أن لدينا معلومات مفصَّلة تفصيلًا دقيقًا عن حجم التجارة الدولية للسلع الأساسية. وقد وضع الباحثون المتخصصون في الشؤون اللوجستية نماذج توضح مسار تدفق الغذاء من المنتِج إلى المستهلِك في بلدان عدة، من ضمنها الولايات المتحدة، وهي كلها نماذج لبنية تحتية نظرية تنتظر الدخول في حيز التنفيذ لتطبَّق على نظيرتها الواقعية.
إذا ما رُبطت كلُّ هذه الجهود بعضها ببعض، فسوف يأتي بمنافع جمة؛ سوف يتسنى لنا الحصول على تقييم أقرب إلى الصواب لمدى تأثير عوامل الطقس المتطرف، أو القيود المفروضة على التصدير، أو نقص العمالة. وسوف يكون في إمكاننا أيضًا إعداد نماذج للآثار المترتبة على منشأ الأزمات التي تضغط على الأنظمة الغذائية في آنٍ واحد، كتفشي الأمراض، أو اندلاع الصراعات فيما بين البلدان، أو تفجُّر أزمات الطاقة. وبالإضافة إلى ذلك، سيكون في مقدورنا تقدير الوقت اللازم لإعادة ضخ تدفقات الغذاء عبر مسارات وموانئ بديلة، وتعويض الخسائر، واحتواء الأزمات.
من أجل إصابة النجاح في النهوض بهذه المهمة، لابد من إيلاء التحديات التقنية ما يكفي من الاهتمام. فالكثير من الخرائط التي توضح منشآت الصناعات الغذائية والقوة العاملة في مجال الزراعة يشوبها نقص، غير أن تقنيات تعلم الآلة والذكاء الاصطناعي من شأنها أن تفتح المجال أمام فرصٍ شتّى لتعويض هذا النقص. أضف إلى ذلك أن تحقيق التكامل فيما بين البيانات العامة والخاصة، جنبًا إلى جنب مع ضمان خصوصية كل من المنتِج والمستهلِك، ليس بالأمر الهيّن، إلا أنه يبقى في حدود الاستطاعة، إذا ما استُعين بأدوات التشفير الحديثة.
ومن ذلك يتبدَّى أن تطبيق تقنية «التوائم الرقمية» مهمة جبارة لا ولن تحتمل الخطأ. عادةً ما تعاني البلدان الأشد فقرًا من نقص القدرة على إنشاء نماذج النظم الغذائية واستخدامها؛ حيث تعاني هذه البلدان أشدَّ المعاناة من نقص التمويل، وبدائية كل من أنظمة المراقبة والبنية التحتية للبيانات. كما أن جُل نشاطها الاقتصادي يُمارَس عبر أسواق غير رسمية وغير مُسَجَّلة. ولمَّا كان الأمر كذلك، فيجب أن تتكاتف الجهود العالمية من أجل مواجهة هذه الظروف الجائرة، وإتاحة إمكانية الوصول الحر إلى النماذج.
وهنا، تحديدًا، يحظى دعم مشاركة البيانات والنماذج بأهمية جوهرية. ذلك لأن «التوائم الرقمية» – التي تُطَوَّر خلف الأبواب المغلقة بحكم طبيعة الصناعة؛ أي كبار تجار السلع ومن يقدم لهم الخدمات كالمستشارين وشركات التأمين – هذه «التوائم الرقمية» قد لا تصبُّ في الصالح العام، ولا تعود بالنفع على مرونة النظام الغذائي. فاحتكار المعلومات المميَّزة أمر بالغ الخطورة، إذا اقترن بازدياد سلطة المنشأة. كما أن مخاطر الإرهاب وغيرها من المخاطر الأمنية سوف تتعاظم إذا ما أُفصِح عن البيانات التفصيلية لمواطن ضعف النُّظُم الغذائي، أو إذا لم تحظَ هذه البيانات بالحماية الكافية ضد القرصنة.
لن يحُد من هذه المخاطر، ويُبَصِّر الناس بالمنفعة الشاملة، إلَّا الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز الحوكمة، وشفافية الرقابة. ويمكن للهيئات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة أن تقوم بدور المرشد لتلك الجهود، مما يؤلف بين المنظمات الكفيلة بالحفاظ على الركائز الأساسية، ووضع القواعد فيما يخص مشاركة البيانات وحوكمتها.
ولكي تنجح جهود الاستعانة بـ«التوائم الرقمية» في مجال النظم الغذائية، يُنتظر من جهات التمويل أن تترك برجها العاجيَّ وتقدم التمويل اللازم للمبادرات في هذا المجال بنفس القدر الذي تقدمه للمشروعات الكبيرة في علم الفيزياء.
وعلى العالم بأسره أن يكُفَّ عن إرجاء الاهتمام بعلم بيانات النظم الغذائية حتى تطرأ الأزمات. فبالاستعانة بالمعلومات والاستنتاجات الآنية، بمقدورنا استشراف أبرز مواطن الضعف في النظم الغذائية قبل فوات الأوان.
زيا مهرابي: أستاذ مساعد في الدراسات البيئية بجامعة كولورادو بولدر.
البريد الإلكتروني: ziamehrabi@gmail.com