أخبار

كلاب تشرنوبل الضالة تكشف عن تأثيرات الإشعاع

مشروع امتد لسنوات عدة في أوكرانيا يحاول توضيح التأثيرات الصحية للتعرض المتواصل للإشعاع.

فريدا كرير
  • Published online:
جراء ضالة تلعب داخل برج تبريد لم يكتمل بناؤه، في محطة طاقة تشرنوبل في أوكرانيا.

جراء ضالة تلعب داخل برج تبريد لم يكتمل بناؤه، في محطة طاقة تشرنوبل في أوكرانيا.

Sean Gallup/Getty

 في الساعات المبكرة من يوم السادس والعشرين من أبريل عام 1986، هز انفجاران محطة الطاقة النووية الواقعة بالقرب من مدينة تشرنوبل الأوكرانية، التي كانت في ذلك الوقت جزءًا من الاتحاد السوفيتي. تسبب الحادث الذي وقع في المفاعل رقم أربعة في انبعاث مواد مشعة إلى الهواء، ما دفع الاتحاد السوفيتي إلى إخلاء آلاف المواطنين من المنطقة المحيطة، تاركين خلفهم منازلهم، وحيواناتهم الأليفة، في حالات كثيرة.

وفي الأيام التي تلت الحادث، بحثتْ طواقم الاستجابة عن الكلاب المتروكة والضالة؛ بهدف قتلها لوقف انتشار النشاط الإشعاعي، لكن يبدو أن بعضها نجا.

وفي أول دراسة جينية من نوعها على أي نوع من الثدييات الكبيرة في المنطقة المحيطة بتشرنوبل، كشف الحمض النووي المأخوذ من الكلاب الضالة التي تعيش حاليًا بالقرب من محطة الطاقة أنها منحدرة من كلاب كانت موجودة وقت الحادث أو استقرت في المنطقة بعده بفترة قصيرة1. والدراسة، التي نُشرتْ في الثالث من شهر مارس الحالي في دورية «ساينس أدفانسز» Science Advances، هي خطوة أولى في مشروع أكبر يهدف إلى تحديد كيفية تكيف الكلاب لتبقى على قيد الحياة في مكان من أكثر الأماكن نشاطًا إشعاعيًا على وجه الأرض. ويأمل الباحثون في الاستعانة بهذه المعرفة للتوصل إلى فهم أفضل عن تأثير التعرض طويل الأمد للإشعاع على جينات البشر وصحتهم.

تقول إلين أوستراندر، اختصاصية علم الوراثة في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) في بيثيسدا بولاية مريلاند، والمؤلفة المشاركة في الدراسة: "هناك الكثير لنتعلمه من هذه الحيوانات، إنها فرصة ذهبية لنرى ما يحدث عندما تعيش أجيال من الثدييات الكبيرة في بيئة قاسية".

في أعقاب الكارثة

لقد كانت التأثيرات المباشرة لحادث تشرنوبل واضحة، فقد مات حوالي 30 شخصًا من العاملين في محطة الطاقة ورجال الإطفاء الذين حضروا عقب وقوع الحادث، في غضون أشهر من الكارثة، متأثرين بالتسمم الإشعاعي، حسب منظمة الصحة العالمية. كما ذبلتْ أشجار الصنوبر في المناطق المحيطة، واختفتْ أنواع كثيرة من الحشرات، إذ لم تستطع الاستمرار في التربة النشطة إشعاعيًا.

أما الجانب الأقل وضوحًا فهو كيف تؤثر المواد النشطة إشعاعيًا العالقة منذ وقوع الكارثة على النباتات والحيوانات الموجودة في محيطة تشرنوبل حاليًا. أشار عدد محدود من الدراسات إلى وجود معدلات عالية من الطفرات الجينية، على غير المعتاد، في طيور سنونو المخازن2، وذباب الفاكهة3، في جوار المفاعل المدفون حاليًا تحت هيكل من الصلب والخرسانة.

غير أن التأثيرات الصحية للمستويات المنخفضة من الإشعاع ما زالت محل جدل ساخن، إذ تأتي أهمية مثل هذا الأمر من كون الناس يتعرضون لجرعات منخفضة من الإشعاع في كل الظروف والسياقات، منها الخضوع لمسوح طبية بعينها، أو أثناء العمل في محطات الطاقة النووية، حسب قول ديفيد برينير، اختصاصي الفيزياء الحيوية للإشعاع في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، الذي لم يشارك في البحث. ويضيف: "من الصعب اكتشاف تأثيراتِ مثل هذا المستوى من التعرض، لكن معرفته أمر مهم للغاية".

كان هذا من العوامل التي حمّست المؤلف المشارك في الدراسة تيموثي موسو، اختصاصي الإيكولوجيا التطورية في جامعة جنوب كارولينا في ولاية كولومبيا. انضم موسو إلى مهمة تطوعية في عام 2017 لتقديم الرعاية البيطرية لمئات الكلاب الضالة التي تعيش في المنطقة المحظورة، التي تحتل مساحة 2600 كيلومتر مربع حول محطة الطاقة، والتي تُقيد السلطات الأوكرانية الدخولَ إليها لدواعي الأمان.

وعلى مدار ثلاث سنوات من الرحلات إلى المنطقة، جمع موسو وزملاؤه عيناتِ دمٍ من حوالي 300 كلب يعيشون في محطة الطاقة وفي أنحاء مدينة تشرنوبل، المهجورة أكثر الوقت، بعد أن خدّر المتطوعون الحيوانات بسهام مهدِّئة.

وكشف تحليل الحمض النووي للكلاب أنها ليست جديدة على المنطقة. وبمقارنة سماتها الوراثية بتلك الخاصة بكلاب حرة التجول في شرق أوروبا، وجد الفريق البحثي أن الكلاب الموجودة في جوار محطة الطاقة – بعضها ذو صلة بسلالة كلاب الراعي – عُزلتْ عن مجموعات الكلاب الأخرى لعقود. واكتشف الباحثون أنه، على عكس مخاوف الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات من أن الكلاب سوف تهاجر وتنشر المواد المشعة، فإن أغلب هذه الحيوانات لم تذهب بعيدًا، فتلك التي تعيش على مقربة من المحطة مميَّزة جينيًا عن أقاربها التي تعيش على بعد كيلومترات قليلة.

إرث المواد المشعة

تقول أوستراندر: إن استمرار وجود الكلاب في المنطقة يثبت أنها كانت قادرة على الاستمرار على قيد الحياة والتكاثر رغم وجودها بالقرب من المفاعل، "وهو أمر مدهش". جدير بالذكر أن حادث عام 1986 ترك وراءه النظير المشع القاتل السيزيوم-137 عند مستويات أعلى بما يتراوح بين 10 و400 مرة في محيط محطة الطاقة، مقارنة بمدينة تشرنوبل، التي تقع على بعد 15 كيلومترًا فقط.

وتصف أوستراندر عينات الحمض النووي بأنها "قيّمة للغاية" لأن الكلاب تميل إلى مشاركة نفس المساحات التي يشغلها البشر وكذلك أنظمتهم الغذائية. وتتابع قائلة: "لم تتح لنا الفرصة من قبل لإجراء مثل هذا البحث على حيوانات تماثلنا كما هو الحال مع الكلاب".

وتنبه أوستراندر إلى أنه لن يكون من السهل تحديد أي من التغيرات الجينية في الكلاب سببها الإشعاع وأي منها نتيجة عوامل أخرى – مثل التزاوج بين الأقارب أو الملوثات غير المشعة. ويُقر الفريق البحثي بهذه التحديات، لكنّ الباحثين يرون أن المعرفة المفصلة بأسلاف هذه الكلاب، فضلًا عن مستويات الإشعاع التي تعرضتْ لها الكلاب تاريخيًا، "توفر مجموعة بحثية مثالية من أجل الدراسات المستقبلية".

في غضون ذلك، يخطط موسو لرحلة أخرى لجمع العينات في شهر يونيو القادم. ومع أن الحرب الدائرة في أوكرانيا لم توقف عمل الفريق، فإن انخفاض عدد السياح الذين يزورون المنطقة ويتركون بقايا الطعام، يُصعّب على كلاب تشرنوبل تدبير أمورها. ومن ثم يعمل الفريق مع المنظمات غير الحكومية لتوفير الطعام للكلاب الضالة، للحفاظ على حياة كلاب تشرنوبل – وإرثهم الإشعاعي – في أوقات الشدة القادمة.

  1. Spatola, G. J. et al. Sci. Adv. 9, eade2537 (2023). | article

  2. Ellegren, H., Lindgren, G., Primmer, C. & Møller, A. P. Nature 389, 593–596 (1997).

     | article
  3.   Hancock, S. et al. Environ. Res. 172, 333–337 (2019).

     | article