افتتاحيات
على الباحثين التكاتُف لمواجهة تفاقُم أزمة المياه
لا يزال ملايين الأفراد يعيشون تحت وطأة الفقر، ويعانون نقص إمدادات المياه الآمنة للشرب وخدمات الصرف الصحي الأساسية. في هذا الإطار، تسعى دورية «نيتشر ووتر» Nature Waterإلى مساعدة الباحثين على إيجاد مخرج من تلك الأزمة.
- Nature (2023)
- doi:10.1038/d41586-023-00182-2
- English article
- Published online:
يواجه العالم مجموعة من الكوارث والأزمات التي ضربته معًا في آن واحد، وأزمة المياه هي إحدى أشد تلك الأزمات إلحاحًا. ففي عام 2020، عانى نحو ملياري شخص حول العالم من نقص إمدادات المياه النظيفة الآمنة للشرب، في حين قُدِّر عدد الأفراد الذين افتقروا إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية في العام نفسه بـ1.7 مليار فرد. وكل عام، يلقى أكثر من 800 ألف شخص حتفهم بسبب الإسهال الناجم عن استهلاك مياه شرب غير آمنة وضعف مرافق الصرف الصحي. وتنتمي الغالبية من هؤلاء إلى بلدان منخفضة الدخل والشريحة الدنيا من البلدان متوسطة الدخل. وهي أوضاع غير مقبولة، تفوق احتمال أي شخص، لا سيما في عصر يشهد استثمارات ضخمة في مجالات مثل مكالمات الفيديو الفورية والطب الدقيق، ناهيك عن تطلعات العيش في كواكب أخرى.
وقد أعلن المجتمع الدولي عام 2015 معالجة أزمة المياه كسادس الأهداف على قائمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs). ويلزم هذا الهدف العالم بـ"ضمان توفير المياه وخدمات الصرف الصحي للجميع وإدارتها إدارة مستدامة". غير أن منظمة الأمم المتحدة تقر بأن الخطى على طريق تحقيق هذا الهدف "قد حادت عن المسار الصحيح إلى حدٍ مقلق".
على أن السياسات الدبلوماسية الدولية بدأت أخيرًا في اتخاذ تدابير جادة في هذا الإطار. فمن المزمع أن يجتمع قادة العالم شهر مارس القادم بولاية نيويورك الأمريكية من أجل حضور مؤتمر الأمم المتحدة للمياه لعام 2023. ويُرتقب أن تغدو هذه الفعالية أول مؤتمر يُعقد في هذا الصدد منذ قرابة نصف قرن؛ وتلك الحقيقة في حد ذاتها ينبغي أن تشعرنا جميعًا بالخزي.
وقد نشرت الأمم المتحدة شهر أكتوبر الماضي نتائج مُشاورات أجريت مع ممثلي عدد من الحكومات ومتخصصين وعدد من الأوساط المعنية حول أولويات المؤتمر، الذي بلغت نسبة المشاركين فيه من العاملين بمجالات التعليم والعلوم والتكنولوجيا نحو 12%. وساد إجماع خلاله على أن توفُر البيانات والأدلة، وفتح الباب أمام الوصول المفتوح للأبحاث، وتحسين إتاحة المعارف في هذا السياق (بما في ذلك معارف المجتمعات المحلية ومجتمعات السكان الأصليين)، هي خطوات لا غنى عنها للعودة إلى المسار الصحيح نحو تحقيق سادس أهداف التنمية المستدامة. وتعتزم الوفود المشاركة في مؤتمر شهر مارس بحث كيفية الاستفادة من جميع التقنيات المعتمدة والموارد المائية الراسخة، بما في ذلك المياه العذبة ومياه الأمطار، والمياه الجوفية المعالجة، ومياه البحار المحلاة، والطاقة المائية.
" السياسات الدبلوماسية الدولية بدأت أخيرًا في اتخاذ تدابير جادة في هذا الإطار"
وثمة فيض هائل من المعارف المتاحة بالفعل في هذا الشأن، تتنوع بين تقنيات مُعتمدة، وبدائل مبتكرة، وأبحاث ترصد حصيلة المجتمعات من معارف وممارسات من قرون مضت. وقد غُض الطرف عن دراسة تلك المعارف في الماضي، أو آل ما وُعي منها إلى النسيان. على سبيل المثال، ضخت منظمة الأمم المتحدة قبل عشرين عامًا استثمارات نحو أبحاث جوهرية رصدت نماذج من سبل البحث والابتكار التي استخدمتها المجتمعات التي تعاني شح المياه من أجل توفير الماء. وأبرزت هذه الأبحاث، على سبيل المثال، كيف يختزن سكان المناطق الجدباء بالصين الثلوج في أقبية في أثناء الشتاء ليذيبوها لاحقًا لاستخدامها في شهور الصيف.
وأحد المتطلبات الأساسية لمواجهة أزمة المياه هو جمع كل ما بلغنا بالفعل من تلك المعارف، والبناء عليها. لهذا السبب، أطلقت مجموعة دوريات «نيتشر بورتوفليو» Nature Portfolio دورية «نيتشر ووتر» Nature Water في التاسع عشر من يناير الماضي. ومن المزمع أن تُفسح هذه الدورية مجالًا لجميع الباحثين، في مجالات العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والهندسة، ليسهموا معًا بما لديهم من معارف ورؤى، وبمحصلة خبراتهم، من أجل إرشاد العالم إلى طرق تحقق المزيد من الاستدامة البيئية والإنصاف. وسيتضمن العدد الأول من الدورية أبحاثًا في العلوم الأساسية والتطبيقية والاجتماعية، إلى جانب مقالات رأي ومقالات تحليلية. وتتعهد فرقنا التحريرية بتيسير الوصول المفتوح إليها1.
كذلك تجدر الإشارة إلى أن بعض سبل المضي قدمًا في هذا الاتجاه واضحة بالفعل. على سبيل المثال، في دورية «نيتشر ووتر»، دامير بريجانوفيتش، من المعهد الدولي لهندسة البِنى التحتية والمرافق المائية والبيئية المختص بالتوعية المائية في مدينة دلفت بهولندا، يشير إلى إجراء كم هائل من الأبحاث حول بدائل أنظمة الصرف الصحي المعتمِدة على شبكات المجاري، وحول طرق التخلص الآمن من البراز والعوامل الممرضة غير النشطة دون مياه أو باستخدام القليل منها2. إذ ظهرت بدائل للمراحيض التي تعمل بالمياه ولشبكات المجاري المعتمدة على مواسير. كذلك يفيد الباحث رونجرونج شو، من الجامعة الجنوبية للعلوم والتقنية في شينجِن بالصين، وفريقه البحثي، بأن ثمة سبل لتوليد الطاقة المائية، في قارتي إفريقيا وآسيا على وجه الخصوص، لا تترتب عليها الآثار الاجتماعية والبيئية المعتادة3.
غير أن الأبحاث ليست الجانب الوحيد من المسألة. من هنا، يرغب ممثلو الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل في إعطاء أولوية لجمع التمويلات. وفي هذا السياق، صرحت حكومة جنوب إفريقيا، في استجابتها للمشاورات التي عقدتها الأمم المتحدة، أن التكلفة السنوية لتحقيق الأهداف المتعلقة بأزمة المياه والصرف الصحي على قائمة أهداف التنمية المستدامة تتراوح بين 2.3% و2.7% من إجمالي الناتج المحلى للدولة (أي ما يتراوح بين 7 مليار و7.6 مليار دولار سنويًّا). وفي هذا الإطار، فإن مشروع «اللجنة الدولية المعنية باقتصاديات المياه» Global Commission on the Economics of Water، الذي تترأسه كل من عالمة الاقتصاد ماريانا ماتزوكاتو وعالم المناخ يوهان روكستروم (بالتعاوُن مع آخرين)، يبشر بطرح "فكر حوكمة وإدارة اقتصادية جديد" قبل حلول موعد المؤتمر.
إشكالية النزاعات
من ناحية أخرى، أعربت الجهات التي تعتزم المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة القادم في شهر مارس المُقبِل عن رغبتها في وضع التعاون الدولي لحل إشكاليات المياه والصرف الصحي على رأس أولويات المؤتمر، لا سيما في عصر تحتدم فيه التوترات الجيوسياسية. وقد كتب إسماعيل سراج الدين، النائب السابق لرئيس البنك الدولي، في تصريح شهير له قبل أكثر من 25 عامًا، أن نزاعات القرن الحادي والعشرين ستدور حول الماء، لا النفط. ومن حسن حظنا أن هذا السيناريو لم يتجسد بمعالمه كافة بعد، وإن كان سراج الدين قد أفاد في تصريح لدورية Nature بأن العلاقات بين الدول التي تتشارك الموارد المائية تزداد سوءًا. فعلى سبيل المثال، تخوض مصر نزاعًا رسميًّا ضد إثيوبيا بسبب خطط الأخيرة لبناء سدود على ضفاف نهر النيل؛ وينطبق الوضع نفسه على الهند وباكستان فيما يتعلق بحوض نهر السند.
وقد نوَّه الوفد المصري في استجابته لدعوة منظمة الأمم المتحدة إلى المؤتمر أن معظم الشعوب تعتمد على موارد مائية مشتركة بين الدول، ولا توجد اتفاقيات رسمية تنظم استخدام غالبية تلك الموارد، ومن ذلك الاتفاقيات المُتعلقة بمشاركة البيانات، وهي تُعد بالغة الأهمية في هذا الإطار. من هنا، في دورية «نيتشر ووتر» تكتب ريا فيربيك، الباحثة من جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكيا، عن "الإدراك الصادم" الذي يتأتى من ملاحظة أن قاعدة بيانات مفتوحة مكرسة لمبحث تنقية المياه، أنشأت قبل أكثر من عام مضى، لم تتلق أي طلبات خارجية بطرح بياناتها4.
ويجب على الوفود المزمع أن تلتقي في مدينة نيويورك للمؤتمر أن تتقبل أن الرؤى التي تتبناها بلادها لن تتحقق قبل أن تتمكن جميع البلدان، بطريقة ما، من التوصُل إلى آلية للتعاون في خضم النزاعات والتوترات. وقد يساعد البحث العلمي في التأسيس للغة حوار سليمة، في جزء منها على أقل تقدير. لهذا السبب لا بد من أخذه في الاعتبار عند اتخاذ القرارات. ونعتزم في مجموعة دوريات «نيتشر بورتوفليو» الاضطلاع بدورنا على أكمل وجه في سبيل تحقيق تلك الغاية.