كتب وفنون

حين تتحد الفيروسات مع المظالم الاجتماعية

«كوفيد-19» ينضمُّ إلى قائمة الأمراض التي تفضح استمرار العنصرية والفقر.

جينيفر هوكشيلد
  • Published online:
سكان منطقة هارليم في مدينة نيويورك في انتظار الخضوع لفحص «كوفيد-19».

سكان منطقة هارليم في مدينة نيويورك في انتظار الخضوع لفحص «كوفيد-19».

Credit: Angela Weiss/AFP/Getty

أظهرت جائحة «كوفيد-19» كيف أن المظالم الاجتماعية، والاقتصادية، والعرقية، والسياسية تتحد مع غياب العدالة في تقديم خدمات الرعاية الصحية، بل وتدفع إلى هذا الغياب دفعًا. فالأشخاص الذين يعيشون وسط الزحام، ومن يعانون من حالات مرضية سابقة على الإصابة بالعدوى الفيروسية، وأولئك الذين يعملون لدى جهات تُحتِّم عليهم التعامل مع الجمهور دون توفير الحماية الكافية، قد وقع عليهم الضرر قبل غيرهم، ووقع عليهم أشدَّ مما وقع على غيرهم. وقد رأينا كيف أن الفيروسات – بدءًا من شلل الأطفال، الذي ظهر في خمسينات القرن الماضي، مرورًا بفيروس نقص المناعة البشرية، في الثمانينيات، وصولًا إلى كارثة الإيبولا في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين – تنتشر جنبًا إلى جنبٍ مع صور الغياب البنيوي للعدالة.

وكتاب ستيفن ثراشر، الذي وضعه تحت عنوان: «الفيروسات والطبقات المهمَّشة» The Viral Underclass،يلقي الضوء على صور غياب العدالة هذه، مستعينًا بدراسات حالة بالغة الدلالة لأشخاص في الولايات المتحدة، اجتمعت عليهم الفيروسات والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة. تتنوع الأمثلة الواردة في الكتاب من مايكل جونسون – هذا المصارع الذي كان يلعب في فريق جامعته – والذي حُكم عليه بالسجن ثلاثين عامًا لإقدامه على ممارسة الجنس دون حماية وهو مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية، إلى السود قاطني بروكلين في نيويورك، الذين لم يتمكنوا من تقليل خطر الإصابة بمرض «كوفيد-19» بالفرار إلى الريف أو العمل من المنزل.

يتضمن الكتاب بحث ثراشر الأصلي، وتحليلات لدراسات باحثِين آخرِين، إلى جانب تأملات في الهياكل السياسية والاقتصادية، والمفاهيم التحليلية والفلسفية. وإذا كان ثراشر قد حصل على الدكتوراه في الدراسات الأمريكية، وسبق له أن نشر دراسات في دوريات أكاديمية، إلا أنه في الأساس صحفي استقصائي. وكتابه«الفيروسات والطبقات المهمَّشة» هو في جوهره عمل وصفي يرمي إلى حشد الرأي حول القضية التي يطرحها. فإذا عمدتُ إلى تقييم الكتاب من زاوية علم اجتماع، سأجده دقيقًا ومتفكِّرًا، لكن يعتريه نقصٌ من الوجهة التحليلية؛ والحقُّ أنني في أثناء القراءة لم أفتأ أدوِّن هوامش من قبيل: "ولكن ماذا عن كذا؟". أما إذا نظرت إلى الكتاب على أنه يجسد مطلبًا سياسيًا وأخلاقيًا، فإنني أرى أنه مؤثر وماتع إلا أنه غير كافٍ. لذلك تجد أنني كثيرًا ما دوَّنت في هوامشي هذا التعليق: "ولكن ما العمل؟".

يستهل ثراشر كتابه بملاحظة جديرةٍ بالاعتبار، توصل لها مع بدء انتشار «كوفيد-19» في نيويورك في مارس من عام 2020: وهي أن خرائط المناطق التي يرتفع فيها خطر الإصابة بعدوى «سارس-كوف-2»، والوفاة الناجمة عنها، كانت هي نفس الخرائط التي تُظهر الأماكن التي ترتفع فيها احتمالات أن يصاب الناس بفيروس نقص المناعة البشرية، أو يُودَعوا في السجن، أو يتعرَّضوا للمضايقات على أيدي الشرطة.

يؤكد ثراشر أن الفيروسات، شأنها شأن غيرها من الكوارث، كالفيضانات والحرائق، لا تتعمد التمييز بين البشر، لكن"آثارها تنطوي على تمييز ضد أجسام الطبقة المهمّشة؛ لأن تلك الأجسام وُضعت بالقرب من مواضع الخطر، من خلال التصميم الهيكلي الذي يضعه أصحاب النفوذ". وهو تصميمٌ يضم الرأسمالية، والعنصرية، وتدمير البيئة، والتمييز بين الأنواع، والتمييز ضد ذوي الإعاقة، والمعيارية المغايرة، وإلحاق الخزي بالأفراد، بالإضافة إلى مفهوم «دولة القمع» (التي يُخضَع فيها الناس بأن تسلَّط على رقابهم سيوف التجريم والسجن)، ناهيك عن الأسطورة القائلة بأن البيض بمنأًى عن الشرور الاجتماعية: من الإصابة بالأمراض حتى المعاملة الظالمة. أما التأثير الكلي لهذه العوامل جميعًا، فإنه، على حد وصف ثراشر، هذا الإصرار الغريب والضار الذي تُبديه الولايات المتحدة في التأكيد على المسؤولية الفردية، حتى في مواجهة الاحتياجات المشتركة، والأوجه العديدة لغياب العدالة.

تتخلَّل قصة جونسون فصولًا عدَّة من الكتاب. جونسون رياضي من أصحاب البشرة السمراء، استقطبَتْه جامعة صغيرة في ولاية ميزوري. وفي عام 2013، اتُّهم بممارسة الجنس دون وقاية مع خمسة رجال على الأقل، دون أن يخبرهم بأنه مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية. أصر جونسون على براءته من هذه التهمة المنسوبة إليه، لكن صَدَر بحقه في عام 2015 حُكم بالسجن لفترتين متزامنتين، مدة كل منهما 30 عامًا. احتج الكثيرون على الحكم، وأُطلق سراحه في عام 2019 بعد أن رأت محكمة الاستئناف أن محاكمته "غير عادلة من الأصل".

أما حالة أندرو كومو، الحاكم السابق لولاية نيويورك، وينتمي إلى الحزب الديمقراطي، فتسلط الضوء على آليةٍ مختلفة، ظهر فيها كيف أن قرارًا يتخذه شخص من أصحاب السلطة قد يُؤثر في عدد كبير من أشخاص قليلي الحيلة. ففي أثناء الفترة التي شغل فيها كومو منصب حاكم الولاية، صدر في الخامس والعشرين من شهر مارس 2020 قرار استشاري يدعو دور رعاية المسنين في نيويورك إلى قبول الأشخاص المراد إيداعهم المستشفيات بسبب تعرُّضهم للإصابة بمرض «كوفيد-19»، سواءٌ أكانت الإصابة مؤكدةً أو مشتبهًا بها، طالما كانت حالتهم مستقرة طبيًا. ولم يُسمح لهذه الدُّور بأن تُخضع للاختبار الأشخاص المنقولين إليها على خلفية إصابتهم بمرض «كوفيد-19». وعليه، قد نُقل أكثر من 6 آلاف شخص مصاب بالمرض من المستشفيات إلى دور رعاية المسنين قبل الثامن من مايو 2020، حين تغيرت السياسة، كما وجَّه مسؤول في إدارة الرئيس الأمريكي آنذاك، دونالد ترامب، اتهاماتٍ لكومو بأنه بثَّ "بذور العدوى التي أودت بحياة الآلاف من الجدات والأجداد"، وهو رأيٌ يوافقه عليه بعض الديمقراطيين.

لا ريب أن ثراشر صحافيٌّ استقصائي ممتاز؛ يستطيع القارئ أن يتبيَّن الكيفية التي يسرد بها قصصه بطرق معينة، ويستشفَّ دوافعه وراء ذلك. ومع متابعة القراءة، ترى القارئ وهو يشعر بالأمل حينًا، وبالسخط واليأس أحيانًا؛ لكن القصص تطرح الكثير من الأسئلة، ولا تجد لها من مُجيب. ألم يكن من قبيل الاستغلال الأساسي الفادح أن سُمح لجونسون في اجتياز مرحلة التعليم الثانوي، على الرغم من أنه كان بالكاد "يفكُّ الخط"، وأنه ما قُبِل بالجامعة إلا لسبب وحيد، وهو أنه سيكون مكسبًا لفريق المصارعة بها؟ فيمَ يُلام كومو (حسبما يتساءل هو وأتباعه) إذا كان قد اتبع أفضل الإرشادات الطبية لإعادة تأهيل كبار السن خلال الأشهر الأولى المفزعة من عام 2020؟

يفترض ثراشر في كتابه أنه إذا تسلَّح الآخرون بالرؤية الصحيحة والمعلومات المؤكدة، فإن قيمهم ستقودهم لتأييد مقترحاته الاجتماعية والسياسية. كذلك يرى ثراشر أن معرفة السياق الصحيح سوف تدفعنا حتمًا إلى الاتفاق على أن جونسون لا يستحق عقوبة سجن كبيرة، وأن حكومة الولايات المتحدة فشلت إلى حدٍّ بعيد في نشر دواء فيروس نقص المناعة البشرية، لا لشيءٍ إلا لأن "الأولوية كانت لحماية أرباح أصحاب شركات الأدوية والملكية الفكرية على حساب حماية الصحة العامة". قد يكون ثراشر محقًا في كلتا النقطتين، ولكن إذا كنا قد تعلمنا شيئًا واحدًا من السياسة الأمريكية في الآونة الأخيرة، فهو أنه لا يمكن أن نفترض أن الأشخاص، وإن اتفقوا من حيث المبدأ على إعلاء العدالة والكرامة الإنسانية، لا يتفقون بالضرورة على السياسات والممارسات الخليقة بتحقيقهما.

مَن يتفقون بالفعل مع آراء ثراشر سيجدون في كتابهالحافز والأدلة، أما المختلفون معه فقد لا يجدون شيئًا من ذلك. كان حريًّا به أن يقدم مزيدًا من الأدلة لغير المقتنعين بأن الولايات المتحدة تضم طبقة مهمَّشة، أو على الأقل أن أعضاء طبقة كهذه غير مسؤولين عن الأوضاع التي يعيشون فيها. ما الذي يجب القيام به؟ يضع الكتاب قائمةً طويلة، مسهِبةً في الطول، من التصاميم الهيكلية الظالمة؛ ولا يكفي أن نستنتج – كما فعل ثراشر – أنه "إذا استقرَّ في ضميرنا أن «الأنا» و«الآخر» ليسا منفصلين، وأننا نواجه تحديات مشتركة، فإن التسلسلات الهرمية قد تمَّحي". أتمنى ذلك، لكن التاريخ يخبرنا أن الالتزام بالصالح العام لا يعني رفض التسلسلات الهرمية.

لا يغيب عن ثراشر، بالطبع، أن التزامه الأخلاقي في حد ذاته لا يمثل خطة عمل، ولا حتى بدايةً لخطة عمل، ولذا، فهو يعرض مقترحًا آخر مفاده: وهو أن الفيروسات "ربما تقدم لنا أفضل إمكانية لتبني أخلاقيات جديدة في تقديم الرعاية"، وأنها "قد تساعدنا على خلق عالم قائم على الحب والاحترام المتبادل لجميع الكائنات الحية".

كم أتمنَّى لو أن ثراشر على صواب، لكنني أعتقد أننا بحاجة ماسة إلى إجراء نقاش جاد حول الإصلاحات الهيكلية للعقاب الجماعي الذي يفترضه.

جينيفر هوكشيلد: باحثة علوم سياسية في جامعة هارفارد بمدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية.

البريد الإلكتروني: hochschild@gov.harvard.edu