افتتاحيات

الدراسات التي تبحث العلاقة بين الغذاء والصحة بحاجة إلى تحسين كبير

كشف نظامٌ لتصنيف الأبحاث عن وجود ثغرات في الدراسات التي تبحث في العلاقة بين الأنظمة الغذائية وما يتعرَّض له الإنسان من مخاطر صحية.

  • Published online:

هل تناوُل اللحوم الحمراء يُقصِّر العمر؟ بعض الباحثين يعتقدون ذلك بالتأكيد. وهناك دراسات – منها الدراسة التي تحمل عنوان: «دراسة العبء العالمي للأمراض والإصابات وعوامل الخطورة»1 Global Burden of Diseases, Injuries, and Risk Factors Study – هي ما دفعَتْ منظمة الصحة العالمية ووزارة الزراعة الأمريكية إلى حثِّ الناس على الحد من تناوُل اللحوم الحمراء غير المصنعة، لتلافي الإصابة بأمراضٍ عدة، مثل النوع الثاني من داء السكري، وأنواع مختلفة من السرطان.

وهناك من الباحثين مَن لا يملك هذا اليقين، فيما يتعلق بتناوُل اللحوم الحمراء. ومن هنا نلاحظ اختلافًا كبيرًا في مقادير اللحوم الحمراء الموصَي بتناولها بين مسؤولي الصحة العامة ولجان الخبراء: بين مَن يوصي بألا يزيد مقدار ما يتناوله المرء من هذه اللحوم على 14 جرامًا في اليوم الواحد، ومَن لا يضع لتناولها حدًّا من الأصل. وبين أولئك وهؤلاء، يقع الناس في حيرة؛ والحيرة بحد ذاتها ضارةٌ بالصحة العامة.

على أن الأمر لا يقتصر على اللحوم الحمراء، فقد رأينا كيف أن خلافًا مشابهًا دبَّ بين العلماء في التعامل مع الأدلة العلمية التي يستند إليها الكثير من النصائح الغذائية والصحية بوجهٍ عام. ومن هنا تأتي الحاجة إلى نهجٍ جديد، يمكنه مساعدة صانعي السياسات الصحية على تقييم جودة الدراسات التي تقيم المخاطر الصحية المحتملة بصورةٍ أفضل. وقد وضع فريق بمعهد القياسات الصحية وتقييمها (IHME)، التابع لجامعة واشنطن في سياتل، مقياسًا يصنِّف بعدد النجوم جودة الدليل العلمي على وجود صلة بين سلوك معين – مثل تناول اللحوم الحمراء أو التدخين – ونتيجة صحية بعينها2؛ بحيث تشير النجوم الخمس إلى أن الرابط بين الدليل والنتيجة متماسكًا وواضحًا، وتشير النجمة الواحدة إما إلى غياب الرابط بين العنصرين، أو إلى أن الدليل أضعف من أن يتوصل إلى نتيجة مؤكَّدة.

وصحيح أنَّ ما يسميه الباحثون تحليل «عبء البرهان» ليس بكافٍ في حدِّ ذاته لحل أو تفسير القضايا المقلقة، مثل مخاطر اللحوم الحمراء أو فوائد الخضروات؛ إلا أن الاعتماد عليه بوصفه وسيلة لتصنيف جودة البحث المطروح يمكن أن يساعد ممولي الأبحاث على تحديد المجالات التي تتطلب أدلة أفضل للحصول على استنتاجات أكثر تماسكًا.

كيف يُوضع تصنيف النجوم؟ وما المعايير التي يستند إليها؟ وهل يمكن اعتبار المنهجية نفسها بحثًا دقيقًا؟ أجرى فريق معهد القياسات الصحية وتقييمها العديد من التدابير لمحاولة تحديد تأثيرات التحيزات المختلفة في الدراسات موضع التقييم. ربما كانت إحدى دراسات الرصد الوبائي، على سبيل المثال، منحازةً بطريقة أو بأخرى إلى ورقة بحثية تختبر نتائج التدابير الصحية على انتشار المرض. واستبعد الباحثون أيضًا ما يمكن أن يكون مصدرًا شائعًا للتحيز البحثي؛ وهو الافتراض بأن المخاطر الصحية ترتفع ارتفاعًا كبيرًا مع زيادة العنصر قيد الدراسة، مثل ضغط الدم أو مقدار ما يتناوله المرء من اللحوم الحمراء غير المصنَّعة. وحاولوا تفسير التحيز الذي يمكن أن ينشأ عن صِغَر حجم العينات.

وبتطبيق هذا الإطار البحثي على الدراسات التي قيَّمَتْ 180 سؤالًا، توصَّل الباحثون إلى نتائج غير مفاجئة في أغلبها. فالدراسات التي تُقيِّم العلاقة بين التدخين وأنواع مختلفة من السرطانات، على سبيل المثال، حصدت خمس نجوم3. وبالمثل، حصد ارتفاع ضغط الدم الانقباضي – أي الجهد الذي يبذله القلب لضخ الدم – خمس نجوم في توصيف ارتباطه بتضييق الأوعية الدموية المسمى مرض القلب الإقفاري4.

أما الدراسات التي تقيِّم النظام الغذائي ونتائجه الصحية فقد أُعطيَتْ نجومًا أقلَّ بشكلٍ ملحوظ. على سبيل المثال، عثر الفريق الذي أعدَّ تحليل معهد القياسات الصحية وتقييمها على دليلٍ واحد ضعيف على وجود ارتباط بين تناول اللحوم الحمراء غير المصنعة، ونتائج مثل سرطان القولون والمستقيم والنوع الثاني من داء السكري ومرض القلب الإقفاري5. ولم يجد الفريق أي علاقة في الدراسات التي تستكشف ما إذا كان تناول اللحوم الحمراء غير المصنعة يؤدي إلى نوعين من السكتات الدماغية، أم لا. وهناك أدلة أقوى، وإنْ ظلَّت غيرَ قاطعة، على أن تناول الخضروات يقلل من خطر الإصابة بالسكتات الدماغية وأمراض القلب الإقفارية6.

في بعض الحالات، قد ينخفض تقييم دراسةٍ ما تبعًا لانخفاض حجم التأثير الصحي. على سبيل المثال، أي مخاطر صحية من استهلاك اللحوم الحمراء غالبًا ما تكون ضئيلة مقارنة بإجمالي الآثار التي يلحقها التدخين بجسم الإنسان. ثم إن النتائج التي حصدت نجومًا أقلَّ تُظهر، بالدرجة الأولى، أن الدراسات في هذه المجالات تحتاج إلى تحسين من أجل أن تسفر عن نتائج مقنعة.

من الصعب عزل تأثير عنصر غذائي بعينه من بين مجموعة العناصر الغذائية المتنوعة والمعقدة التي يتناولها الشخص على مدار حياته. يحتاج ذلك إلى دراسات أكبر، تضمُّ طيفًا عريضًا ومتنوعًا من المشاركين، مع إخضاع نظامهم الغذائي اليومي لرقابة صارمة. ودراسات كهذه تستلزم تعاونًا بين مجموعات بحثية من مشارب مختلفة، وضمَّ مشاركين يعيشون في ظروف وأوضاع بيئية متباينة؛ وهي خطوة يجب على الممولين تشجيعها، فهي خليقة أن تُمنح الأولوية. علينا أن نفطن إلى أن انخفاض أثر الخطر الذي يتعرض له الفرد لا يعني بالضرورة أن ذلك الخطر قليل الأثر أيضًا على الصحة العامة. لا يبعُد أن يكون هناك سلوك منخفض الخطورة، لكنَّ تأثيرَهُ هائلٌ على مستوى الجماعات السكانية على جملتها، إذا كان شديد الشيوع.

تُبرز الدراسات المُجراة في مجال البحث والابتكار المسؤولَين أهمية إعادة تقييم المقاييس التي يستند إليها العلم على الدوام، وذلك من أجل تحديد مدى تماسكها ودقتها. يجب أن تُجرى مشاورات واسعة، ويجب أيضًا – كلَّما كان ذلك ممكنًا – التحسُّب من العواقب غير المقصودة لاستخدام مثل هذه المقاييس، وهو الأمر الذي دعت إليه مبادرات عدَّة، نذكر منها «إعلان سان فرانسيسكو بشأن تقييم البحوث»، و«دليل لايدن». لا بد من الإقدام على المشاركة في تلك الجهود، عاجلًا غير آجل.

بين أيدينا شواهدُ على أن الدراسات الإكلينيكية الضعيفة، التي تفتقر إلى الضوابط اللازمة للبرهنة على تماسك بياناتها، قد ثَبَتَ أنها غير مفيدة. وما لم تُكرِّس جهات التمويل جهودها لإنتاج بيانات عالية الجودة، فسوف يُترك الناس يتخبَّطون في متاهات الارتباك، والضجر، والارتياب، والحرمان من المعلومات التي تشتد حاجتهم إليها لاتخاذ خيارات صحية واعية، واتباع أسلوب حياة مدروس. 

References

  1. GBD 2019 Risk Factors Collaborators Lancet 396, 1223–1249 (2020). | article
  2. Zheng, P. et al. Nature Med. https://doi.org/10.1038/s41591-022-01973-2 (2022). | article
  3. Dai, X. et al. Nature Med. https://doi.org/10.1038/s41591-022-01978-x (2022). | article
  4. Razo, C. et al. Nature Med. https://doi.org/10.1038/s41591-022-01974-1 (2022). | article
  5. Lescinsky, H. et al. Nature Med. https://doi.org/10.1038/s41591-022-01968-z (2022). | article
  6. Stanaway, J. D. et al. Nature Med. https://doi.org/10.1038/s41591-022-01970-5 (2022). | article