رؤية كونية

الميكروبيوم البشري: لا يزال علينا فعل الكثير

الميكروبيوم البشري: لا يزال علينا فعل الكثير

روث لاي

  • Published online:

B. STEINHILBER/MPIFOR BIOLOGYTÜBINGEN

في شهر يونيو الماضي، حلَّت الذكرى السنوية العاشرة لأول مسحٍ كبيرٍ للتنوع الميكروبي في جسم الإنسان، والذي نشره في دورية Nature اتحادُ مشروع الميكروبيوم البشري (HMP)، الذي كنتُ عضوةً فيه.

قبل ذلك، كان أخر ما توصل إليه علماء الأحياء الدقيقة أنَّ الجسم يستضيف كتلةً كبيرةً من الكائنات الدقيقة، عبارة عن مزيجٍ مهول من البكتيريا والعتائق والفطريات والفيروسات، ينتشر على الجلد وفي الفم والأمعاء، ويُطْلَقُ عليه اسم الميكروبيوم. لكن حتى عام 2012، لم نكن قد توصلنا بعد إلى القائمة الكاملة لتلك الكائنات.

بل وفي حقيقة الأمر، لم تكتمل حتى الآن تلك القائمة، التي هي عبارة عن فهرس لعشرة تريليونات خلية تخص آلاف الأنواع، ويبلغ وزنها مجتمعةً في جسم كل واحدٍ منا 200 جرام. والآن حان الوقت لنبني على تلك الجهود السابقة (Human Microbiome Project Consortium Nature 486, 207–214; 2012)، ونُحيي المشروع لتوصيف البشرية بكل ما فيها من تعقيد.

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلًا لبدء هذه الجهود، ووتيرةُ التغيرات في المجال على مدى الأعوام العشرة الماضية كانت مذهلةً. ولم يكن مشروع الميكروبيوم البشري ليرى النور لولا انخفاض تكلفة تقنيات تحديد التسلسل الجيني عالية الإنتاجية - التي طُوِّرَتْ في البداية لدراسة الجينوم البشري – وسهولة استخدامها بما يكفي.

بعد انطلاق المشروع عام 2007، عيَّن الاتحادُ القائم عليه تسلسلَ الحمض النووي للميكروبات الموجودة داخل وعلى أجسام 242 شخصًا من مدينتين أمريكيتين، هما مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، ومدينة هيوستن في ولاية تكساس، وقد وقع الاختيار على تلك المدينتين لقربهما من مركزي تحديد التسلسل الجيني الرائدين في ذلك الوقت، وهما معهد برود القريب من بوسطن (التابع لكلٍ من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد)، وكلية بايلور للطب في هيوستن. وكانت أنشطتنا تُموَّل من الصندوق المشترك للمعاهد الوطنية الأمريكية للصحة. واستقطب المشروع أكاديميين متخصصين في مجال المعلوماتية الحيوية للميكروبيوم، وذلك لتحليل البيانات بعد أن نتوصل إليها.

وكانت نتيجة جهودنا هي أول فهرس شامل لميكروبيوم البشر الأصحاء في الولايات المتحدة، أي قائمةٌ كاملة لجينات ميكروبات الأمعاء. وهكذا، بيَّن مشروع الميكروبيوم البشري أنَّ الكائنات الخلوية في الأمعاء تشمل آلاف الأنواع، وأنَّ بصمتها الجينية أكبر بمئة وخمسين مرة من الجينوم البشري. وفي النهاية، دفعت هذه الوفرة علماء الأحياء إلى النظر إلى الميكروبيوم على أنَّه "جينوم ثانٍ" مُكتَسَب من البيئة، ومخفي في أجسامنا.

والآن، بعد عشرة أعوام، صرنا نعرف أكثر بكثير؛ إذ تبيَّن أنَّ الميكروبيوم ضروري لتؤدي أجسامنا وظائفها كما ينبغي، وله دورٌ أساسي في عملية هضم الطعام وصد مسببات الأمراض. وأوضحت التجارب المُجراة على الفئران أنَّ تركيب الميكروبيوم يؤثر في مستويات المشاركة الاجتماعية والقلق. واكتشفنا كذلك أنَّ بعض الأمراض الشائعة، مثل أمراض القلب والأوعية الدموية والسمنة، ترتبط بميكروبيومات محددة. والآن، شيئًا فشيئًا، بدأ ينقشع بعض الغموض الذي يكتنف كيفية اكتساب الأطفال للميكروبيومات التي توجد في أجسامهم، وما الذي يؤثر في تكونها.

(وبالنظر إلى مدى أهمية الميكروبات لصحتنا، ما زلتُ أندهش من حقيقة أنَّنا نعهد بالكثير من الوظائف إلى هذا العدد الضخم من الكائنات المختلفة، التي تلتقطها أجسامنا من البيئة منذ الولادة).

لدينا أيضًا الكثير من الأسئلة النظرية التي لم نحصل على إجابة عنها بعد. فمثلًا من أين جاء أول ميكروبيوم اكتسبه البشر في رحلة تطورهم؟ وكيف يختلف ميكروبيوم البشر عن ميكروبيومات الرئيسيات أو الثدييات أو الحيوانات الأخرى بصورةٍ عامةٍ؟ وكيف ينتقل الميكروبيوم من شخصٍ لآخر؟ وما هو تأثير الحياة في بيئةٍ معُقَّمة وتأثير تغيرات الأنظمة الغذائية على صحة الميكروبيوم على المدى الطويل؟

إضافةً إلى هذا، فقبل عشرة أعوام، فَشِل التحليل الأول للميكروبيوم البشري فشلًا ذريعًا في الإلمام بمدى تنوعه، لأنَّه استعان بمشاركين من مدينتين أمريكيتين فقط. والآن نعرف أنَّ من يعيشون في أوروبا وأمريكا الشمالية لديهم ميكروبيومات أقل تنوعًا ممَّن يعيشون في المناطق الأقل اعتمادًا على الصناعة، لكنَّنا نجهل الكثير للغاية عن الاختلافات بين مجموعات البشر في هذا الصدد.

"نجهل الكثير للغاية عن الاختلافات الميكروبيومية بين مجموعات البشر".

بل ونحن حتى أكثر جهلًا بحال الحيوانات الأخرى الكثيرة التي تحتوي في أجسامها على عددٍ ضخم من تلك الكائنات الدقيقة. فصحيحٌ أنَّنا نعرف أنَّ ميكروبيومات الحيوانات التي تعيش في الأسر تختلف عن تلك الموجودة لدى الحيوانات التي تعيش في البرية، بالطريقة نفسها تقريبًا التي تختلف بها ميكروبيومات البشر في المناطق الصناعية عن ميكروبيومات نظرائهم في المناطق غير الصناعية، إلَّا أنَّ معظم ما نعرفه عن الميكروبات الموجودة لدى الحيوانات مصدره الدراسات المُجراة على الحيوانات الأسيرة. ومثلما نخسر التنوع الحيواني بسبب التغيُّرات السريعة في عالمنا، فنحن نخسر أيضًا التنوع الميكروبيومي.

إن معرفة المزيد عن هذه المسائل ستتطلب اتحادًا جديدًا، يجمع العينات من آلاف الأشخاص والحيوانات. إذ نحتاج إلى أن يعمل علماء الأحياء المتخصصون في الحياة البرية إلى جانب العلماء المتخصصين في الميكروبيوم، وأن تنتشر فرقٌ منهم في جميع أنحاء العالم. فقبل عشرة أعوام، كانت عملية التحليل جديدةً وصعبة إلى درجة أنَّنا لم يتبقَ لدينا سوى جهدٍ بسيطٍ لنخصصه للتفكير في جمع العينات. أمَّا الآن، فينبغي لجهود جمع العينات من جميع أنحاء العالم أن تأتي في الصدارة.

وقد يتساءل البعض عن سبب احتياجنا إلى اتحادٍ جديد ضخم ومُكلِّف، بينما تتوفر بياناتٌ أكثر كل يوم من الدراسات المتلاحقة، التي تجريها مختبراتٌ مستقلة عن بعضها؛ إلَّا أنَّ التحول الصناعي يسير بخطى متسارعة، والقوى الاقتصادية الحديثة يمكنها أن تقضي على التنوع الميكروبي بسرعةٍ تفوق قدرتنا على رصده.

وإذا تكوَّن اتحادٌ جديد، فسيُمكِّن العلماء أخيرًا من إنهاء خريطة الميكروبيوم. الأمر يشبه الإحصاءات السكانية؛ فنحن لا ننتظر أن تُبلغنا كل مدينةٍ بعدد سكانها، بل نبذل جهدًا منسقًا لحصر أعدادهم بنفس النهج وبسرعة، قبل أن تتغير.

ولو استطعنا إجراء تحليلٍ ضخم جديد لتنوع الميكروبيوم البشري، ولتنوع ميكروبيوم الفقاريات الأكبر منه، فسنستطيع حينها أخيرًا أن نستعرض البيانات الخاصة بنوعنا وسط شجرة الحياة بأكملها. وعندها فقط يمكننا فعلًا أن نصف الميكروبيوم الموجود في أجسامنا بصفة "البشري".

روث لاي: هي مديرة قسم علوم الميكروبيوم في معهد ماكس بلانك لعلم الأحياء بمدينة توبينن الألمانية.

البريد الإلكتروني: rley@ tuebingen.mpg.de