تحقيق إخباري

شخصيات العام من «نيتشر»: عشرة أسماء أسهمت في رسم ملامح المشهد العلمي في 2022

جين ريجبي، ويونلونج تشاو، وسليم الحق، وسفيتلانا كراكوفسكا، وديمي أوجوينا، وليزا ماكّوركيل، وديانا جرين فوستر، وأنطونيو جوتيريش، ومحمد محيي الدين، وألوندرا نيلسون

  • Published online:

 

تبرز قائمة «شخصيات العام»، التي تعدُّها دورية Nature، أهم التطورات في مجال العلوم هذا العام، وعشرة أسماء لعبت أدوارًا بالغة الأهمية في تلك المراحل الحاسمة. بمعاونة زملائهم، ساهم هؤلاء العلماء في صنع اكتشافات رائعة، كما سلطوا الضوء على الكثير من القضايا الحساسة. ولا تمثل هذه القائمة جائزة أو تصنيفًا للفائزين، إذ إنها من اختيار محرري الدورية، وليس لها من هدفٍ سوى تسليط الضوء على أهم التطورات العلمية من خلال قصص ملهمة يرويها أبطالها.

 

Credit: Stephen Voss for Nature

جين ريجبي: كاشفة السماء

عالمة الفلك التي لعبت دورًا محوريًا في رحلة «تلسكوب جيمس ويب»، وصولًا إلى الفضاء، والتأكد من أنه سيعمل بكفاءة، ما قدم لنا قدرات جديدة وهائلة، تسمح بدراسة الكون. 

بقلم: ألكسندرا ويتزي

 

من بين كثير من الأخطاء المحتملة التي كان من شأنها إفساد مهمة «تلسكوب جيمس ويب الفضائي»، عقب إطلاقه في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 2021، سيطر واحدٌ بالتحديد من هذه السيناريوهات الكابوسية على أفكار جين ريجبي. فبالتزامن مع فتح أجزاء التليسكوب، البالغ تكلفته 10 مليارات دولار في الفضاء السحيق، كان يتوجب استخدام مرآة ثانوية، تقع أمام مرآته الأساسية الضخمة، بحيث يمكن رصد الفوتونات الثمينة ثم إعادة إرسالها إلى الأرض.

تقول ريجبي: "هذه المرحلة من المهمة هي أكثر ما أثار رعبي". هي عالمة متخصصة في عمليات مشروع التليسكوب بمركز جودارد لرحلات الفضاء، التابع لوكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، في جرينبيلت بولاية ميريلاند. وأردفت قائلة: "كان باستطاعتي تخيّل هذا التليسكوب الجميل، ومراياه الذهبية المُشرَعة في الفضاء وهي تركز الضوء على العدم، بسبب غياب المرآة الثانوية".

ورغم هذه الصورة الكابوسية، تمكَّن هذا التلسكوب من توظيف المرآة الثانوية لتؤدي عملها بصورة مثالية، إضافة إلى مكوناته الأخرى كلها، على امتداد شهر واحد. بعد ذلك استمر إسهام ريجبي، في قيادة فريق العمل المعني بتقييم أداء التلسكوب. وقد نجحت مهمة التلسكوب بالفعل، لدرجة تخطت توقعات الجميع تقريبًا. وبداية من أولى الصور المذهلة التي خرجت إلى النور في يوليو الماضي، مرورًا باكتشافات المجرات البعيدة، وحتى رصد الغلاف الجوي لكواكب تقع خارج المجموعة الشمسية، فقد سيطر هذا التلسكوب على العناوين الرئيسية لمجال الفضاء على طول عام 2022. ومن بين آلاف علماء الفلك ممن عملوا على هذا التلسكوب لمدة عقود من الزمان، كانت ريجبي ركيزةً أساسية.

كانت جين ريجبي أقصر قامةً من أن تسافر على متن مكوك فضائي، فتحوَّل مسارها المهني لتصبح عالمة فلك، وأثناء سنوات نشأتها في المناطق الريفية بولاية ديلاوير، شاهدت ريجبي سلسلة «كوزموس» Cosmos، التليفزيونية، التي كان يقدمها العالم كارل سيجان، وقرأت عن سالي رايد، عالمة الفيزياء الفلكية الأمريكية التي أصبحت رائدة فضاء. وصحيح أن ريجبي لم تستوف الشروط البدنية اللازمة لكي تكون رائدة لمكوك فضائي، إلا أنها وضعت جل اهتمامها في علوم الفلك، كوسيلة لولوج عالم الفضاء، فاشترت تلسكوبا مستعملًا وأخذته إلى الحقول في جُنْح الظلام، واكتسبت خبرة مباشرة في أعمال اللحام والسمكرة مع والدها، الذي كان يعمل مدرسًا للفيزياء.

وأثناء مرحلة الدراسة الجامعية، تعمقت ريجبي في مجال الأبحاث، إذ عملت على البيانات الصادرة من مرصد تلسكوبات «كيك»، الواقع في هاواي. وحينما بدأت دراساتها العليا في جامعة أريزونا بتوسان، كانت مهمتها تحليل أرصاد تلسكوب «سبيتزر» الفضائي، التابع لوكالة «ناسا»، والتي فتحت آفاقًا لعالم جديد من دراسة الفلك بالأشعة تحت الحمراء. تتذكر تلك المرحلة بقولها: "وضعنا تلسكوبا أفضل بكثير مما كان بين أيدينا في السابق، وكانت النتيجة الحتمية هي اكتشاف كثير من الأشياء".

لكن مدى نجاح «تلسكوب جيمس ويب» لم يكن واضحًا، إذ طال أمد المشروع أكثر من اللازم، منذ بدايته عام 1989، إضافةً إلى مشاكل ترتبط بتأخر الجدول الزمني لأكثر من مرة، إلى جانب تكلفته الباهظة. وفي عام 2010، ومع تفاقم مشاكل التلسكوب، رفضت ريجبي عرضين للعمل، وانضمت إلى هذا المشروع. تقول: "كان هذا العلم جذابًا للغاية". وكان من بين المهام المُسندة إليها، التوصل إلى طريقة تسمح باستعادة القدرات والوظائف التي جرى اقتطاعها من المشروع مع تضخم الميزانية.

وبعد مرور اثني عشر عامًا، وقفت ريجبي تراقب إطلاق التلسكوب في معهد علوم تلسكوبات الفضاء ببالتيمور، في ولاية ميريلاند، بعد أن أجرى فريق العمل تجاربهم على الإطلاق مرةً تلو الأخرى. وتتذكر ريجبي أنها سمعت أحدهم يقول: "ثمة تيار كهربي في المصفوفة"، حين انفصل التلسكوب من الصاروخ الذي يحمله، وبدأ مدّ ألواحه الشمسية لتوليد الطاقة. تقول ريجبي: "يصعب على أي إنسان أن يتخيّل درجة السعادة التي حملتها هذه الجملة البسيطة".

ومنذ تلك اللحظة، بدأت خمسة شهور من مهمة تشغيل التليسكوب. وكُلفت ريجبي بدور رئيسي، تضمن بالأساس، من بين أمور أخرى، قياس وتفسير الضوء الموجود في خلفية عمليات الرصد، والذي يتسرب إلى عمليات رصد «تلسكوب جيمس ويب»، نظرًا لأن التلسكوب غير محاط بأنبوب، مثلما هو الحال مع تلسكوب «هابل». ويقول كلاوس بونتوبيدان، العالم في مشروع «تلسكوب جيمس ويب»، بمعهد علوم تلسكوبات الفضاء: "بذلَتْ ريجبي جهودًا هائلة كل يوم"، لتقليص مساحات عدم اليقين بشأن كيفية تأثير هذا الضوء الموجود في الخلفية على بيانات التلسكوب، الأمر الذي ساعد علماء الفلك على التأكد من دقة قياساتهم.

في الثاني عشر من يوليو، زفَّت ريجبي هذه الأخبار السارّة في مؤتمر الاكتشافات العلمية التي حققها «تلسكوب جيمس ويب». وفي الأسبوع نفسه، ذهبت إلى البيت الأبيض لتزيح الستار عن الصور الأولى القادمة من التلسكوب، بصحبة الرئيس الأمريكي جو بايدن. ومنذ ذلك الحين، بقيت ريجبي عنصرًا أساسيًا وحاضرًا في الحوارات العلمية والمؤتمرات الصحفية حول نتائج التلسكوب.

شئ واحد تتحاشى جين ريجبي الحديث عنه، هو الاسم الذي يحمله التلسكوب. تعرّف ريجبي نفسها بأنها حُرة الجنس (كوير)، واسم التلسكوب محل جدل من حيث أنه يُكرّم اسم جيمس ويب، الذي شغل مناصب حكومية عليا في وقت كانت الحكومة الأمريكية فيه تضطهد الموظفين الذين ينتمون إلى أقليات جنسية وجندرية (مجتمعات الميم)، من بينهم واحد، على الأقل، عمل في وكالة «ناسا» أثناء فترة تولي ويب لرئاستها.

تشعر ريجبي بالامتنان لنشاطها الحقوقي في مجتمع الميم، بوصفه أمرًا صقل مهاراتها القيادية في مجال العلوم. أثناء مرحلة ما بعد الدكتوراه في كاليفورنيا، ساعدت ريجبي في تنظيم الناخبين ضد مقترح بالتصويت كان سيقضي بمنع الزواج من نفس الجنس، ما طور مهاراتها في كيفية إدارة الأشخاص وتحفيزهم. وهي تتخذ فرانك كاميني مثلًا أعلى، وهو عالم الفلك الذي طردته الحكومة الأمريكية عام 1957 لأنه مثلي الجنس، غير أنه واصل مسيرته بعدها ليصبح أحد المدافعين عن حقوق المثليين في البلاد.

تقول ريجبي إن أحد الخيوط المشتركة التي تربط الكثير من أفراد مجتمعات الميم في مجال علوم الفلك، هو "وجود شعور بالانتماء، وأن الكون لا ينبذني". وبالنظر إلى كثير من المخاطر التي تواجه عددًا كبيرًا من العلماء الذين ينتمون إلى مجتمعات الميم، فإن هذا الشعور بالقبول والأمان يمثل أمرًا بالغ الأهمية. وتضيف ريجبي قائلة: "بالنسبة لي، كان هناك شعور بالانجذاب نحو الفضاء، وهو شعورٌ راجع في جانب منه إلى كوني حُرة الجنس، إذ ملأني شعور بأني جزء من الكون، وأنني جزء من قصة أكبر". 

 

Credit Yufan Lu for Nature

يونلونج كاو: متعقِّب سلالات «كوفيد»

توصيفاته الثرية للسلالات المتحوّرة الجديدة ساعدت الباحثين على مواكبة التطورات الطارئة على فيروس «سارس-كوف-2» ورصدها.

بقلم: إيوين كالاواي

 

حينما عاد يونلونج "ريتشارد" كاو إلى الصين، أواخر عام 2019، قادمًا من الولايات المتحدة، كان يأمل في تطوير بحث الدكتوراه الذي أجراه حول دراسة الجينومات على مستوى الخلية الواحدة. لكنه لم يكد يستقر في منصبه، باحثًا مشاركًا في جامعة بيكينج بمدينة بكين، حتى فُرض إغلاق شامل على المدينة.

وجد كاو ومشرفه، ساني شيي، العالم المتخصص في الكيمياء البيولوجية، مختبرهما وقد خلا من الفنيين والطلاب. وأمام احتمالية إيقاف عمله، أدرك كاو أن الطرق والأساليب التي تخصَّص فيها يمكن الاستعانة بها لدراسة الأجسام المضادة التي تحفزها الإصابة بعدوى فيروس «سارس-كوف-2». يقول: "لم أفكر أبدًا في أنني قد أتعمق في دراسة علم المناعة وعلم الفيروسات".

وبينما يشاهد العلماء الآن موجةً جديدة من «كوفيد-19»، وهي تجوب العالم من جديد، يغذيها خليط عشوائي من سلالات «سارس-كوف-2» المتحوّرة، التي تنحدر من سلالة «أوميكرون»، تأتي إنجازات كاو لتعطي بصيصًا من الأمل في أن نبقى متقدمين بنصف خطوة على هذا التطور المتوحش للفيروس. ومن خلال فحص واختبار الأجسام المضادة داخل أجسام الأشخاص، بدرجةٍ من التفصيل دقيقة، تمكّن فريق كاو من التنبؤ بالكثير من التحوّرات التي تحدد ما يطلق عليه "خليط السلالات المتحوّرة".

"كان ذلك بالتأكيد إنجازًا استثنائيًا"، هكذا تقول لاورا ووكر، أخصائية المناعة ورئيسة المسؤولين العلميين في شركة الأدوية البيولوجية «إنفيفيد» Invivyd في وولثام بولاية ماساتشوستس، حيث كانت هي الأخرى تحاول التنبؤ بتطور فيروس أوميكرون. وأضافت ووكر: "عمق دراساتهم وشموليتها جعلانا نشعر بالخجل من أنفسنا".

يقود كاو الآن غالبية الأعمال المرتبطة بـ«كوفيد-19» في فريق شيي. وكان كاو قد استهل جهوده في مكافحة هذا الوباء بفحص الأشخاص المتعافين من فيروس «كوفيد-19»، والكشف عن الأجسام المضادة التي يمكن استخدامها للعلاج داخل أجسامهم. وبالعمل مع شركة أدوية صينية، تمكنت المجموعة البحثية من رصد اثنين من أقوى الأجسام المضادة، القادرة على منع العدوى أو تحييده، ومن ثم بدؤوا إجراء التجارب عليهما داخل أجسام البشر المصابين بـ«كوفيد-19».

ورغم أن النتائج الأولية جاءت مبشرة بالفعل، فإن شركة الأدوية قررت وقف تطوير البحث، عقب اكتشاف العلماء في جنوب إفريقيا لسلالة «بيتا» المتحوّرة أواخر عام 2020. فهذه السلالة التي تستطيع مراوغة الجهاز المناعي حملت الكثير من الطفرات التي جعلتها منيعة أمام أحد مكونات خليط الأجسام المضادة الذي أعده كاو، وأضعف كفاءة خليط آخر وفاعليته. يعلّق كاو على ذلك بقوله: "بدأت فكرة تغزو رأسي: لابد أن هناك طريقة أفضل لفعل ذلك".

بدأ كاو يتساءل عمّا إذا كان بإمكانه تحديد الأجسام المضادة الأقدر على مواجهة التغيّرات الفيروسية، بدلاً من تخليق علاج يعتمد على أقوى تلك الأجسام. وقد استلهم إحدى الدراسات التي كانت قد وضحت أن كل تغيّر محتمل في نطاق ارتباط المستقبل لبروتين «سارس-كوف-2» الشوكي، أي قرابة 4 آلاف تركيبة من الأحماض الأمينية، يؤثر في قدرة الفيروس على الارتباط بخلايا المضيف وإصابتها بالعدوى.

لكن تلك الدراسة، التي قادها جيسي بلوم، عالم الفيروسات التطوري بمعهد فِريد هاتشنسون للسرطان في سياتل بولاية واشنطن، تناولت بالدراسة بروتينًا واحدًا فقط. وأراد كاو إجراء هذا النوع نفسه من الدراسات لتتبع الكيفية التي ربما يتطور بها الفيروس لكي يتمكن من مراوغة مئات، بل وآلاف، من الأجسام المضادة. يقول كاو إن هذا الأمر ربما يستغرق تنفيذه سنوات باستخدام الطرق التقليدية، لذا طوّر أسلوبًا عالي الإنتاجية كي يتمكن من تنفيذ ذلك في بضعة أسابيع فحسب.

أظهرت هذه الجهود الكيفية الدقيقة لاستجابة الفيروس للضغوط التي تقع عليه من الأجسام المضادة. كما تمكن الباحثون من تحديد مجموعة من الطفرات التي تسمح بتحقيق أفضل النتائج في مراوغة الجهاز المناعي. وقد ساعد هذا النهج فريق كاو على دراسة تأثير تعرّض الجسم إلى سلالات متحوّرة مختلفة في شكل إنتاج الأجسام المضادة داخل أجسامهم. على سبيل المثال، يفرز المتعافون من المتحور «أوميكرون BA.1» أجسامًا مضادة محيِّدة تستطيع طفرات البروتين الشوكي الموجودة في المتحور «أوميكرون BA.5» أن تتغلّب عليها، وكانت السلالة الأخيرة قد اكتسحت العالم في النصف الأول من هذا العام.

استطاع فريق كاو أن يتنبأ بالطفرات الرئيسية التي من شأنها أن تحدد الكثير من المتحورات السارية حاليًا، عبر دراسة الأجسام المضادة المأخوذة من أشخاص متعافين من السلالة المتحورة «BA.5»، وسلفها «BA.2»، وغيرهما من السلالات المتحوّرة السابقة. وقد ساعدت هذه التنبؤات فريق العمل على تقييم قدرات السلالات المتحوّرة على مراوغة الجهاز المناعي بعد فترة قصيرة من تحديدها، وأحيانًا ما كان يحدث ذلك قبل أسابيع من اكتشاف فرق أخرى لهذه السلالات. يقول كاو: "أظن أنها المرة الأولى التي نكون فيها متقدمين عن الفيروس".

ويقول بلوم إن فريقه كان على وشك إصدار بيانات تجريبية حول السلالات المتحوّرة الجديدة، ل تُنشر تلك المعلومات بسرعة عبر المسودات البحثية ووسائل التواصل الاجتماعي ومواقع تتبع الفيروسات.

في الوقت الراهن، يبحث كاو ورفاقه إمكانية تصميم أنواع علاجية جديدة اعتمادًا على الأجسام المضادة، عبر تحديد أقدر هذه الأجسام على مواجهة تطور الفيروس. ويقول كاو إن دليله في ذلك هو دراسته الجامعية في مجال الفيزياء، مسترشدًا بذلك في محاولة البقاء متقدمًا عن الفيروس. يقول: "وضع التوقعات التي تثبت صحتها فيما بعد هو وحده القادر على تحديد مدى فهمك لتلك المنظومة".

 

Credit: Sima Diab for Nature

سليم الحق: مناضل في مجال المناخ

باحث علوم المناخ ذو الأصول البنجلاديشية، الذي أسهم في الضغط من أجل إلزام الدول الغنية بدفع تعويضات مقابل الخسائر والأضرار الناجمة عن التغير المناخي.

بقلم: إحسان مسعود

 

في الساعات الأخيرة التي سبقت اختتام قمة المناخ السابعة والعشرين، التي عُقدت الشهر الماضي بمدينة شرم الشيخ المصرية، تساقط أعضاء الوفود الذين نال منهم التعب على الأرائك المتراصَّة خارج غرف الاجتماعات الرسمية، إلا سليم الحق، الذي جلس منتصبًا، يتفحص في عجالة الرسائل على هاتفه.

لم تكن الأطراف المعنية قد توافقت بعدُ على النص الختامي للاجتماع، إلا أن سليم الحق يقول لدورية Nature إنه كان واثقًا من أن المفاوضين الموفدين من حكومات العالم التي شاركت في المؤتمر سيتفقون على تمويل نوع جديد من صناديق المناخ: صندوق يغطي تعويضات «الخسائر والأضرار» التي تواجهها الدول الأكثر تعرّضًا لمخاطر التغيّر المناخي. قال: "لا تقلق. الأمر مضمون".

كانت ثقته في محلِّها. فالاتفاق النهائي، الذي وقعت عليه الأطراف في مدينة شرم الشيخ السياحية المطلة على البحر الأحمر، تضمَّن التزامًا بإنشاء صندوق لتمويل تعويضات الخسائر والأضرار لمساعدة الدول الأقل دخلًا على التعامل مع آثار التغير المناخي. يُعد هذا الاتفاق تتويجًا لحملة استمرت ثلاثين عامًا تقريبًا، بهدف دفع الدول صاحبة المستويات الأعلى من الانبعاثات الكربونية حول العالم تاريخيًا إلى الإقرار بتحملهم بعض المسؤولية المالية تجاه الدول صاحبة الانبعاثات المنخفضة، التي تواجه الآن خطر الدمار مع استمرار ارتفاع درجات الحرارة. وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، قاد سليم الحق تلك الحركة بشكل غير رسمي، وهو في الأصل عالم بيولوجيا نباتية، يدير حاليًا المركز الدولي للتغير المناخي والتنمية في دكا.

يقول سليم الحق: "تعويضات الخسائر والأضرار ليست معونات"، مستندًا في حديثه إلى مبدأ أن "من أفسد شيئًا فعليه إصلاحه"، وهذا الأمر، حسبما يرى سليم الحق، هو سبب المعارضة التي يواجهها، حتى من قبل إقامة قمة الأرض عام 1992 في ريو دي جانيرو في البرازيل، والتي أخرجت لنا اتفاقات المناخ التي نتكئ عليها حتى يومنا هذا. يقول: "حين تُمنح الأموال في صورة مساعدات، تبقى كل السلطة بيد المانح، وهذه علاقة غير متكافئة".

بدأت تجربة سليم الحق في معترك السياسة الدولية في سن صغيرة. فقد وُلد في كراتشي لأبوين يعملان في السلك الدبلوماسي الباكستاني، قبيل استقلال باكستان الشرقية عن الغربية لتصبح بنجلاديش عقب حرب التحرير عام 1971. وقد اختار والداه الذهاب إلى بنجلاديش، واستطاعا الهرب من الأسر على يد الجيش الباكستاني عبر السفر برًا على ظهر حمار إلى الهند مرورًا عبر أفغانستان.

وخلال سنوات نشأته في أوروبا وإفريقيا وآسيا، بسبب شغل والده لمناصب دبلوماسية، تولّد لدى سليم الحق شغف بالعلم، ثم انتقل إلى لندن قبل خمسين عامًا لدراسة الكيمياء الحيوية، ما قاده في نهاية المطاف إلى دراسة الدكتوراه في إمبيريال كوليدج لندن. ثم عاد سليم الحق بعد ذلك إلى بنجلاديش، ليشترك مع عتيق رحمن في تأسيس مركز بنجلاديش للدراسات المتقدمة، وهو مركز أبحاث مستقل ينصبُّ اهتمامه على سياسات البيئة. تملك بنجلاديش سجلًّا طويلًا وحافلًا بالكوارث البيئية، خاصة الفيضانات. واستطاع سليم الحق وزملاؤه إقناع حكومتهم بمدى احتياجها إلى إنشاء وزارة للبيئة، وبأن يكون مركز بنجلايش للدراسات المتقدمة ذراعًا لدراساتها وأبحاثها. وقد ساعد هذا المركز الوزارة على صياغة أول خطة عمل بيئية في بنجلاديش، بحسب ما يقول ميرزا شوكت علي، المدير الحكومي للتغير المناخي.

تقول ليزا شيبر، باحثة المناخ في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، إن سليم الحق قاد جهود إنشاء شبكة عالمية من الخبراء العاملين في أحد أفرع التنمية التي تحمل اسم التكيف المجتمعي. وهذه الفكرة المطروحة منذ أبدٍ بعيد، غير أنها لاقت صدًى في الآونة الأخيرة وأصبحت إحدى الأفكار الرائدة التي أطلقتها بنجلاديش، تركز على مساعدة المجتمعات الريفية على إيجاد حلول لمشاكلها، تقوم على البحث والدراسة، مثل تعزيز استعداد تلك المجتمعات لمواجهة الفيضانات أو تغيير أنماط حصاد المحاصيل استجابةً للتغيرات المناخية.

يقول سليم الحق: "على المجتمعات أن تمسك بزمام القيادة".

بحلول تسعينيات القرن العشرين، أصبح سليم الحق ناشطًا في المفاوضات الدولية حول المناخ، بصفته مستشارًا للدول الأكثر تعرضًا لمخاطر التغيرات المناخية، وبالأخص دول الجزر الصغيرة، حيث كان يساعد تلك الدول على وضع احتياجاتها ومطالبها على أجندة مباحثات الأمم المتحدة. وقد اكتسبت فكرة دفع تعويضات عن الخسائر والأضرار زخمًا في السنوات التي سبقت اتفاق باريس للمناخ عام 2015، حسبما ترى آشالا إبيسينجي، المحامية المدافعة عن قضايا البيئة، والتي تعمل حاليًا في المعهد الدولي للنمو الأخضر، ومقره العاصمة الكوريّة الجنوبية سيول، والتي سبقَ أن تعاونَت مع سليم الحق في تقديم الاستشارات للدول الأكثر تعرضًا لمخاطر التغير المناخي. وترى إبيسينجي أن استراتيجية سليم كانت تقوم على إقناع مزيد من الدول (منها الصين والهند) بقضية تعويضات المخاطر والأضرار، "بحيث لا تكون الدول الأقل نموًا ودول الجزر الصغيرة وحدها" في مواجهة ذلك الخطر. على أن إقناع الدول الغنية صاحبة الانبعاثات الكربونية العالية كان المهمة الأصعب.

وقد حدثت انفراجة مبكرة أثناء محادثات باريس عام 2015؛ إذ نصت المادة الثامنة من الاتفاق النهائي صراحةً على إدراج المصطلح المنشود: "تعترف الأطراف بأهمية تجنب الخسائر والأضرار المرتبطة بالآثار الضارة لتغير المناخ وتقليلها والتصدي لها". ولكن إدراج تلك الكلمات في نص الاتفاق كان بحاجة إلى هدوء وتماسك من نوع خاص، حسب قول إبيسينجي، التي تضيف: "أخبرونا أننا إذا بقينا مصرين على إدراج تعويضات الخسائر والأضرار، فسوف نكون المَلومين في حال فشل إقرار المعاهدة. ولكن ذلك الأمر كان خطًا أحمر، وكنا رغم كل شيء مستعدين للحوار".    

وجد سليم الحق الاستجابة نفسها من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مؤتمر شرم الشيخ. ولكن، مرةً أخرى، أبدى المدافعون عن مبدأ تعويض الخسائر والأضرار صمودًا كاملًا حين حاولت بعض الدول الغنية أن تطرح فكرة الإبقاء على هذا الالتزام بعيدًا عن الاتفاقية، حسبما يرى سليم الحق، الذي علَّق قائلًا: "لم يطرف لنا جفن".        

 

Credit: Joseph Sywenkyj for Nature

سفيتلانا كراكوفسكا: صوت أوكرانيا في المحافل العلمية

العالمة بالهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ وهبَت نفسها للدفاع عن بلدها في المحافل الدولية، وربطت الغزو الروسي بالتغير المناخي، ناعتةً إياه "بحرب الوقود الأحفوري".

بقلم: أيسلينج إروين

كان ذلك في صباح يوم الخميس، الرابع والعشرين من فبراير عام 2022، حين تناهَتْ إلى سمع سفيتلانا كراكوفسكا أصوات القذائف تنهلُّ فوق مناطق مجاورة في العاصمة الأوكرانية كييف؛ كانت إذ ذاك ماكثة في منزلها، تحضر مؤتمرًا عبر الإنترنت يضم ممثلي 93 دولة. في ذلك الحين، كانت الوفود المشاركة في اجتماع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) تعمل على إنهاء التقرير المرتقب بشأن تداعيات الاحترار العالمي. لم تدرِ كراكوفسكا، رئيسة الوفد الأوكراني، كيف تتصرف: هل ينبغي لها استغلال وجودها بالمؤتمر لتحتج ضد الغزو الروسي الذي يحدث لبلادها، أم لا؟

تقول كراكوفسكا، التي تدير مختبر علم المناخ التطبيقي بالمعهد الأوكراني للأرصاد الجوية المائية بكييف: "كنت أدرك أن الهيئة ليست بالهيئة السياسية، كما لم أود أن أثير حالة من البلبلة. ولكن الوضع كان استثنائيًا".

أجبرها القصف على التغيُّب علن جزء لا بأس به من المؤتمر؛ إذ كانت تتخذ هي وزوجها وأطفالها الأربعة احتياطاتهم للنجاة خلال الحرب. ولكن بعد تفكَّرت مليًّا، على مدى ثلاثة أيام، ورغم شعورها بالحرج الشديد، قررت أن تتكلم في الجلسة العامة الختامية. تقول: "كان يملؤني الغضب".

في مداخلةٍ لها، قالت كراكوفسكا للوفود المشاركة: "ثمة علاقة مباشرة بين هذا التغير المناخي الذي هو من صُنع البشر وبين الحرب الدائرة في أوكرانيا، وتجمع بينهما نفس الأسباب: الوقود الأحفوري، واعتماد البشر عليه. سهولة الحصول على الطاقة من حرق الفحم والنفط والغاز غيرت موازين القوى في العالم".

كان رد المشاركين مؤثرًا؛ فقد أعربوا واحدًا تلو الآخر عن تضامنهم مع أوكرانيا، وكان من بينهم ممثل روسيا، أوليج أنيسيموف، الذي أبدى أسفه لوقوع هذا الهجوم الروسي.

تتذكَّر كراكوفسكا قائلة: "اغرورقت عيناي بالدموع"، وأضافت: "في تلك اللحظة، كنا في أمسِّ الحاجة إلى هذا الدعم". وذكرت أنها كانت تتلقى العشرات من الاتصالات والرسائل يوميًا بعد هذا الموقف. وعرض عليها بعض الباحثين اللجوءَ السياسيَّ إلى دولة أخرى، وتوفير فرص عمل لها في وظائف علمية.

لم تبرح كراكوفسكا وعائلتها كييف، وكان ذلك راجعًا، في جانبٍ منه، إلى أن والدها كان يعاني مرضًا شديدًا، وكان يتلقى الرعاية الطبية في المنزل قبل أن يفارق الحياة في شهر أبريل من العام ذاته. غير أن الاهتمام العالمي الذي تبع اجتماع الهيئة غيَّر حياتها. أقنعها أحد الأصدقاء بقبول دعوات إعلاء صوت الأوكران في الفعاليات الدولية الكبرى، وفي تلك الفعاليات، قُدِّمت كراكوفسكا بوصفها ناشطة تدافع عن المناخ وأوكرانيا؛ وفيها نعتت الغزو الروسي بأنه "حرب الوقود الأحفوري".

لم تبدأ كراكوفسكا مسيرتها المهنية بالتخصص في علم المناخ؛ فقد كان أول حضور لها باجتماعات الهيئة منذ تسعة أعوام فقط في ستوكهولم، في عام 2013. ولِدَت كراكوفسكا في كييف في عام 1969، ودرست علم الأرصاد الجوية في لينينجراد (المدينة الروسية التي يُطلق عليها الآن سانت بطرسبرج)، وتخصصت في فيزياء السُّحب، وشاركت في تجارب الاستمطار لزيادة هطول الأمطار في السهول الأوكرانية. وفي أوقات فراغها، تمكنت من تسلق جميع السلاسل الجبلية في الاتحاد السوفييتي السابق.

وعندما كانت باحثةً في مرحلة ما بعد الدكتوراه، خلال العقد الأول من القرن الحالي، درست المجال الناشئ حديثًا المعني بنمذجة المناخ الإقليمي، وأصبحت أول عالمة أوكرانية تطبقه في بلدها. اكتشفت أن الكثيرين في أوكرانيا، وبينهم علماء، لم ينتبهوا إلى خطورة التغير المناخي؛ إما لأنهم لا يعتقدون في حقيقته، أو لأنهم يرون أنه لن يكون له تأثير قوي على دولة بعيدة عن المحيطات والمناطق الاستوائية أو القطبية.

أثناء حضورها اجتماع الهيئة في عام 2013، راقها أن تشارك في صياغة العلوم المعقدة على نحو يتيح لواضعي السياسات فهمها؛ فعندما كان العلماء يتحدثون، كان الجميع يستمعون إليهم. تقول كراكوفسكا: "لم أعتد أن ينصت إليَّ أحد بهذا الإنصات".

أقنعت كراكوفسكا علماء أوكرانيين آخرين بالانضمام إلى اجتماعات الهيئة. من هؤلاء، ياكيف ديدوخ عالم البيئة بمعهد إم جي خولودني لعلم النبات، الذي يثني على "حضورها" و"تواضعها". عززت هذه التجربة التأثير المحلي للعلماء. ففي شهر أكتوبر الماضي، اعتمد وزراء أوكرانيون استراتيجية للحفاظ على الأمن البيئي والتأقلم مع التغير المناخي حتى عام 2030.

بعد اجتماع شهر فبراير، غادرت كراكوفسكا أوكرانيا لإلقاء كلمات في فعاليات، منها اجتماع عُقد تحت رعاية للاتحاد الأوروبي لعلوم الأرض في فيينا، والاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في سويسرا. وفي شهر سبتمبر، ترأَّست اجتماعًا عبر الإنترنت للجمعية العامة للأمم المتحدة في مدنية نيويورك حول إعادة بناء العلوم في أوكرانيا. كما حضرت بعض الفعاليات التي أقيمت على هامش قمة المناخ السابعة والعشرين (كوب 27) التي عُقِدت بمدينة شرم الشيخ المصرية، وقالت إن العالم لابد أن يحذو حذو أوكرانيا في عزمها على مكافحة التغير المناخي في أثناء حربها ضد روسيا.

وإذ يزحف فصل الشتاء على كييف، تعاني كراكوفسكا من انقطاع الكهرباء والماء وتعطُّل وسائل التدفئة بينما تتساقط القذائف الصاروخية على بعد كيلومترات من بيتها، ولكنها تشعر بالامتنان لاستمرار عمل بعض المرافق، مثل شبكات الهاتف المحمول وإن تأثرت خدماتها. تستمر كراكوفسكا في العمل على إعداد توقعات التغير المناخي في أوكرانيا، وتتطلع إلى عقد الندوات المؤجلة عبر الإنترنت لشرح تقارير الهيئة. تنفق كراكوفسكا الأموال التي تجنيها من العمل الدولي ومشاركاتها في الندوات على شراء مولدات كهربائية لأبناء شعبها.

المواطنون الأوكرانيون في الجوار، ومنهم العلماء، يعانون ويلات الحرب. فقد لحق الأذى بنحو 131 جامعة أوكرانية وكلية من جراء الحرب، منها 22 جامعة وكلية دُمرت تمامًا؛ كما تعرضت أكثر من خمسين هيئة بحثية إما للضرر أو التدمير التام، وفقًا لما تقوله أولجا بولوتسكا المديرة التنفيذية للمؤسسة الوطنية للبحوث الأوكرانية في كييف. يُضاف ذلك إلى أن المعدات البحثية بالمختبرات تعرضت للسرقة، ومن بينها مجموعة أدوات تزيد قيمتها على 10 ملايين دولار، سُرِقَت من محطة تشرنوبل للطاقة النووية. كما رحل عن البلاد نحو 1300 عالم من المنتسبين إلى الأكاديمية الأوكرانية الوطنية للعلوم.

أما العلماء الذين لا يزال بإمكانهم العمل، فإنه "من الصعب جدًا أن تعمل بينما تفكر في محاولة النجاة"، على حد قول كراكوفسكا.

وقد أثنت كو باريت، نائبة رئيس الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، واستشارية التغير المناخي بالإدارة الوطنية للغلاف الجوي في واشنطن العاصمة، على قرار كراكوفسكا بإثارة مسألة الحرب في اجتماع فبراير، وقالت: "نحن بشر قبل أن نكون علماء"، وأضافت: "لا أحد يستطيع أن يخبرنا بالقصة كما تفعل هي".

 

Credit: Emeke Obanor for Nature

ديمي أوجوينا: عينُ العالَم على جدري القرود

ساعدت أبحاث هذا العالم النيجيري سائر بلدان العالم على مكافحة الفيروس.

بقلم: ماكس كوزلوف

عندما سمع ديمي أوجوينا لأول مرة عن انتشار جدري القرود في شهر مايو من عام 2022، وأن المرض آخذ في التفشِّي حول العالم، داخَلَه شعور بأنه إنما يرى مشهدًا رآه من قبل. فقد ظهر الفيروس في بلده، نيجيريا، في عام 2017 لأول مرة منذ 40 عامًا، متسببًا في إصابة أكثر من 700 حالة، ما بين مؤكَّدة ومحتمَلة.

أثناء تفشي الفيروس، كان أوجوينا، طبيب الأمراض المُعدية بجامعة دلتا النيجر في أماسوما، أول من شخَّص حالة إصابة مؤكدة بالمرض، الذي أعادت منظمة الصحة العالمية تسميته في نوفمبر الماضي، ليصبح اسمه «إمبوكس» Mpox، في محاولةٍ لتجنيب مصابيه التعرُّض للوصم.

وكما هو الحال مع نوبة التفشَّي الحالية، التي أسفرت حتى الآن عن أكثر من 82 ألف إصابة حول العالم و65 حالة وفاة، تَركَّز الوباء النيجيري في عام 2017 في المناطق الحضرية بين الرجال البالغين في المراحل العمرية المتوسطة، والشباب صغير السن. يختلف ذلك عن أنماط انتقال العدوى السابقة للمرض، إذ ظهر بشكل أساسي في المناطق الريفية وفي الأطفال، وكانت الإصابات في الأغلب ناتجةً عن الاختلاط بحيوانٍ بري مصاب.

كان لأوجوينا إسهامٌ كبير في وضع توصيف مفصل لانتشار الفيروس في نيجيريا، موضحًا التقرُّحات الغريبة التي يسببها الفيروس في الأعضاء التناسلية، ومؤكدًا أن الأطفال غير معرضين للإصابة بالمرض، حتى وإن أُصيبَ أحد أفراد أسرة الطفل. وانطلاقًا من هذه المعطيات، انتهى هو وفريقه، في عام 2019، إلى أن المرض قد ينتشر عبر الاتصال الجنسي، وأن قدرة الفيروس على الانتشار بين البشر ربما كانت أعلى مما كان يُعتَقَد في السابق. ومع هذا، لم تلقَ جهودُه في محاولة إقناع زملائه بهذه النتائج الصدى المنشود؛ وقال عن ذلك إن أحدًا "لم يرغب في أخذ الأمور على محمل الجد".

لم يتأكد بعدُ أنَّ الفيروس يندرج في قائمة الفيروسات القابلة للانتقال عبر الاتصال الجنسي، بالمعنى الدقيق للكلمة، من خلال الدم أو السائل المنوي أو غيرهما من سوائل الجسم، إلا أنه قد بات من الواضح أنه ينتقل بسهولة عبر الاتصال الجنسي. وقد استُشهِد بأبحاث أوجوينا حول جدري القرود مئات المرات منذ بدء تفشي الوباء عالميًا. تقول آن ريموين، عالمة الأوبئة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، التي شاركت في جهود تتبع المرض ومكافحته في جمهورية الكونغو الديمقراطية لأكثر من عشرين عامًا، إن أبحاثه نبهت المسؤولين بالمجال الصحي إلى دور الاتصال الجنسي في نقل المرض، مما أسهم في التعجيل بحملات التوعية والتطعيم في الدول مرتفعة الدخل. ترى ريموين أن "أوجوينا حاز قصب السبق في هذا الميدان"، مضيفةً أن "اكتشافه كان من الأهمية بحيث كان يُفترض أن يدق ناقوس خطر تُسمع أصداؤه في أرجاء العالم".

على أن جدري القرود ليس أول مواجهة لأوجوينا مع الفيروسات، فمنذ أن أصبح طبيبًا للأمراض المعدية قبل أكثر من عشر سنوات، كانت جهوده في طليعة الجهود البحثية النيجيرية التي أجريت على مجموعة كبيرة من الأمراض المعدية الأخرى، منها فيروس نقص المناعة البشرية/ الإيدز والإيبولا. وقد وصفَتْه روزماري أودو، عالمة الفيروسات ورئيسة القطاع البحثي في المعهد النيجيري للأبحاث الطبية في لاجوس، بأنه "يقظ جدًا، ومثابر".

وعلى الرغم من انحسار الوباء عالميًا في الوقت الحالي، إذ يقل عدد الإصابات الجديدة أسبوعيًا على مستوى العالم عن 100 إصابة، نزولًا من نحو عشرة أضعاف هذا الرقم في شهر أغسطس، لم يتغير الوضع كثيرًا على أرض الواقع في نيجيريا. فالأدوية والتطعيمات وموارد الرصد التي أسهمت في السيطرة على انتشار الفيروس في الدول مرتفعة الدخل ما زالت غير متاحة في وسط إفريقيا وغربها.

نُشرت مجموعة كبيرة من الأبحاث التي تناولت جدري القرود على مدار العام الماضي، ولكن أوجوينا يقول إنه يخشى من أن هذا لا يعدو كونه اهتمامًا عارضًا، سرعان ما سيخفُت، لتجف معه منابع التمويل الموجه له عمَّا قريب، ليعاود الفيروس الانتشار في دول وسط إفريقيا وغربها حصرًا.

لذا جعل أوجوينا مهمة دراسة انتشار الفيروس في نيجيريا وصدِّه مسألة شخصية. سجَّلت الدولة 624 حالة إصابة مؤكدة حتى الآن في عام 2022، ولكن أوجوينا يعتقد أن هذا "الرقم الإجمالي أقل من الرقم الفعلي". ويقول إنه من دون فهمٍ واضح لمَن الذي يصاب بالفيروس، وكيف تتم الإصابة، سوف تكون الجهود المبذولة لاحتواء المرض من قِبَل مسؤولي القطاع الصحي النيجيري "شديدة العشوائية".

وفي الأثناء، يحذر أوجوينا العالم من مواصلة التراخي في التصدي لانتشار جدري القرود في إفريقيا، وإلا فسوف يتكرر هذا المشهد المرة تلو الأخرى. يقول: "الفيروس سيعود مرةً أخرى".

 

Credit: Marissa Leshnov for Nature

ليزا ماكّوركيل: نصيرة مرضى «كوفيد الممتد»

مع أن المرض يؤثر على حياتها اليومية، لا تكف ماكوركيل عن السعي إلى وضع المرضى في قلب أبحاث «كوفيد الممتد».

بقلم: هايدي ليدفورد

درست ليزا ماكّوركيل في مرحلة الماجستير كيف تتصدَّى لبعضٍ من أكبر التحديات في السياسات الاجتماعية، بما فيها تلك الخاصة بفقر التغذية وشبكات الأمن الاجتماعي. أما القضية التي كانت تتجنبها فهي الرعاية الصحية. تقول ماكّوركيل: "كنت أشعر أن هذا الملف معقد للغاية.. فحاولتُ تحاشِيه".

تقضي ماكّوركيل هذه الأيام أغلب وقتها منهمكةً في بحث سياسات الرعاية الصحة. بعد أن أصيبت بمرض «كوفيد 19» إصابةً خفيفة في عام 2020، أُتبِعَتْ بأخرى شديدة استمرت معها فترةً طويلة، مازالت آثارها الصحية تؤثر على حياتها اليومية. في وقت لاحقٍ من العام نفسه، أنشأت، بالتعاون مع أربع نساء أخريات أُصِبن بالمرض نفسه، تعاونية بحثية تحمل اسم «بيشنت ليد ريسيرش كولابوراتيف» Patient-Led Research Collaborative، تضم مجموعة من الباحثين المعنيين بإجراء دراسات على هذه الحالة الطبية، وتوفير بيانات لتلك الدراسات.

وخلال العام الجاري، ومع إسقاط الجائحة من قائمة الأولويات في عديدٍ من الدول، يتزايد عدد المشاركين في هذا الجهد التعاوني، ويتنامى تأثيره. قدم هذا الجهد التعاوني 4.8 مليون دولار أمريكي لتمويل المشاريع البحثية، واختارت لجنة من الذين أصيبوا بـ«كوفيد الممتد»، أي الأعراض طويلة الأجل المترتبة على الإصابة بكوفيد، المستفيدين من التمويل. أسهمت ماكّوركيل في وضع دراسات بالغة الأهمية حول «كوفيد الممتد»؛ ففي العام الماضي، أدلت بشهادتها أمام الكونجرس الأمريكي حول احتياجات المرضى المصابين بهذه الحالة. تقول: "نحاول وضع المرضى في مقدمة جميع أنواع الأبحاث، ومن هنا نجعل المرضى يحددون أولوياتنا البحثية، ويتخذون القرارات النهائية بشأن وجهة إنفاق هذه الأموال".

هذا النهج التعاوني مناسب لإصابات «كوفيد الممتد» على وجه الخصوص؛ فمنذ البداية، كان على المرضى في كثيرٍ من الأحيان أن يدافعوا عن استحقاقهم للرعاية الطبية التي يحصلون عليها، ويصمموا الأنظمة العلاجية الخاصة بهم. تقول ليتشيسيا سواريز، وهي باحثة بالتعاونية تقيم بمدينة سالفادور البرازيلية، إن الحيرة والخوف كانا يدفعان المرضى نحو العزلة دفعًا. وأردفَتْ قائلةً إن "التواصل مع آخرين يفعلون نفس الشيء كان بالفعل الطريق الوحيد للخروج من هذه الحالة شعوريًا، لا لشيء إلا للمضي قدمًا، ومعرفة ما كان ينبغي عليهم فعله".

ومن هذا المنطلق، قررت ماكّوركيل ورفاقها، الذين ساورَتْهم خيبة أمل عميقة لعدم بدء أي من الأبحاث المهمة لدراسة الحالة، أن يجروا الأبحاث بأنفسهم. ففي عام 2020، أجروا استطلاعًا للرأي حول تجارب المرضى بشأن إصابات «كوفيد الممتد»، وأعدُّوا ملفًا على تطبيق «جوجل دوكس» Google Docs لمشاركة النتائج. تقول ماكّوركيل إن هذا الاستطلاع "حظي باهتمام كبير، وأسهم في وضع إصابات «كوفيد الممتد» على الخريطة بوصفه مشكلة".

شهد الجهد التعاوني إقبالًا منذ إجراء استطلاع الرأي آنف الذكر، وتزايدت دراساته. ففي العام الماضي، نشرت المجموعة تقريرًا بارزًا وثَّق أكثر من 200 عَرَض للمرض. كما شارك أعضاء التعاونية في مجالس استشارية بمشاريع بحثية خاصة بإصابات «كوفيد الممتد»، منها مبادرة «أبحاث كوفيد لتعزيز فُرص التعافي منه» Researching COVID to Enhance Recovery، المعروفة اختصارًا بمبادرة «ريكافر» RECOVER)) التابعة لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، والتي تتلقى دعمًا قيمته مليار دولار أمريكي. تقول كيلي أوبراين المتخصصة في العلاج الطبيعي بجامعة تورونتو في كندا، التي شاركت مع المجموعة في دراسة حول تقلب الأعراض: "ما تمكنوا من تحقيقه في هذه الفترة القصيرة كان رائعًا". وأضافت أن دور ماكّوركيل، إلى جانب هانا واي، التي شاركت في تأسيس التعاونية، كان محوريًا في تعديل الدراسة لتيسير مشاركة المرضى الذين يعانون من «كوفيد الممتد».

هناك دراسات جارية حول تأثير تكرار الإصابة بفيروس «سارس– كوف-2» على أعراض «كوفيد الممتد»، وهناك مبادرة لدراسة الحالة في الدول ذات الدخل المتوسطة والمنخفضة. بدأ التعاون في هذا العام بتوزيع مبلغ مقدراه 4.8 مليون دولار أمريكي، مقدَّم من صندوق «بالفي» Balvi الذي أسسه رجل الأعمال الرائد في مجال العملات الرقمية فيتاليك بوتيرين، لدعم مشروعات «كوفيد» ذات التأثير الكبير. ومن ضمن الموضوعات محل الدراسة، التعب الشديد بعد الإجهاد والجلطات الدقيقة.

تقول سواريز، التي تركت وظيفتها كباحثة في الحياة البرية بسبب افتقاد المرونة التي تتطلَّبها حالتها الصحية، إن التعاونية تعمل بنظام ساعات العمل المرنة لإتاحة وقت لأعضائها لأخذ قسطٍ من الراحة عند حدوث الأعراض المتكررة. وتقول ماكّوركيل: "التعاونية لا تتطلَّب من أعضائها العمل المتزامن، وتضع صحتهم في مقدمة أولوياتها".

وفي أثناء ذلك، تعمل ماكّوركيل على تطوير خططها. فمن خلال التعاون مع هيئات حكومية، منها المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، أدركت أن المرضى الذين يعانون من «كوفيد الممتد» يشكلون جزءًا من مجتمع أكبر من ذوي الإعاقة الذين يحتاجون إلى إيصال صوتهم للمسؤولين. تقول: "أتطلَّع إلى أن نُمكَّن من اتخاذ خطوات نحو الأمام، تتمثل في النظر في كيفية تحقيق العدالة لذوي الإعاقة عند وضع أي من السياسات".

 

Credit: Don Feria for Nature

ديانا جرين فوستر: باحثة استقصائية سبرت حقائق الإجهاض

باحثة ديموغرافيا سعت إلى تقصي العواقب المترتبة على قرار المحكمة الأمريكية العليا بالسماح للولايات بحظر الإجهاض.

بقلم: كاساندرا ويليارد

كانت ديانا جرين فوستر تحضر فعاليات المؤتمر السنوي للاتحاد الوطني الأمريكي للإجهاض في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا الأمريكية، عندما كشفت مسودة حكم مُسرَّبة في مايو الماضي عن اعتزام المحكمة العليا الأمريكية إلغاء الحكم التاريخي الصادر عام 1973 في "قضية رو ضد وايد". ولدى استرجاع أحداث تلك الفترة، تقول فوستر، الباحثة في شؤون الإجهاض وعالمة الديموغرافيا من جامعة كاليفورنيا في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية: "عندئذ، بدأ فجأة يردني سيل من المكالمات".

لم يكن الحكم مفاجئًا تمامًا. ففي واقع الحال، غمرت فوستر مخاوف بأن تقضي المحكمة ببطلان ذاك الحكم التاريخي، والذي نص على حماية الحق في الإجهاض، إلى حد أنها كانت قد شرعت بالفعل في التخطيط لدراسة تهدف إلى النظر في أثر التبعات المترتبة على ذلك القرار في الولايات الأمريكية المرجح أن تقرر حظر عمليات الإجهاض. رغم ذلك، شعرت فوستر كما لو أنها قد تلقت لطمة إزاء صدور الحكم. فتقول عن ذلك: "كم تمنيت ألا تكون هناك حاجة قط إلى إجراء تلك الدراسة!".

لاحظت فوستر أن مسودة الحكم أغفلت الحديث عن نتائج فيض من الأبحاث المتعلقة بنتائج الإجهاض، كانت قد قدمتها بالفعل مع باحثين آخرين إلى المحكمة، وقطعت على نفسها عهدًا بأن تحرص على تصبح الأدلة العلمية جزءًا من مداولات قرار المحكمة. من هنا، أمضت كل اليوم التالي على الحكم في مكالمات هاتفية مع صحفيين.

درست فوستر لأكثر من عقدين من الزمن إتاحة موانع الحمل، وفعّالية برامج تنظيم الأسرة. بيد أن الدراسة التي اشتهرت بها بحثت في تأثير جراحات الإجهاض - أو منعها - على صحة الأشخاص النفسية والجسدية والاقتصادية. وتُعرف الدراسة باسم «تيرن أواي» Turnaway Study (أي تأثير الرفض)، وهو اسم مستوحى من تعليق مرتجل تتذكر فوستر أنها سمعته من أحد القائمين على جراحات الإجهاض في عام 2006، قال لها: "أتساءل ماذا يحدث للنساء اللواتي نرفض طلبهن بإجراء جراحة إجهاض لهن؟".

أدركت فوستر أنه من خلال تتبُع نتائج حظر جراحات الإجهاض، يمكن أخيرًا الإجابة عما إذا كان لهذه الجراحات أضرار. ويُذكر أن عددًا من الدراسات السابقة كان قد تناول النتائج المنعكسة على الآباء الذين ينجبون أطفالًا، ومن يُجهض طفلهم. بيد أن "مجموعة المقارنة المنطقية الوحيدة في هذا السياق هي من يريدون [إجراء جراحة إجهاض لطفلهم] ولا تتاح لهم هذه الجراحة"، كما تقول فوستر. ولم يكن أحد من الباحثين قد عقد هذه المقارنة قبلًا.

في ذلك الصدد، تقول لورين رالف، اختصاصية علم الوبائيات من جامعة كاليفورنيا في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية، التي تعاونت مع فوستر في إجراء الدراسة المذكورة: "لم نكن قد توصلنا حقًا إلى آلية محكمة لتوثيق كيف تؤثر قضية الإجهاض في الأشخاص أنفسهم. ثم خرجت علينا فوستر بهذا التصميم الرائع، والمبتكر لدراستها".

أقنعت فوستر وفريقها ثلاثين شخصًا من القائمين على جراحات الإجهاض في جميع أنحاء الولايات المتحدة باستقطاب النساء اللاتي زرن العيادات في أثناء حملهن وخضعن لجراحة إجهاض، بالإضافة إلى أولئك اللاتي اجتزن مدة الحمل المحددة المسموح خلالها قانونًا بالإجهاض في تلك المنشآت ومُنعن من الخضوع لتلك الجراحة. وتتبعت الدراسة أحوال ما يقرب من ألف امرأة على مدار فترة تصل إلى خمس سنوات.

ومن خلال أكثر من خمسين ورقة بحثية خضعت لمراجعة أقران، أوضحت الدراسة أن الخضوع لجراحة إجهاض لا يضر بصحة المرأة أو سلامتها. بيد أن منع الإجهاض يؤدي إلى نتائج سلبية على الصعيد المالي، والصحي، ويضر بالأسر. فمن تُمنعن الإجهاض تكنَّ أكثر عرضة للمعاناة من الفقر، وتربية أطفالهن بمفردهن، كما تواجهن مضاعفات صحية تهدد الحياة ذات صلة بولادة هؤلاء الأطفال.

ففي أحد تحليلات الدراسة، على سبيل المثال، روجعت الأرصدة الائتمانية المالية لمجموعة فرعية من المشاركين بها. وأظهر التحليل أن النساء اللاتي رفضت عيادات جراحات الإجهاض إجراء تلك الجراحات لهن، عانين ضوائق مالية أشد كثيرًا من نظيراتهن اللاتي أُتيح لهن الخضوع لتلك الجراحات (D. G. Foster et al. Am. J.Public Health 108, 407–413; 2018). كما طالتهن أضرار أخرى، مثل الإفلاس والطرد من المسكن.

وفي البداية، كانت لدى كايتلين نولز مايرز، خبيرة الاقتصاد من كلية ميدلبري في ولاية فيرمونت الأمريكية، تحفظات بشأن تصميم الدراسة، إذ ساورتها شكوك بأن من يسعون إلى طلب جراحات الإجهاض بعد فوات الأوان يُحتمل أنهم كانوا بالفعل يعانون مشكلات مالية قبل ذلك. بيد أن تحليل الأرصدة الائتمانية الذي أجرته فوستر، كما تقول مايرز، أظهر أن كلتا المجموعتين، سواء من طالبوا مبكرًا بجراحة الإجهاض، أو من طالبوا متأخرًا بها وحرموا منها، تشابهتا في أرصدتهما الائتمانية، "حتى الوصول إلى تلك اللحظة المحورية في حياة أفراد كل مجموعة منهما ]طلب جراحة الإجهاض[. ثم اختلفت أحوال كل منهما اختلافًا جذريًا عن أحوال الأخرى".

وفي دراسة فوستر التالية، التي دشنتها بعد بضعة أيام فقط من إعلان المحكمة العليا الأمريكية رسميًا في يونيو الماضي بطلان الحكم الصادر في "قضية رو ضد وايد"، قارنت الباحثة بين وضع الآباء الذين قُبل طلبهم بإجهاض طفلهم حتى ما قبل أسبوعين من إنفاذ حظر الإجهاض الذي فرضته الولايات، ومن رُفض طلبهم بذلك. وأظهرت الدراسة، أن الآباء الذين مُنعوا من إجهاض طفلهم، لم تُتح لهم إلا خيارات أخرى قليلة لإنهاء الحمل. وهنا، تضيف فوستر: "لكن في ظل حظر الإجهاض، حري بنا أن نتساءل: مَنْ يمكنه حقًا التحايل أو الالتفاف على قوانين الولاية التي ينتمي إليها". ومن المزمع أن تشمل هذه الدراسة المتحولين جنسيًا، وكذلك الساعين إلى الإجهاض، ممن يشملهم نظام الهوية الجنسية غير الثنائي، لكن هؤلاء الأفراد لم ترصد دراسة «تيرن أواي» أوضاعهم.

 وحول فوستر، تقول كايتي واطسون، وهي محامية وخبيرة متخصصة في أخلاقيات علم الأحياء، من كلية فاينبِرج للطب التابعة لجامعة نورث وسترن، في مدينة شيكاجو بولاية إلينوي الأمريكية، إنها لطالما انبهرت بسعي فوستر الذي لا يفتر للوصول إلى الحقائق. فتصف فوستر قائلة: "إنها عالمة بمعنى الكلمة. تجدها دائما مستعدة، بل وراغبة، لسماع أي نتائج غير مُرحب بها. وعندما يطلق صناع السياسات والناشطون تصريحات دون أدلة تدعمها، يصبح شغلها الشاغل التحقق من صحة تلك المزاعم".

وتأمل فوستر أن تساعد الأدلة التي ستجمعها على مدار الأشهر المقبلة صانعي السياسات في البت بما إذا كان ينبغي لهم تغيير القيود التي تحظر الإجهاض في الولايات. وربما تكون المحكمة العليا الأمريكية قد تجاهلت الجوانب العلمية، بيد أن فوستر تأمل ألا تحذو الولايات الأمريكية الحذو نفسه. فتقول عن ذلك: "عقدت العزم على أن أبذل قصارى جهدي كي يكون بين أيدي المسئولين على مستوى الولايات لدى اتخاذ القرار كافة البيانات المتعلقة بماهية العواقب التي ستنعكس على الأُسر".

 

Credit: Andrew Kelly/Reuters

أنطونيو جوتيريش: دبلوماسي الأزمات

الأمين العام للأمم المتحدة يعتنق دوره كصوت ضمير العالم.

بقلم: أنيتا ماكري

وجَّه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش كلمات شديدة اللهجة لزعماء العالم الذين اجتمعوا لحضور مؤتمر قمة الأمم المتحدة للمناخ في نوفمبر الماضي. فقال مع انطلاق المؤتمر الذي عُقد في مصر: "نحن كمن يقود سيارته على طريق سريع نحو جحيم مناخي، دون أن يرفع قدمه عن دواسة الوقود". وكانت رسالته صريحة وواضحة تمامًا مع اختتام المفاوضات دون إحراز تقدم إضافي ملموس نحو خفض انبعاثات غازات الدفيئة. فقال لأعضاء الوفود: "كوكبنا لا يزال في غرفة الطوارئ".

أصبحت البيانات العامة التي تتميز بجرأتها، والتي تعبر عن صوت ضمير البشرية الحي الطابع الذي يميز روح قيادة جوتيريتش لتلك المؤسسة الأممية. إذ لا يتورع عن الإشارة إلى الإخفاقات وتسميتها بمسمياتها. على سبيل المثال، في تصريح أدلى به لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في عام 2015، عندما كان لا يزال يشغل منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يُذكر أنه قال: "عالمنا تعمه الفوضى".

من هنا، انصب القدر الأكبر من حملاته السياسية، على دعم القضايا البيئية، وخدمة مصالح البلدان منخفضة الدخل، وتحديد الأولويات العالمية، دون مواربة، لكن في الوقت نفسه، ساعدت أيضًا مساعيه الدبلوماسية بمعزل عن الأضواء في تجنب أزمة غذائية جديدة ضربت العالم هذا العام، وفقًا لما صرحت به مصادر مطلعة.

فإبان الغزو الروسي وزحفه الذي لا يزال مستمرًا على أوكرانيا، منعت العمليات الحربية خروج شحنات تحمل ملايين الأطنان من الحبوب من البلدين، وتمثل تلك الشحنات في العادة ما لا يقل عن 30% مما يصل إلى الأسواق العالمية من جميع صادرات القمح والشعير والذرة وزيت دوار الشمس. كذلك فإن ما يقرب من 90% من الصادرات الأوكرانية يمر عادة عبر البحر الأسود. ولما أعاقت العمليات الحربية خروج تلك الشحنات، أمكن أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية ووقوع ملايين الأشخاص في براثن المجاعات.

شارك جوتيريش ومسؤولون آخرون في الأمم المتحدة، من خلال العمل مع شركاء خارجيين، في التوسط لعقد مفاوضات سياسية حرجة وشائكة بُغية إنشاء ممر آمن لشحنات الحبوب، لتوقع الأطراف المُشاركة بتلك المداولات في نهاية المطاف على اتفاقية مبادرة حبوب البحر الأسود في مدينة إسطنبول التركية، في الثاني والعشرين من يوليو الماضي.

تعقيبًا على ذلك، يقول ديفيد مالون، رئيس جامعة الأمم المتحدة في طوكيو: "كان لابد من اتخاذ كثير من التدابير، وحسمها، ليس من جانبه فحسب، بل من جانب عدد آخر من المسؤولين. وعلى الرغم من تبادُل الطرفين لانتقادات حادة، ذهب بالفعل إلى موسكو، وعرض حجته على الرئيس بوتين. ولا شك أن تدخله كان أحد العوامل المؤثرة في حسم الحل".

كنتيجة، انخفضت أسعار المواد الغذائية بنسبة تصل إلى 10% بعد توقيع الاتفاق، ومنذ ذلك الحين، مر ما يقرب من 11 مليون طن من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى عبر البحر الأسود. وبعد فترة عصيبة في أواخر أكتوبر الماضي، انسحب خلالها عدد من القوات الروسية لفترة وجيزة من أوكرانيا، أمكن تمديد الاتفاق في نوفمبر الماضي بمساعدة جوتيريش.

ولعل ذلك الإنجاز يشهد على أثر "الحذر الديبلوماسي في إيجاد حلول متعددة الأطراف"، بحسب تغريدة نشرها جوتيريش على منصة التواصل الاجتماعي «تويتر». كما أن ذلك الإنجاز يدحض الانتقادات الموجهة له، والتي وصفت نهجه في معالجة أزمات العالم المعقدة بأنه مفرط في الحيطة، وأنه يعتمد على الأقوال بدلاً من الأفعال.

وقد تمكن جوتيريش من تنمية مهاراته في التفاوض عبر مسيرة طويلة أمضاها في دوائر الخدمة العامة؛ فقد عمل سابقًا رئيسا للوزراء في بلده البرتغال لفترتين.

وفي ولايته الثانية كأمين عام للأمم المتحدة، يسعى جوتيريش إلى إرساء الاستشارات العلمية كآلية ترتكز عليها عملية صناعة القرار في أعلى مستويات الهيئات التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة، بهدف تحسين سير هذه العملية. وإلى جانب إطلاق عدد من الإصلاحات الداخلية بهذه المؤسسة الأممية، يواصل الضغط من أجل حث قادة العالم وزعمائه على التصدي للمشكلات العالمية. فيقول مانس نيلسون، المدير التنفيذي لمعهد ستوكهولم للبيئة: "يُعد جوتيريش صوتًا مؤثرًا وبالغ الأهمية، في قضايا مواجهة التغير المناخي والحفاظ على التنوع البيولوجي. وهو يكرس قدرته بالأخص لتوحيد الصفوف وحشد رؤساء الحكومات والشركات للتحرك في قضايا العمل المناخي".

ففي الوقت الذي عكفت فيه الدول في نوفمبر الماضي على خوض مفاوضات مؤتمر المناخ، كان بالتوازي يدفع البلدان المشاركة في قمة مجموعة العشرين المنعقدة في مدينة بالي الإندونيسية نحو تبني ميثاق التضامن المناخي. وهو ميثاق من شأنه أن يلزم الدول الغنية بالمساعدة في إسراع وتيرة التحول العالمي إلى الطاقة المتجددة. ورغم جميع التحديات التي تواجه دول العالم، لا يزال جوتيريش يرى بصيصًا من الأمل في المستقبل. فمع تجاوز عدد سكان العالم ثمانية مليارات نسمة في نوفمبر الماضي، قال: "لا أراهن قط ضد الإبداع البشري؛ ولدي إيمان كبير بإمكانات التضامن بين بني البشر".

 

Credit: Rosem Morton for Nature

محمد محي الدين: رائد زراعة الأعضاء

نجح هذا الجراح مع فريقه في زراعة أول قلب معدل جينيًا لخنزير في جسم إنسان.

بقلم: سارا ريردون

في ليلة من شهر يناير هطلت فيها الثلوج، خلد محمد محي الدين إلى النوم في مكتبه في كلية طب جامعة ميريلاند في مدينة بالتيمور الأمريكية، ليتجنب المجازفة بقيادة سيارته إلى المنزل لمدة ساعة. إذ تخوف هذا الجراح المتخصص من احتمال أن يفوِّت حدثًا تاريخيًا كان سيتكشف صبيحة اليوم التالي، ألا وهو: استزراع قلب خنزير معدل جينيًا في جسم إنسان.

كان من شأن تلك الجراحة أن تترجم إلى واقع حلمًا راوده هو وغيره من الباحثين على مدار عقود من الأبحاث، بهدف إثبات إمكان استخدام الخنازير كمصدر للأعضاء للمدرجين على قوائم انتظار الحصول على أعضاء بغية استزراعها لديهم. وقد اقتُرحت فكرة هذه الجراحة، التي تُعرف بنقل الأعضاء بين الأنواع المختلفة (xenotransplantation)، لأول مرة قبل قرون، بيد أن الأطباء نبذوها إلى حد كبير عندما اتضح أن أجسام البشر سرعان ما ترفض استزراع الأعضاء من الأنواع الأخرى بها. مع ذلك، على مدار العقد الماضي، أتاحت التطورات في مجال تقنيات التحرير الجيني للباحثين القدرة على إزالة بروتينات وسكريات، محفزة للجهاز المناعي البشري من الأعضاء المُستزرعة المستمدة من الخنازير، وهو ما يجعل تلك الأعضاء أكثر توافقًا مع الجسم البشري. كما بدأ عدد من الشركات في تربية الخنازير المعدلة جينيًا لهذا الغرض.

وعلى غرار كثير من العلماء الآخرين، تقدم محي الدين بطلب إلى هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) للحصول على إذن باختبار فاعلية أحد تقنيات نقل الأعضاء بين الأنواع المختلفة في تجربة إكلينيكية. وظلت الجهات التنظيمية تطلب مزيدًا من البيانات عن دراسات أُجريت على أعضاء خنازير معدلة جينيًا مستزرعة لدى رئيسيات من غير البشر. (كما صرحت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية بأنها لا تعلق على الطلبات التي يتقدم بها أفراد).

لكن بعد ذلك، في ديسمبر من عام 2021، وجد محي الدين وزميله الجراح بارتلي جريفيث، الذي يعمل أيضًا في كلية طب جامعة ميريلاند، حلًا لتلك المعضلة. آنذاك، كان ديفيد بينيت الذي يبلغ من العمر 57 عامًا طريح الفراش لمدة شهرين بينما كان قلبه يموت ببطء. ولم يكن مؤهلاً للحصول على قلب بشري لاستزراعه به، وبدا من المؤكد أنه عرضة للموت المحقق في وقت قريب، ما جعل محي الدين وفريقه يدرك أن ظروف بينيت تجعله مؤهلاً لتلقي علاجات تجريبية، من ضمنها الخضوع لجراحة نقل قلب مستمد من نوع غير بشري.

وافق بينيت على الخضوع للجراحة، وعلى مدار الأسابيع القليلة التالية، قضى محي الدين وفريقه البحثي الوقت في إرسال بيانات إلى إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عن أكثر من اثنتي عشرة تجربة لزرع أعضاء مستمدة من خنازير في أجسام قردة بابون. بعد ذلك، وجد الفريق أنه بحاجة إلى الحصول على موافقة اختصاصيِّ أخلاقيات علم الأحياء، وإلى تمويل من جامعة ميريلاند، بالإضافة إلى عينات دم من جميع المشاركين بالتجربة (أُخذت قبل الجراحة وبعدها)، وذلك لضمان ألا تنتقل مسببات الأمراض من أعضاء الخنازير إلى أي شخص. كذلك تولى أربعة أطباء نفسيون مهمة التحقق من أن بينيت كان في كامل قواه العقلية عندما وقع على استمارة الموافقة على عملية الزرع.

وأخيرًا، جاءت اللحظة المنتظرة في ليلة رأس السنة الجديدة، عندما وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على تلك الجراحة الطارئة. وخطط الفريق لإجراء الجراحة في السابع من يناير الماضي. وفي الأسابيع التي أعقبت جراحة الاستزراع، أدت عدة إصابات من جراء عدوى إلى تدهور الحالة الصحية لبينيت، التي كانت هشة بالفعل. وأدرك الفريق الطبي لاحقًا أن أنسجة قلب الخنزير المُستزرع كانت مصابة بفيروس استُعصي اكتشافه من فيروسات هربس الخنازير. بيد أنه لم يكن من الواضح ما إذا كان ذلك قد أضر بصحة بينيت، أم لا.

وقد فاجأت أنباء جراحة الاستزراع الباحثين في جميع أنحاء العالم، وغمرتهم بسعادة بالغة. ففي تعليق نُشر في دورية «زينوترانسبلانتيشن» Xenotransplantation، كتب واين هوثورن، رئيس الجمعية الدولية لجراحات نقل الأعضاء بين الأنواع المختلفة: "هذه خطوة كبيرة إلى الأمام في هذا المجال، وإنجاز رائع نسبةً إلى أنها حالة مرض شديد". وعلى الرغم من أن بينيت توفي بعد شهرين من إجراء الجراحة، يمكن القول بأنه عاش لفترة أطول من أي توقع منطقي لأي شخص، بمَنْ فيهم محي الدين، الذي يقول حول ذلك: "لقد عشت ومِت مع هذا المريض. أردته أن ينعم بحياة أبدية. تعلق قلبي بهذا الأمل، لكن عقلي كان يخبرني بأنها ستكون معجزة".

ويقول محي الدين إن فريقه وُجهت له أحيانًا انتقادات من جماعات حقوق الحيوان، ومن باحثين آخرين، فيما يتعلق باختيار الشخص المتلقي للعضو المُستزرع. ويُعقب على ذلك قائلًا: "ثمة آراء عديدة، لكن البيانات صارت في حوزتنا. وهو وضع، في اعتقادنا، أفضل من عدم امتلاكها". مع ذلك، رحب كثير من العلماء والجراحين المتخصصين في زراعة الأعضاء بتلك الأنباء عن الجراحة، وعدوها علامة فارقة أكسبت شرعية لهذا المجال.

جدير بالذكر، أن محي الدين يرحب بإجراء مزيد من جراحات القلب الطارئة التي تنطوي على نقل قلب إلى البشر من نوع آخر غير بشري، ويأمل في تدشين تجارب إكلينيكية أوسع نطاقًا، بيد أن الوقت الذي يمكن أن يتحقق فيه ذلك لم يتضح بعد. ففي يونيو من العام الجاري، عقدت هيئة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية اجتماعًا مع مجموعة من العلماء والشركات للإعراب عن مخاوفها فيما يتعلق بجراحات نقل الأعضاء بين الأنواع المختلفة. وكان الشاغل الرئيسي هو سلامة المرضى، لا سيما احتمالية إصابتهم بعدوى من فيروسات موجودة لدى الخنازير.

لكن تجربة محي الدين، إلى جانب عدد من الدراسات الحديثة التي استُزرعت فيها قلوب وكلى مستمدة من خنازير لاستزراعها في أجسام أفراد يعانون موتًا دماغيًا دون أن ترفضها تلك الأجسام جعلت الباحثين في حالة من التفاؤل. وهو ما يستبشر به محي الدين قائلًا: "لم أتخيل قط أن أشهد حدثًا كهذا في حياتي".

 

Credit: Dee Dwyer for Nature

ألوندرا نيلسون: مسؤولة سياسات العلوم في البيت الأبيض

عالمة اجتماع ترأس مكتب سياسات العلوم في البيت الأبيض وتخطو خطوات واسعة نحو تحقيق الإنصاف والنزاهة والوصول المفتوح للعلوم.

 بقلم: جيف توليفسون

عندما تولت ألوندرا نيلسون رئاسة مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا (OSTP) في الولايات المتحدة في فبراير من العام الجاري، كان المكتب يعج بحالة من الفوضى. آنذاك، كان سلفها في المنصب، عالم الأحياء والرياضيات إيريك لاندر، قد تنحى للتو عن منصبه وسط مزاعم عن ممارسات تنمر وتحرش في مكان العمل، وفجأة انتقل المكتب الذي كان فيما مضى مغمورًا إلى دائرة الضوء العام، عندما أخذ موظفوه الغارقون في المتاعب يبثون شكواهم في وسائل الإعلام المحلية. فجاءت رسالة نيلسون في بداية عملها كقائمة بأعمال مدير المكتب مؤقتًا بسيطة: فلنعد إلى العمل.

حول ذلك، قال موظف بالمكتب طلب عدم الإفصاح عن هويته لأنه غير مصرح له بالتحدث إلى وسائل الإعلام: "كانت مقاربتها ترتكز على تهدئة مخاوف الفريق وحثه على استجماع تركيزه لينصب على السبب الذي يجعلنا في هذا المكان، والهدف الذي نسعى إلى تحقيقه، والكيفية التي ينبغي أن نتفاهم بها مع بعضنا بعضًا. وقد كنا في أمس الحاجة إلى ذلك في تلك اللحظة".

تمكنت نيلسون من بناء مكانتها عبر تقصي الآثار الاجتماعية والعرقية للأبحاث والتقنيات الجديدة خلال عملها كمتخصصة في علوم الاجتماع بمعهد الدراسات المتقدمة في برينستون بولاية نيو جيرسي الأمريكية. كان ذلك النوع من الخبرة هو ما سعى البيت الأبيض للحصول عليه عندما عُيِّنت نيلسون في منصب أول نائب لمدير قسم العلوم والمجتمع بمكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا في عام 2021. وقد تمثلت المهمة الأساسية للمكتب في تنسيق وضع السياسات العلمية بين هيئات الحكومة الفيدرالية. ورأى كثير من علماء الاجتماع أن تعيين نيلسون كان بمثابة بادرة على أن الرئيس الأمريكي جو بايدن على استعداد للوفاء بالوعد الذي قطعه في أثناء حملته الانتخابية بالتصدي للعنصرية وعدم المساواة.

أما نيلسون، التي عملت على تأليف كتاب عن مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا قبل التحاقها بالعمل به، فرأت أن هذا التعيين كان بمثابة فرصة سانحة لتطبيق أبحاثها على أرض الواقع. وحول ذلك، تقول إن حكومة الرئيس بايدن تملك فرصة تاريخية لتعزيز المساواة من خلال سياسات فيدرالية وتدعيم ممارسات النزاهة العلمية عبر الهيئات المختلفة، وتضيف: "إنه حقا لتوقيت رائع لأن تكون جزءًا من حكومة هذا البلد".

قادت نيلسون جهودًا رامية إلى تعزيز النزاهة العلمية، وعملت على وضع مسودة وثيقة حقوق الذكاء الاصطناعي. وقد صدرت الوثيقة في أكتوبر الماضي، وترسي بنودها المبادئ الأساسية لتعزيز المساواة العرقية والاجتماعية، وتدعيم الشفافية وحماية الخصوصية في تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI). كما أشرفت على وضع المبادئ التوجيهية البحثية الأهم والأكثر إثارة للجدل لإدارة بايدن حتى الآن، والتي تدعو جميع الهيئات الفيدرالية إلى ضمان إتاحة البحوث التي تمولها بالكامل للجمهور فور نشرها.

فسيرًا على توجيهات البيت الأبيض الصادرة في عام 2013، والتي فرضت على العلماء المُموَّلين من حوالي 20 هيئة حكومية إتاحة النتائج التي توصلوا إليها في بحوثهم بالمجان في غضون عام واحد من نشرها رسميًا، تُلغِي السياسة الجديدة تلك المُهلة البالغة عامًا واحدًا وتجعل سياسة نشر البحوث بالمجان تنطبق على جميع الهيئات الحكومية. وعلى الرغم من أن مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا ظل يعمل على وضع تلك السياسة لسنوات عديدة، فإن إعلانها كان بمثابة مفاجأة للبعض. وقد أشاد المدافعون عن سياسة الوصول المفتوح للعلوم بهذا الإجراء، معللين لذلك بأنه من الممكن أن يعطي زخمًا لحركة عالمية متنامية. بيد أن ردود الأفعال جاءت مغايرة في أوساط جهات نشر العلوم التي تواجه تحولات جوهرية في صناعتها.

على سبيل المثال، بينما أعربت جهات نشر دوريات علمية عديدة - بما فيها دار نشر «سبرينجر نيتشر» Springer Nature، الجهة الناشرة لدورية Nature - عن دعمها الحذر للسياسة، هاجمت رابطة الناشرين الأمريكيين (AAP) السياسة، بحجة أنها وُضعت دون أية مشاركة ملموسة من صناعة النشر العلمي. (جدير بالذكر أن الفريق الإخباري لدورية Nature مستقل تحريريًا عن الجهة الناشرة للدورية). ورغم أن نيلسون أكدت أن المكتب قد أجرى مشاورات مع الأطراف المعنية في صناعة النشر، فإن تحذيرات رابطة الناشرين الأمريكيين تردد صداها في الكونجرس الأمريكي. وفي خطاب مُرسَل في أكتوبر من العام الجاري إلى مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا، حذرت قيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري باللجنة العلمية بمجلس النواب الأمريكي من أن الحكومة لا يتعين عليها فقط أن تضمن إتاحة الأبحاث الممولة من جهات فيدرالية، بل يجب عليها أيضًا أن تقوم بذلك "بطريقة تجنب العواقب غير المرغوب فيها وتُعظِّم الفوائد العلمية".

كذلك أعربت بعض المصادر المطلعة عن مخاوف تتعلق بما إذا كانت نيلسون قد بذلت ما يكفي من الجهود للوقوف في وجه لاندر منذ البداية، أم لا، عندما كان عدد أكبر من صغار الموظفين يتعرضون لسوء المعاملة. تعقيبًا على ذلك، يقول مسؤول حكومي على دراية بالموقف: "كانت [نيلسون] في الصورة" عندما وقع ذلك. لكن أنصار نيلسون يلقون باللائمة مباشرة على لاندر، وحجتهم في ذلك أن الفارق بين نيلسون ولاندر في حجم النفوذ والسلطات اللتين تمتعا بها كان هائلًا إلى حد حال دون تغلبها على تلك المشكلات بمفردها.

امتنعت نيلسون عن الإجابة عن الأسئلة التي تخص فترة ولاية لاندر، باستثناء تصريح بعد مغادرة الأخير لمنصبه، قالت فيه: "تعيَّن علينا بذل بعض الجهود للعودة بثقافة مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا إلى وضع يمكننا من خلاله التركيز على العلم والتكنولوجيا والسياسات".

وقد عادت نيلسون إلى منصبها الأصلي في المكتب في سبتمبر الماضي، بعد أن صدَّق مجلس الشيوخ على تعيين الفيزيائية أراتي برابهاكار مديرة لمكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا ومستشارة علمية للبيت الأبيض (شغل فرانسيس كولينز، المدير السابق لمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، المنصب الأخير بصورة مؤقتة).

مع ذلك، لا يزال كثيرون يعلقون آمالًا عريضة على ما يمكن لنيلسون تحقيقه؛ فمَنْ يعرفونها أو عملوا معها يقولون إنها تنصت إلى الآخرين، ولديها ذاكرة قوية للأسماء، وتعمل لساعات طويلة، وتمتعت ببراعة في حث زملائها على تقديم أفضل ما لديهم. كذلك فإن الخلفية العسكرية لعائلتها غالبًا ما تظهر خلال تصرفاتها.

حول ذلك، تقول ريبيكا جلوسكين، التي كانت خلال عملها عالمة بيانات في مجلس بحوث العلوم الاجتماعية، وهو منظمة غير ربحية تقع في مدينة نيويورك، قد جمعتها تجربة عمل سابقة مع نيلسون: "كانت مقاربتها في تولي زمام الأمور مثيرة للإعجاب، وترغمك على الالتفات لها".

وتقول نيلسون إنها تركز على مهامها، ولا تزال متحمسة للقيام بها. ورغم مرور عامين على مباشرتها العمل بالمكتب، تقول: "أقرص نفسي كل يوم لكي أصدق ما أنا فيه".

شيري رحمن

وزيرة التغير المناخي الباكستاني

تتطلع هذه المدافعة عن العدالة المناخية إلى البناء على التعهدات التي قطعتها الدول المشاركة في مفاوضات المناخ المنعقدة في مصر في عام 2022 بإنشاء صندوق لتعويض الخسائر والأضرار المناخية.

نالاثامبي كالايسلفي

المجلس الهندي للبحوث العلمية والصناعية

هذه العالمة المتخصصة في الكيمياء الكهربية هي الرئيسة الجديدة لأكبر شبكة من مختبرات الأبحاث في الهند، وأول امرأة تتولى قيادتها.

صن تشونلان

الحزب الشيوعي الصيني

تقود هذه النائبة لرئيس الوزراء الصيني جهود بلادها للتصدي لجائحة «كوفيد-19»، ومن المرجح أن تلعب دورًا بالغ الأهمية في خطط البلاد لتخفيف القيود المفروضة خلال الجائحة.

رينيه ويجرزين

الوكالة الأمريكية للمشروعات البحثية المتقدمة في مجال الصحة

تقود هذه العالمة المتخصصة في مجال الأحياء هيئة أُنشأت العام الجاري بميزانية قيمتها مليار دولار أمريكي، ومن المزمع أن تتولى ويجرزين وضع جدول أعمال الهيئة بُغية إيجاد حلول مبتكرة لمشكلات الطب الحيوي.

أنتوني تايسون

جامعة كاليفورنيا في دايفيس

كان هذا الفيزيائي رائدًا لتقنية تُعرف باسم تأثير عدسة الجاذبية الضعيف، وهي تقنية من المتوقع أن تؤتي ثمارها العام المقبل عندما يدخل تلسكوبان رئيسيان طور التشغيل.