افتتاحيات

في غياب قيادة عالمية.. خطر الفشل يحوم حول قمة الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي

مع افتتاح مؤتمر الأمم المتحدة الخامس عشر للتنوع البيولوجي «كوب 15»، يبدو جليًّا ألا بديل عن بذل مزيدٍ من الجهود من أجل حماية الطبيعة.. هذا في الوقت الذي نشهد فيه غياب التمويل والدعم رفيع المستوى.

  • Published online:

"فبالنظر إلى الأهداف العشرين للعقد بشأن حماية الطبيعة الموضوعة في 2010، لم يتحقق أيًا منها بحلول عام 2020"

يُعد «اتفاق باريس للمناخ»، الذي وُقِّع في شهر ديسمبر من عام 2015، إحدى أهم المعاهدات الدولية التي جرى التفاوض عليها، حيث وضعت هدفًا جوهريًّا للحد من الاحترار العالمي بحيث لا يتجاوز 1.5 درجة إلى درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل عصر التصنيع. في ذلك الحين، سجَّلت مراسم افتتاح المؤتمر الحادي والعشرين لأطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيُّر المناخ، الذي يُشار إليه اختصارًا بمؤتمر «كوب 21« COP21 – وهو الذي تمخَّض عنه هذا الاتفاق – سجَّلَتْ رقمًا قياسيًا من حيث عدد الحضور من زعماء العالم في فعالية للأمم المتحدة في يومٍ واحد؛ إذ تجاوز عددهم 150 زعيمًا. وأكبر الظن أن هذين الأمرَيْن لم يقعا بمحض الصدفة.

والآن، تصبو قمة التنوع البيولوجي إلى تحقيق نجاحٍ يضاهي النجاح الذي أصابه اتفاق باريس التاريخي. سوف تنطلق فعاليات مؤتمر »كوب 15«، الذي طال انتظاره، في السابع من ديسمبر 2022 في مدينة مونتريال الكندية، على أمل الخروج باتفاق دولي جديد وجريء يُلزِم الدول بأهداف محددة للحد من انقراض الأنواع، وحماية الطبيعة، وإصلاح ما فَسَد منها.

ثمة عوامل عدَّة تأتلف معًا لتُبَلِّغ رسالةً مفادها أنَّ الوقت قد حان؛ كيف لا وقد باتت مشكلة فقدان التنوع البيولوجي الآن أشدَّ استفحالًا من أي وقتٍ مضى. فكما أوضحت عالمة الأنظمة الإيكولوجية ساندرا دياز في مقالها الذي كتبته بمجلة Nature الأسبوع الماضي، جمع الباحثون أقوى قاعدة أدلة قبيل انعقاد قمة »كوب 15« (S. Díaz Nature 612, 9;2022). وهناك مبادرات، منها «مراجعة داسجوبتا» Dasgupta Review الصادرة بموجب تكليف من الحكومة البريطانية، أوضحت أن حماية التنوع البيولوجي ضرورة اقتصادية قصوى (انظر: go.nature.com/2om5hho).

"فبالنظر إلى الأهداف العشرين للعقد بشأن حماية الطبيعة الموضوعة في 2010، لم يتحقق أيًا منها بحلول عام 2020"

والملاحَظ أيضًا أن هناك وعيًا عامًّا متزايدًا بمخاطر التلوث وتدمير البيئة على صحة النظم الإيكولوجية، التي نعتمد عليها في الحصول على الغذاء والمياه النظيفة والوقاية من الأمراض. كما أصبحت هناك درجة أعلى من الاستيعاب للدور المحوري الذي تلعبه الطبيعة في التخفيف من حدة تغير المناخ، وذلك من خلال تخزين الكربون في التربة والأشجار على سبيل المثال، فضلًا عن مساعدتنا على التكيف مع آثارها. وقد رأينا كيف أن غابات المانجروف، على سبيل المثال، فعالة بشكلٍ كبير في إيقاف تدفقات مياه البحر الناجمة عن أمواج تسونامي، وارتفاع منسوب سطح البحر.

أما عندما يتعلق الأمر بإعطاء دَفعةٍ للمفاوضات المتعثرة، فهي مسألة ينقصها حاليًا حجم الدعم الذي قدمه قادة العالم للمفاوضات التي أفضت إلى إبرام «اتفاق باريس للمناخ».

ما أحوجنا إلى التغيير، اليوم وليس غدًا؛ فالطبيعة على شفا الانهيار. وعند النظر إلى أهداف العقد الثاني من هذا القرن بشأن حماية الطبيعة، وهي الأهداف الموضوعة في مدينة آيتشي اليابانية في عام 2010، نجد أن أيًا من هذه الأهداف – وعددها عشرون هدفًا – لم يتحقق بحلول عام 2020. فإذا أُضيف إلى هذا نقص التمويل، وعدم احترام حقوق الشعوب الأصلية التي تحرس جزءًا كبيرًا من التنوع البيولوجي المتبقي في هذا العالم، تكون محصلة ذلك كله أن مزيدًا من الأنواع معرضة لخطر الانقراض أكثر من أي وقتٍ مضى. والآثار الخطيرة لفقدان التنوع البيولوجي على ثروة البشر وصحتهم تتعاظم يومًا بعد يوم. وعلى الرغم من كل هذا، فعلى مدار الأعوام الثلاثة الماضية، لم تُسفر أربع جولات من المفاوضات المضنية، التي سَعَتْ للتوصل إلى إطار لوضع أهداف بديلة لأهداف آيتشي، عن أية نتائج. وهكذا، تظل المئات من القضايا عالقةً بلا حل.

يشعر العديد من الخبراء بخيبة أملٍ إزاء ما حدث في قمة المناخ السابعة والعشرين »كوب 27« COP27، التي احتضنَتْها الشهر الماضي مدينة شرم الشيخ المصرية، إذ لم يُحرَز سوى تقدُّم محدود؛ ما يجعلهم أقلَّ تفاؤلًا بما يمكن أن تتمخض عنه قمة التنوع البيولوجي. ولكن هناك أيضًا من الأسباب ما يدعونا للتمسك بالأمل؛ فقد انجلَتْ قمة »كوب 27« عن إنشاء صندوق "الخسائر والأضرار"، بُغية تعويض الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط عن الأضرار الناجمة عن التغير المناخي، وهو أمرٌ إنْ دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على أن الدول الغنية لم تغلق باب المحادثات بشأن قضية التمويل، وهي القضية التي طالما وقفَتْ حجرَ عثرةٍ في طريق مفاوضات التنوع البيولوجي.

ليس سرًّا أن التمويل العالمي المخصص لحماية التنوع البيولوجي جدُّ فقير. فوفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، المنشورة الأسبوع الماضي، بلغ حجم التدفقات المالية السنوية لتمويل "الحلول القائمة على الطبيعة" 154 مليار دولار، وذلك من جميع المصادر بما في ذلك الإعانات الحكومية والاستثمارات الخاصة، وهو مبلغ ترى الأمم المتحدة ضرورة زيادته بنحو ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030. ترغب العديد من الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط – وهي الدول التي تحتضن قسمًا كبيرًا من التنوع البيولوجي المتبقي في العالم – في أن تضخَّ الدول الغنية تمويلًا جديدًا في صندوق جديد متعدد الأطراف. ومن بين الخيارات المطروحة في هذا الصدد، أن يُعنَى هذا الصندوق بتعويض الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط عن فقدان التنوع البيولوجي وغيرها من الأضرار المرتبطة باستهلاك الدول الغنية للمنتجات المتداوَلة عبرة شبكة التجارة الدولية.

وثمة تحدٍّ رئيسٌ ثانٍ، يتمثل في كيفية تقاسم المنفعة المرتبطة بمعلومات التسلسل الجيني الرقمي، وهي البيانات الوراثية التي تُجمَع من النباتات والحيوانات وغيرها من الكائنات، بصورة عادلة ومنصفة. فأهالي المناطق الغنية بيولوجيًا، التي تُجمَع منها المعلومات الوراثية، ليس لها يد تقريبًا في أنشطة الاستثمار التجاري لهذه المعلومات. ومن ثم، فلا تعود عليها هذه الأنشطة بأية أرباح مالية، أو بغير ذلك من أوجُه النفع. ولما كان الأمر كذلك، فإن صندوقًا متعدد الأغراض للتنوع البيولوجي يمكن أن يكون طريقًا بسيطًا وفعَّالًا لتقاسم منافع هذه المعلومات، وتلبية الاحتياجات الأخرى لحفظ الطبيعة في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط.

وسببٌ آخرُ يبعثُ على الأمل في إحراز تقدُّم كبير، هو التغير المُرتقَب في قيادة البرازيل. كانت منظمات حماية البيئة، ومنها» الصندوق العالمي للطبيعة« (WWF)، قد اتهمت البرازيل، وهي الدولة صاحبة النصيب الأكبر من التنوع البيولوجي في العالم، بعرقلة المفاوضات السابقة عمدًا؛ وهو الأمر الذي أدى إلى تعطيل الاتفاق على أهداف هامة، مثل حماية ما لا يقل عن 30% من أراضي العالم وبحاره بحلول عام 2030. لكن الرئيس البرازيلي القادم، لويز إيناسيو لولا دا سيلفا، شدَّد على أن البيئة تأتي في طليعة أولوياته. صحيحٌ أنه لن يتولى مقاليد السلطة رسميًا قبل يناير 2023، إلا أن التوقعات تذهب إلى أنه سيرسل إلى مونتريال فريقًا من المفاوضين إبان هذه المرحلة الانتقالية.

سوف تكون أمام جميع المفاوضين مهمة شاقة حتى يصلوا إلى اتفاق في مؤتمر »كوب 15«، في ظل وجود عديدٍ من القضايا العالقة والمتنازَع عليها. وفي وقتٍ كهذا، تشتدُّ حاجتنا – أولًا وقبل أي شيءٍ آخر – إلى قيادة عالمية، تُمكِّن المفاوضين الممثِّلين لبلدانهم من الوصول إلى اتفاق قوي، يتضمن إنشاء صندوقٍ جديدٍ ما تَنْصَبُّ أهدافه على حماية التنوع البيولوجي. وقد وقَّع ما ينيف على 90 رئيسًا ورئيس حكومة على تعهدٍ لمعالجة الأزمة التي تواجه الطبيعة. وفي أثناء كتابة هذا المقال، أكد جاستن ترودو، رئيس وزراء الدولة المُضيفة، أنه سيحضر شخصيًا.

التغيُّب عن هذا المؤتمر سوف يبعث رسائل خاطئة. صحيحٌ أيضًا أنه حتى وقت كتابة هذه السطور، لم توجّه كندا (التي تستضيف المؤتمر) أو الصين (رئيسة المؤتمر) دعواتٍ رسمية، إلا أنه قد جَرَت العادة على أن يحضر القادة بصفةٍ دورية مؤتمر أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيُر المناخي في دوراته المختلفة على مدى أكثر من عشر سنوات. وهذا إنْ لم يعنِ التنفيذ الفعلي لاتفاقيات المناخ، فإنه على الأقل يعكس حجم الطموح الذي يُنظر به إلى هذه الاتفاقيات. ولمَّا كان الأمر كذلك، فحريٌّ بالأوساط البحثية والمجتمع المدني مواصلة الضغط على القادة للمشاركة بالقوة نفسها في الفعاليات التي تركِّز على التنوع البيولوجي. وإذا لم يتحقق ذلك، فسوف يُضيِّع العالم على نفسه فرصة التوصل لاتفاقٍ طَموحٍ تشتد حاجة الطبيعة – والإنسانية – إليه.