كتب وفنون
كيف أسهمتْ تطعيمات الجدري في توحيد الأمة الأمريكية في فجرها
شكَّلتْ مسؤوليةُ الحكومة عن الصحة العامة مفاهيمَ الحرية عند الأمة الأمريكية.
- Nature (2023)
- doi:10.1038/d41586-022-04334-8
- English article
- Published online:
مجموعة من الأشخاص يتلقون تطعيمات ضد الجدري في نيويورك خلال الوباء الذي انتشر في عام 1872.
Credit: Science History Images/Alamy
«عدوى الحرية: سياسة الجدري في الثورة الأمريكية»
أندرو إم. ويرمان
مطبعة جامعة جونز هوبكنز (2022)
بعد عناء طويل، اقتنع أخيرًا الأطباء في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية أثناء عشرينيات القرن الثامن عشر، بأن أونيسيموس، وهو أحد العبيد السود، ربما حمل في جعبته سر التصدي لوباء الجدري الذي كان على أعتاب المدينة حينذاك. فمع تزايد أعداد الحالات المصابة، وعدم توافر أي خيارات أخرى، قرر أحد الأطباء في نهاية المطاف أن يغامر ويلجأ إلى حل أونيسيموس.
كان أونيسيموس قد أخبر سيده كيف أن الناس في إفريقيا كانوا يأخذون موادَ من بثور شخص مصاب بالمرض، ثم يغرسونها تحت جلد أشخاص آخرين لحمايتهم. كانت تلك الممارسة، التي أطلق عليها التَجدير فيما بعد، شائعةً في بعض أنحاء العالم لقرون، بيد أنها لم تلق قبولًا واسعًا عند الأوروبيين.
عثر سيد أونيسيموس على طبيب في بوسطن على استعداد لتجربة تلك الطريقة، وما كانت النتيجةُ سوى خطوة مبكرة على طريق انتشار ممارسات التلقيح على نطاق واسع، وتدشينًا لمفهوم تحمّل الحكومات مسؤولية حماية المجتمعات من الأمراض المعدية.
في كتابه «عدوى الحرية» The Contagion of Liberty، يتتبع المؤرخ أندرو ويرمان الطريق الذي سلكتْه حركة التلقيح ضد مرض الجدري، والآثار الناتجة عن تلك الحركة على عالم السياسة، أثناء حرب الاستقلال الأمريكية، وهي مساحة لطالما تعرضتْ للتجاهل بصورة عامة. ووجهة النظر التي يطرحها ويرمان في كتابه هي أن مرض الجدري أثرَ بشكل بالغ في رحلة الشعب الأمريكي لنيل الاستقلال من الحكم البريطاني، مثلما أثر على كيفية تصور المواطنين الأمريكيين لمساحات الحرية الجديدة التي حصلوا عليها بشق الأنفس.
إنها قصة تحمل صلة مذهلة بواقعنا اليوم.
اهتمام مثير للجدل
كان تفشي الجدري في المستعمرات الأمريكية أمرًا متكرر الحدوث، بيد أن حالة من الجدل صاحبت التطعيمات منذ ظهورها؛ إذ انطوت عملية التطعيم على تلقي الأشخاص لكميات صغيرة من فيروس حي، ما كان يتسبب في حدوث عدوى أخف من العدوى الطبيعية في كثير من الأحيان، بغرض توفير وقاية من المرض الذي قد يأتي في المستقبل.
حملت تلك العملية في طياتها احتمالية ضئيلة، وإن كانت بالغة الخطورة، في الإصابة بالعجز أو الندوب أو الوفاة. وكذلك فقد كان الأشخاص الذين تلقوا تطعيماتهم حديثًا يمثلون درجة من الخطر على جيرانهم من غير المُحصَّنين، إذ بقيت احتمالية أن تُسبب عملية التطعيم نفسها حالةً من انتشار الأوبئة، إذا لم يرافقها إجراءاتٌ صارمة ومشددة تتعلق بإجراءات الحجر الصحي واحتواء المرضى.
هكذا، كانت تلك العملية في جوهرها شأنًا عامًا. ومع تأجج الخطاب الثوري واحتدامه، تعاقب على تلك المستعمرات سلسلة من حالات تفشي مرض الجدري، واتخذتْ كل مدينة من مدن تلك المستعمرات تدابيرها الخاصة لمواجهة الوباء. ويروي ويرمان باستفاضة مفرطة إجراءات النقاش والتصويت التي كانت تدور في عدد من المدن الصغيرة، في وقت خاض فيه المواطنون صراعات حول السماح بتلقي التطعيمات، ومتى ينبغي أن يحدث ذلك، ومن الذي يجب أن يتلقاها، وكيف تُعطى. وفي بعض الأحيان، كان يصعب التنبؤ بمسار تلك النقاشات.
في نهاية المطاف، تتضح للقارئ وجهة النظر التي يحاول ويرمان طرحها. فرغم اندلاع أعمال شغب بشأن الحصول على التطعيمات، وحدوث مشاحنات بين العامَّة حول كيفية إجراء عمليات التطعيم، سرعان ما نُحيَّتْ تلك الخلافات جانبًا أمام حالة الإجماع التي أعقبتْ خروج الأمة الوليدة من الحرب، وهو إجماع على أن تطعيم المواطنين ضد الجدري ينقذ أرواحهم، وأنه يجب على الحكومة الجديدة في البلاد أن تضمن توفير تلك التطعيمات. وبالمثل خاضت المجتمعات المحلية نقاشات واسعة حول التطعيمات الوقائية، التي تُعطَى على نحو ممنهج لجميع الأطفال، بدلًا من انتظار تفشي المرض. كما ثارتْ نقاشات بشأن محاولة القضاء على الجدري من الأصل.
في ذلك الوقت كانت أمريكا دولة حديثة العهد، وأحد الجوانب التي تدعم وحدتها هو التزامها بتقديم الرعاية الصحية للمواطنين.
وحدث بعد ذلك أن ذلك الالتزام انزوى؛ فبحلول عام 1800، كان أحد اللقاحات قد ظهر بالفعل، واحتوى على فيروس جدري البقر، ذي الصلة بالجدري، ومن ثمَّ أمكنه تحفيز مناعة ضد الجدري، دون الانتقال بين البشر، وهكذا زال خطر خلق حاضنة للمرض وتفشيه. وفجأة، لم يعد إعطاء اللقاح يمثل خطرًا مجتمعيًا، ولذلك السبب، لم يعد توزيع اللقاح ملهمًا لأفكار الحراك الاجتماعي.
وفي ظل حالة من تفشي المعلومات الخاطئة والمضللة، والمصالح التجارية المتنافسة، والجمهور المُنهك نتيجةً لإصابات الجدري، تعثرتْ جهود إطلاق حملات التطعيم (ألا يبدو هذا مألوفًا؟). واستمرتْ حالات تفشي المرض، وإن كان معدل حدوثها أبطأ كثيرًا مقارنة بذي قبل، ثم تخلفت الولايات المتحدة، التي كانت يومًا تفخر بريادتها لعمليات التلقيح ضد الجدري، عن نظيراتها من الدول في أوروبا وخارجها. ويستعرض ويرمان هذا الجزء من قصته في عجالة، بيد أنه بعد السنوات الثلاث التي مررنا نحن بها، فقد أصبح كل هذا مألوفًا لدرجة لم يعد يهم معها سرد مزيد من التفاصيل.
وبالانتقال إلى عام 2020، نجد أن متوسط عمر الأفراد المتوقع في الولايات المتحدة كان أقل بحوالي خمس سنوات منه في البلدان المماثلة لها من الناحية الاقتصادية. واصطبغت المعلومات الخاطئة عن اللقاحات بطابع سياسي على حساب الصحة العامة. ومن خلال تطوير لقاحات معتمدة على الحمض النووي الريبي المرسال لمواجهة «كوفيد-19»، قفزت الولايات المتحدة مرة أخرى إلى الصدارة في مجال الابتكار، بيد أنها تراجعتْ من جديد وراء العديد من البلدان، من بينها بعض الدول ذات الموارد الأقل، في مسألة نشر تلك اللقاحات وتوزيعها على العامة بالفعل.
يستحيل علينا كذلك أن نغفل أصول النقاشات التي نخوضها في الوقت الحاضر، حول حقوق براءات الاختراع والأدوية الأساسية التي تمتد إلى أوائل عام 1800، عندما استورد الطبيب بنجامين ووترهاوس عينة من جدري البقر لاستخدامها لقاحًا، ثم سعى بعد ذلك إلى أن يفرض شكلًا من أشكال الاحتكار على توزيع هذا اللقاح. وعندما حاول آخرون توفير اللقاحات وزيادة كمياتها عن طريق جمع الصديد من قروح الأبقار المصابة بالجدري، اتهمهم ووترهاوس بحرمان "المكتشف أو راعي هذا الاكتشاف من مكافأته المستحقة".
يبرهن ويرمان في كتابه على أن نجاح أمريكا المبكر في التحصين ضد الجدري قد مُحي من صفحات التاريخ. ويرى أنه مع دخول القطاع الخاص وسيطرته على عمليات التطعيم، فقد اختفى مفهوم الواجب المدني لحماية الصحة العامة، وحلتْ محله فكرة الإصابة بالمرض نتيجةً لإهمال الفرد الشخصي، كما زادت الشكوك حول الإجراءات المرتبطة بالصحة العامة.
لكن الدرس الأشمل ربما يتلخص في أن التقدم الذي يتحقق بشق الأنفس لا يمكن أن يمثل نهاية القصة على الإطلاق، فبدون التزام اليقظة والانتباه بصفة مستمرة، يمكن لمجهودٍ استغرق تحقيقُه عقودًا من النضال أن يضيع في شهور قليلة. ولذلك يشدد ويرمان على أن المساواة في قطاع الصحة "تتطلب جهدًا عامًا شاملًا ومتواصلًا".