أخبار

كيف فجَّر «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» ثورة في علم الفلك عام 2022؟

أتاح «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» رؤى كاشفة في مجرة درب التبانة، ومناطق أخرى في أقاصي الفضاء.

ألكسندرا ويتزي

  • Published online:
صورة لجزء من مجرة «وولف-لوندمارك-ميلوت» القزمة، في أرصاد «تلسكوب جيمس ويب الفلكي».

صورة لجزء من مجرة «وولف-لوندمارك-ميلوت» القزمة، في أرصاد «تلسكوب جيمس ويب الفلكي».

Credit: Science: NASA, ESA, CSA, Kristen McQuinn (RU), Image Processing: Zolt G. Levay (STScI)

عندما عرضت إيما كيرتيس-ليك شرائح العرض التقديمي لمحاضرتها على الشاشة، أخذت حشود الحاضرين في القاعة تتمتم، ثم شهقت من فرط الانبهار. وصاح أحد الحاضرين فجأة قائلًا: "مذهل!".

كانت كيرتس-ليك، باحثة علم الفلك من جامعة هيرتفوردشاير في بلدة هاتفيلد بالمملكة المتحدة، تعرض آنذاك بعضًا من أولى النتائج التي توصل إليها تلسكوب «جيمس ويب الفلكي» (JWST) التابع لوكالة «ناسا» عن مجرات بعيدة. وفي هذه الندوة التي عُقدت من الثاني عشر إلى الخامس عشر من ديسمبر عام 2022 في معهد علوم تلسكوبات الفضاء في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، لم تكن تلك المرة الأخيرة التي تسري فيها تمتمة بين علماء الفلك، وقد غمرهم الحماس وهم يطالعون أولى اكتشافات التلسكوب، بأعين اتسعت على آخرها.

إذ استطاع التلسكوب في غضون بضعة أشهر فقط من بداية عملياته العلمية، أن يُقدم رؤًى مذهلة عن العديد من الأجرام السماوية، بدءًا من بعض كواكب مجموعتنا الشمسية إلى نجوم في بقاع أخرى من الكون (طالع الشكل "أفضل صور تلسكوب جيمس ويب الفلكي" والرابط التالي: go.nature.com/3fmjgbs). وقد أشعلت هذه الاكتشافات حماس الباحثين لتحقيق استفادة أكبر من إمكانات التلسكوب. من هنا، يعكف عدد من العلماء اليوم على صياغة مقترحات للعمليات التي ينبغي أن يجريها التلسكوب في عامه الثاني، مع تدافعهم لجني تمويلات، وتجادلهم بشأن ما إذا كانت بيانات التلسكوب ينبغي نشرها بموجب سياسة وصول مفتوح.

إطلاق عصيب

أطلقت وكالة «ناسا» «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» في الخامس والعشرين من ديسمبر عام  2021، بعد تأخير بدء عمله للفترة الأطول على الإطلاق بين أدوات الرصد الفلكية. وهو المرصد الأعلى تكلفة والأكثر تطورًا وتعقيدًا في تصميمه. وقد حبس علماء الفلك أنفاسهم وهُم يتابعون عملية إطلاقه، التي تكلفت 10 مليارات دولار، حتى وصوله إلى النقطة المحددة لمهمته في الفضاء السحيق عبر عملية هندسية معقدة استغرقت ستة أشهر، كانت مُعرضة لمئات الإخفاقات المحتملة التي أمكن أن تلحق بالتلكسوب ضررًا جسيمًا.

لكنه يزاول مهامه اليوم كما ينبغي، بل على نحو مذهل. عن ذلك، تقول لورا كريدبرج، باحثة علم الفلك من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك في مدينة هايدلبرج الألمانية: "أشعر بأنني محظوظة للغاية لأنه أُتيح لي أن أشهد كعالمة، فتح الأبواب أمام استخدام هذا التلسكوب المدهش".

"شعرنا عند مطالعة بيانات التلسكوب أن جميع الإجابات لاحت لنا"

كانت بداية الغيث في شهر يوليو من عام 2022 مع صدور فيض من المسودات البحثية عن المراحل الأولى من تطوُر المجرات بالاستعانة بنتائج أرصاد التلسكوب. إذ إن التمدد الكوني كان قد أسفر عن امتداد الطول الموجي لضوء المجرات البعيدة ليبلغ نطاق الأشعة تحت الحمراء، وهي الأشعة التي صُمم «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» لرصد أطوالها. ويسمح هذا للتلسكوب برصد المجرات البعيدة، ومن بينها عدة مجرات نائية في أعماق سحيقة من الفضاء، تبدو بالصورة ذاتها التي كانت عليها في فترة تتراوح من 350 و400 مليون عام عقب الانفجار العظيم الموغل في القدم، والذي يعود إلى 13.8 مليار سنة مضت.

وقد تبيَّن أنَّ عديدًا من أولى المجرات التي اكتشفها التلسكوب كانت أشد سطوعًا، وأكثر تنوعًا وأعقد تكوينًا مما توقع علماء الفلك. حول ذلك، يقول ستيفن فينكلشتاين الباحث في علم الفلك من جامعة تكساس بمدينة أوستن الأمريكية: "يبدو أنَّ الكون المبكر برع براعة كبيرة في صُنع المجرات".

وصحيح أنَّ بعض هذه النتائج الأولية يجري تنقيحه باستمرار مع تحسُّن عمليات التحقق من صحة البيانات، وأنَّ عديدًا من أولى الفرضيات المستقاة من أرصاد التلسكوب للمجرات البعيدة ما زالت تنتظر تأكيدها وإثباتها بإجراء دراسات تحليل طيفي للضوء الصادر عن هذه المجرات، لكنَّ بعض علماء الفلك، ومن بينهم كيرتيس-ليك، أعلنوا في التاسع من ديسمبر الماضي نجاحهم بالفعل في تأكيدٍ دقة نتائج دراسات التحليل الطيفي التي أُجريت باستخدام التلسكوب لمجرتين أبعد كثيرًا من أي ما تأكد اكتشافه من قبل من المجرات. 

دقة تفاصيل "مبهرة"

أمَّا فيما يتعلق بالأجزاء الأقرب إلينا من الكون، فقد أخذ «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» في الخروج بنتائج عن تَكوُّن النجوم وتطورها، بفضل استبانته القوية، وقدرته على رصد الأشعة تحت الحمراء. وفي هذا السياق، تقول لمياء مولى، باحثة علم الفلك من جامعة تورنتو في كندا: "مُقارنةً بما نستطيع رصده من خلال تلسكوب «هابل»  Hubble، فإنَّ كمية تفاصيل الكون التي نرصدها (باستخدام «تلسكوب جيمس ويب الفلكي») مبهرة إلى أقصى حد". فبمساعدة أرصاد التلسكوب الثاقبة، استطاعت مولى وفريقها البحثي رصد مواضع "تلألؤ" ساطعة حول مجرة أطلقوا اسم «سباركلر» Sparkler، وتبيَّن أن مواضع التلألؤ تلك تحوي بعضًا من أقدم العناقيد النجمية التي اكتشفت على الإطلاق. فيما كشفت دراسات أخرى عن تفاصيل دقيقة لمناطق كالمراكز المجرِّية التي تكمن فيها ثقوب سوداء فائقة الضخامة.

كذلك فجَّر التلسكوب اكتشافات أخرى، انبثقت عن دراسات للأغلفة الجوية للكواكب خارج مجموعتنا الشمسية، وهي أغلفة يستطيع التلسكوب دراستها بمستوًى غير مسبوق من الدقة.

على سبيل المثال، عندما طالع العلماء أولى البيانات التي خرج بها «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» لكوكب WASP-39b الواقع خارج مجموعتنا الشمسية، برزت على نحو جلي إشارات على وجود مجموعةٍ من المُركَّبات بالكوكب، مثل الماء. في ذلك الصدد، تقول مرسيدس لوبيز-مورالِس، باحثة علم الفلك من مركز هارفارد وسميثسونيان للفيزياء الفلكية في كامبريدج بولاية ماساتشوستس: "شعرنا عند مطالعة بيانات التلسكوب أن جميع الإجابات لاحت لنا". واليوم، يترقب العلماء بفارغ اللهفة بيانات عن كواكب أخرى، من بينها العوالم السبعة التي يُشبه حجمها حجم كوكب الأرض، وتدور حول النجم Trappist-1. وتشير أولى النتائج التي وردت عن اثنين من الكواكب التي تسلك مدارات حول هذا النجم، والتي أعلِنَ اكتشافها في الندوة سالفة الذكر، إلى أن «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» قادرٌ تمامًا على اكتشاف أغلفة جوية بتلك الكواكب، وإنَّ كان تحليل نتائج أرصاده من المتوقع أن يستغرق مزيدًا من الوقت.  

فوق ذلك، نجح «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» في اكتشاف كواكب جديدة للمرة الأولى؛ إذ عثر على كوكب صخري يضاهي حجمه الأرض، ويدور حول نجم بارد قريب، حسبما أشار في الندوة كيفن ستيفنسون، الباحث من مختبر الفيزياء التطبيقية في جامعة جون هوبكنز في لوريل بولاية ميريلاند الأمريكية.

كذلك أثبت التلسكوب أهميته لدراسة الأجرام المجاورة لكوكب الأرض. ففي الندوة، عرض جيرونيمو فيلانويفا، باحث علم الفلك من مركز جودارد لرحلات الفضاء التابع لوكالة ناسا في مدبنة جرينبلت بولاية ميريلاند الأمريكية، صورًا جديدة لقمر «إنسيلادوس» Enceladus التابع لكوكب زحل. وصحيح أنَّ العلماء وعوا إلى أن أنَّ قمر «إنسيلادوس» يحتضن في باطنه محيطًا مدفونًا، تتدفق مياهه خارجةً أحيانًا من صدوع قشرته الجليدية، إلا أن «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» أثبت أنَّ نفثات أعمدة الماء تلك تغلف الكوكب كله وتمتد إلى أبعد من ذلك. وفي مساع منفصلة، توصل فريق من المهندسين أيضًا إلى آلية تمكن «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» من تتبع أجسام سريعة الحركة، مثل كواكب المجموعة الشمسية، بدقةٍ أفضل كثيرًا مما توقعه العلماء سابقًا. وقد أسفر ذلك عن دراسات بالغة الأهمية، مثل تلك التي رصدت الاصطدام المتعمَّد بين مركبة «دارت» الفضائية وأحد الكويكبات في سبتمبر عام 2022، حسبما تشير نعومي رو-جيرني باحثة علم الفلك التي تعمل بدورها في مركز جودارد.  

لكنَّ كل هذه الاكتشافات مجرد غيضٍ من فيضِ من الثمار والمكاسب التي قد يحققها «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» في نهاية المطاف لتغييره علم الفلك تغييرًا جذريًّا. ففي ذلك الصدد، يقول كلاوس بونتوبيدان، العالم المشارك في مشروع «تلسكوب جيمس ويب الفلكي» من معهد مراصد علوم الفضاء: "من السابق لأوانه أن يصبح لدينا تصور كامل للأثر النهائي للتلسكوب". فقد بدأ الباحثون للتو يستكشفون قدرات «تلسكوب جيمس ويب الفلكي»، مثل قدرته على سبر عدد من أدق خصائص أطياف الضوء المنبعثة من الأجرام الفلكية.

وتجدر الإشارة إلى أنَّه اليوم صار التقدم بمقترحات لدراسات رصدية يجريها التلسكوب مفتوحًا أمام العلماء خلال السنة الثانية من شروع التلسكوب في مهامه، والتي تبدأ في يوليو المقبِل. تعقيبًا على ذلك، يقول بونتوبيدان إنَّ الجولة التالية من فتح باب التقدم بهذه المقترحات يمكن أن تسفر عن الخروج بمقترحات أكثر طموحًا أو إبداعًا تسخر إمكانات التلسكوب التي بات علماء الفلك اليوم يدركونها.

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit, sed do eiusmod tempor incididunt ut labore et             dolore magna aliqua.
كبر الصورة

لكن في خضم كل هذه الأخبار السارة، ما زالت هناك عقبات؛ أبرزها نقص التمويل اللازم لدعم العلماء الذين يستخدمون بيانات التلسكوب، بحسب ما أدلت به لوبيز-مورالِس، التي تقول: "نستطيع أداء المهام العلمية، ولدينا المهارات، ونبتكر الأدوات، كما أننا بصدد اكتشافات رائدة، لكن لا تُتاح لنا إلا ميزانية هزيلة للغاية، وهذا ليس الوضع الأمثل حاليًا".  

هل الثمار متاحة للجميع؟

ترأس لوبيز-مورالِس لجنةً تُمثِّل علماء الفلك الذين يستخدمون «تلسكوب جيمس ويب الفلكي»، وقائمة المهام التي ينبغي أن تنجزها اللجنة طويلة. إذ تتضمن استطلاع آراء العلماء بشأن ما إذا كانت تنبغي إتاحة كل بيانات التلسكوب بالمجان فور جمعها؛ وهي خطوة يرى كثيرون أنها ستضر بالباحثين ممن في مقتبل مشوارهم المهني، ومن يعملون في مؤسسات بحثية صغيرة، ولا يملكون الموارد اللازمة لتحليل بيانات التلسكوب فورًا. كذلك تعمل الجهات القائمة على تشغيل التلسكوب على التوصل إلى تقنية لنقل بياناتها بكفاءة أكبر إلى الأرض، من خلال أطباق اتصالات، وتسيير التلسكوب في اتجاه يقلل خطر اصطدام النيازك الدقيقة بمرآته الأساسية وإتلافها.

لكن في المجمل، يفتح التلسكوب آفاقًا جديدة تمامًا في علم الفلك، حسبما تقول رو-جيرني، التي أضافت: "هذا التلسكوب هو ما سيتيح الحل لكل الألغاز التي سعيت إلى معرفة إجاباتها في أطروحتي للدكتوراه".