كتب وفنون
دعونا نتعلم من جائحة «كوفيد»: وصفة بيل جيتس للتعامل مع الجائحة القادمة
أفكار هذه الشخصية الرائدة في ميدان العمل الخيري بحاجة إلى أن تُرفَد برؤى خبراء العلوم السياسية.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-022-01614-1
- English article
- Published online:
العقبات التي تعترض سبيل مكافحة الجائحة القادمة هي عقبات سياسية بقدر ما هي تقنية.
Credit: Kent Nishimura/Los Angeles Times/Shutterstock
«كيف نتجنب الجائحة القادمة» How to Prevent the Next Pandemic
بيل جيتس
دار نشر«نوبف» Knopf - 2022
لم تكن جائحة «كوفيد-19» حدثًا مفاجئًا تمامًا. فعلى مدى أعوام، كان الخبراء في كافة أنحاء العالم يتنبؤون بهجوم فيروسي يشمل العالم بأكمله، وينادون باتخاذ الخطوات اللازمة لتجنُّبه. إلا أن زعماء العالم، في عمومهم، لم يفعلوا الكثير لتفادي تحقق تلك التوقعات. واليوم، إذ لا نزال نشهد انتشار فيروس «كوفيد-19»، أصدر بيل جيتس كتابه الجديد الذي يمكن اعتباره بيانًا يعرض تصوره للخطوات اللازمة لتجنب وقوع الجائحة القادمة، في لغة بسيطة يفهمها الجميع، حتى قادة العالم الغرقى في شواغلهم السياسية. في هذا الكتاب، يطرح جيتس، من موقعه بوصفه رائدًا في العمل الخيري، يوجه اهتمامه بصفةٍ خاصة إلى مجال الصحة، أفكارًا طموحة وقابلة للتنفيذ، لكنها قبل هذا وذاك خليقة بإنقاذ الأرواح، إذا ما أخذ بها الزعماء السياسيون.
يستهل جيتس الكتاب بعبارة مباغتة: "دعونا نتعلم من جائحة كوفيد". أما أحد أهم الملاحظات التي يتضمنها الكتاب فهي أن أكثر دول العالم ثراءً طالما أساءت تقدير الأمور، بينما نحجت بعض الدول والمجتمعات التي لا تملك نفس الموارد في التأهب لها. على سبيل المثال، أجرت فيتنام تجارب محاكاة لانتشار الجوائح، وهو ما لم تفعله معظم الدول الأوروبية؛ إذ يسوق جيتس في كتابه مثالًا على تجربة محاكاة أجرتها فيتنام، عندما أدخلت متطوعين يؤدون أدوار المرضى إلى غرف الطوارئ في مستشفيات تقع في شمال شرق البلاد لتختبر قدرة الأطباء على اكتشاف الإصابات المتخيَّلة بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية وتشخيصها بدقة. أوضحت هذه التجربة وجود قصور في تداول المعلومات عن الانتشار المحتمل للفيروسات، ومن ثم تصدت السلطات لتصحيحه. كما أن الجهود التي بذلتها جنوب إفريقيا ونيجيريا لتعزيز قدرة المختبرات لديها كان لها أكبر الأثر في نجاح هاتين الدولتين في اكتشاف سلالات الفيروس المتحوِّرة بصورة أفضل مما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا، يقدم لنا الجنوب العالمي دروسًا جديرة بالتأمل، إذا وجد الخبراء الأمريكيون والأوروبيون في أنفسهم التواضع الكافي ليتعلموا منها.
يشبّه جيتس الجائحة بالحريق، ليذكّرنا أنها تتطلب تكاتف الجهود، إذ يقول: "كان البشر يدركون، على مدى ما يقرب من ألفَي عام، أن العائلات والمؤسسات التجارية لا تضطلع وحدها بمسؤولية حماية أنفسها من الحرائق". ذلك أن الحكومات لها دور كبير: من توفير التمويل اللازم لشراء وحدات الإطفاء (ما يقرب من 50 مليار دولار أمريكي سنويًا في الولايات المتحدة)، حتى إصدار القوانين التي تحد من الاختيارات المتاحة أمام المواطنين (مثل منع استخدام القش في بناء أسطح المنازل). ولنا أن نقول إن جيتس قد وُفِّق في تشبيهه هذا، بالنظر إلى أن الجائحة لا تزال مستعرة. لكننا، على ذلك، نشهد في الوقت الحالي إلغاء بعض التدابير القانونية التي كانت قد أثبتت فاعلية كبيرة في الحد من انتشار الجائحة مثل، فرض ارتداء الكمامات الطبية، جراء تراجع المواطنين والسلطات القضائية عن التمسك بتلك التدابير.
تتضمن المقترحات التي يقدمها جيتس في الكتاب تكوين فريق عالمي من الخبراء في علم الأوبئة، أطلق عليه اسم «جيرم» GERM، الذي يتألف من الأحرف الأولى من المسمى الإنجليزي الذي يقابله في العربية: «الاستجابة والتعبئة العالمية في مواجهة الجائحة». ويقترح جيتس إشراف منظمة الصحة العالمية عليه بتكلفة تقدر بمليار دولار أمريكي سنويًا، بحيث يكون لهذا الفريق ممثلون في حكومات الدول المختلفة بهدف رفع كفاءة فِرَق مكافحة الجائحة التي تعاني في الوقت الراهن من التفكك ونقص الموارد. كما يدعو جيتس للإسراع في ابتكار اللقاحات والعلاجات اللازمة لمجابهة الفيروس، مناديًا بأهمية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير وتقنيات تناول اللقاحات مثل اللصقات والأقراص الفموية، وابتكار مجموعة كبيرة من المستحضرات الطبية الواعدة، وإفساح المجال للشركات القادرة على إنتاج اللقاحات، وغير ذلك من الخطوات. كما يدعو جيتس إلى إجراء فحوص استباقية لمياه الصرف، حتى يتمكن الباحثون من "البحث عن إشارات في البيئة" تساعدهم على اكتشاف التفشيات الفيروسية مبكرًا.
ومن بين أهم النقاط التي يثيرها الكتاب، ما ذهب إليه جيتس من أن مصلحة العالم أجمع تقتضي قدرتنا على تتبع أسباب الوفاة في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ساد في بدايات انتشار جائحة «كوفيد-19» اعتقاد – وهو اعتقاد خاطئ – بأن الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط لم تتأثر تأثرًا فادحًا بالمرض، على نحو ما حدث في الدول الغنية. وقد ساهم هذا الرأي في بعض الأحيان في تبرير التفاوت الذي شهدناه في توزيع مخصصات التمويل واللقاحات وغيرها من الموارد لصالح الدول الغنية. ولكن على أرض الواقع، يُلاحَظ أن معدلات الوفيات لم تنخفض في الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط عنها في سائر البلدان، وإنما نَتَج هذا الانطباع عن ندرة بيانات الوفيات؛ وليس أدلَّ على ذلك من أن دولة مثل الهند قد شهدت أعلى معدلات الوفيات بفيروس «كوفيد-19» على مستوى العالم (H. Wang et al. Lancet 399, 1513-1536, 2022). وفي الحق أن بيانات الصحة العالمية غالبًا ما تفيد بعض الفاعلين السياسيين، ولكن لا تعين قادة المجتمعات المحلية على إصدار قرارات تتعلق بالصحة العامة، يستعرض جيتس أفكارًا مبتكرة، مثل عمليات التشريح بتدخلات جراحية محدودة، كتلك التي أُجريت عليها التجارب في موزمبيق ودول أخرى، بهدف تسهيل حصر الوفيات جراء الإصابة بالفيروس.
يبُرز جيتس في كتابه، الذي يحمل عنوان: «كيف نتجنب الجائحة القادمة»How to Prevent the Next Pandemic ، الدور الذي لعبته «شبكة تجارب لقاحات فيروس نقص المناعة البشرية» HIV Vaccine Trials Network في عملية ابتكار لقاحات «كوفيد-19»، كما يلقي الضوء على الدور المحوري الذي لعبه العاملون في مجال مرض شلل الأطفال في التعامل مع فيروس «إيبولا» في غرب إفريقيا. فالجهود المبذولة الآن في التصدي للجوائح والأوبئة، مثل فيروس نقص المناعة البشرية والسل وشلل الأطفال، تعيننا على التأهب لمواجهة التحديات في المستقبل. وبينما يسعى «الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا» Global Fund to Fight AIDS, Tuberculosis and Malaria لتعزيز موارده المالية، ويفكر العالم في آليات جديدة لتمويل خطوات الاستعداد لاندلاع الجوائح، يعرض جيتس الإجراءات التي ثبتت نجاعتها بالفعل؛ الأمر الذي يلفت أنظارنا إلى أن إنشاء صندوق لتمويل جهود مواجهة الجوائح في المستقبل قد لا يكون بأهمية توسيع مصادر التمويل القائمة بالفعل.
تمكّن جيتس في كتابه من تبسيط المعلومات العلمية المعقدة، وعرض جوانب الابتكارات العلمية والتكنولوجيا والسياسات بأسلوب يجمع بين السلاسة والعمق. كما يؤكد العرض الذي يقدمه الكتاب أن العائق الأكبر الذي يحُول دون تجنب الجائحة القادمة ليس عائقًا تقنيًا في المقام الأول؛ إذ يؤكد جيتس أن لدينا حلولًا عديدة قابلة للتنفيذ ومدعومة بالدلائل العلمية ومنخفضة التكلفة، ومع ذلك لم تنفَّذ بعد.
أمَا وقد قدَّمنا ذلك، فلعلَّ من المناسب هنا أن نعرِّج على ثغرة محيرة تعتري الكتاب. فقد تعمق جيتس، بوصفه من أبرز رواد العمل الخيري، في الدراسات العلمية في عرضه لسبل مواجهة الجائحة، ولكنه لم يلتفت إلى الأفكار التي يقدمها مجال العلوم السياسية، الذي يمكن أن يساعدنا على تفسير عدم الأخذ بالتوصيات المضمَّنة في ثنايا الكتاب. يقول جيتس، بنبرة ملؤها الاستنكار والامتعاض، إن بعض التعليمات التي أصدرتها «المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها» جاءت مدفوعة باعتبارات سياسية. ولكننا نعلم أن العديد من الدراسات المتعمقة في مجال العلوم الاجتماعية، التي خرجَتْ إلى العلن على مدى سنوات، قد تحرّت الدور الذي تلعبه السلطة السياسية في صياغة كافة السياسات الصحية.
يحث جيتس في الكتاب منظمة الصحة العالمية على التعاون مع الدول الأعضاء من أجل التوصل لطرق أفضل لتطبيق الضوابط الصحية العالمية وتشجيع نشر المعلومات المتعلقة بالجائحة، وهو ما تقوم به بالفعل. ولكن، كما أوضح الباحثون في مجال العلاقات الدولية، تفتقر المنظمة إلى الصلاحية السياسية التي تخوِّل لها التحرك بمفردها، مما يجعلها عاجزة عن حمل الدول على اتخاذ قرارات تتعارض مع مصالحها قصيرة المدى (مثل فرض الحظر على السفر). كذلك، يشير المحللون السياسيون إلى أن إدخال التغييرات على أنماط الحوكمة العالمية – مثل تعزيز سلطة منظمة الصحة العالمية في تقديم التمويلات الطارئة، أو التشاور مع مسؤولي الحكومات وغيرها من المنظمات الدولية من غير العاملين في مجال الصحة – ربما يفُوق على مقياس الأهمية تحقيق التطورات التكنولوجية.
وفوق ذلك، يدعو جيتس في الكتاب لإتاحة اللقاحات بالمجان في كافة أنحاء العالم؛ ولكنه يعارض الاستثناء الذي تعتزم منظمةُ التجارة العالمية العملَ به، والذي سيتيح للحكومات حرية اختيار البنود التي تلتزم بها أثناء الجائحة فيما يتعلق ببراءات إنتاج لقاحات «كوفيد-19». تبرّر المنظمة تلك الخطوة بأنه من الأفضل ترك الأمر للشركات المنتجة للقاحات لتحديد ما إذا كانت ترغب في نشر المعلومات عن تقنيات إنتاج اللقاحات. وهذه الشركات لن ترغب بطبيعة الحال في الكشف عن مثل هذه المعلومات ما لم تتدخل الحكومات لإرغامها على ذلك، إذ كان لتدخل الحكومات دور محوري في تخفيض أسعار أدوية مرض الإيدز بنسبة 99% خلال العقد الأول من هذا القرن.
يكشف لنا حقل العلاقات الدولية كثيرًا من الخبايا عن مسلك الحكومات خلال جائحة «كوفيد-19»، والعوامل التي يمكن أن تغير هذا المسلك. على سبيل المثال، نجد مبادرة «كوفاكس» COVAX قد أخفقت في تحقيق أهدافها بسبب تراجع الدول والشركات عن تعهداتها، وإعلائها النزعات الوطنية عندما يتعلق بتوزيع اللقاحات في الخارج، وهو ما جاء مطابقًا للتوقعات التي قدمتها لنا الدراسات المعنية بالتقاطعات بين السياسات المحلية والدولية. وربما كان بمقدور تلك الدراسات، إذا أُفسح لها المجال، أن تقدم بعض المشورة للقائمين على خطة «كوفاكس»، الساعية لتحقيق العدالة في توزيع اللقاحات على مستوى العالم، من خلال تنبيه القائمين على الخطة لبعض الفرضيات المغلوطة التي انساقوا وراءها، والتي عصفت بما كانوا يطمحون إليه: إتاحة اللقاحات أمام ملياري نسمة خلال عام 2021.
يقدم جيتس في هذا الكتاب طرحًا قويًا، لا تعوزه الأدلة والبراهين، مفاده أن العالم لم يصل حتى الآن لمرحلة التعامل بفاعلية مع الجائحة، وأنه لا يزال غافلًا عن عدد من الابتكارات المهمة، ورافضًا تمويل بعض الجهود التي قد تنقذ حياة ملايين البشر، وتوفر الكثير من الأموال. ولو أننا تعاملنا مع هذه الإشكاليات من منظور العلوم السياسية، فقد نتبيَّن سُبل معالجتها في عالمنا الذي نعيش فيه.
ماثيو إم. كافانو: باحث يدرِّس الصحة العالمية والقانون الدولي في جامعة جورجتاون بمدينة واشنطن العاصمة، ويشغل منصب مدير «مبادرة إجراءات وسياسات الصحة العالمية» في معهد أونيل للقانون الصحي المحلي والعالمي.
البريد الإلكتروني: matthew.kavanagh@georgetown.edu
يُقر المؤلف بوجود تعارض للمصالح. للمزيد، انظر: go.nature.com/3mp85dj.