أنباء وآراء
محرك كهربي مجهري من بِنى من الحمض النووي
انطلق سباق نحو تطوير محركات دقيقة، بأبعاد نانومترية، أملًا في أن تستخدمها ماكينات المستقبل الدقيقة. وأحدث المنجزات في هذا الصدد، هو ابتكار محرك ذي أجزاء متعددة، مصنوعة من الحمض النووي، يتشكل ذاتيًا، ويستغل الحركة البراونية في السوائل، لإدارة ذراع دوارة، ويمكنه لف نابض جزيئي لولبي.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-022-01940-4
- English article
- Published online:
تؤدي التذبذبات الحرارية، على المستوى المجهري، إلى حث الأجسام على الحركة بصورة عشوائية، والترابط، والتفكك عن بعضها بعضًا تلقائيًا. غير أن إسراع وتيرة هذه الحركة، وتوجيهها، وتوفير الطاقة اللازمة لتجميع تلك الأجسام، يتطلب محركات مجهرية في التقنيات الميكرومترية والنانوية. وفي بحث نشر مؤخرًا في دورية Nature، تورد آنا-كاتارينا بوم وفريقها البحثي1 توصيفًا لنظام نانوي مذهل ابتكرته مع فريقها يؤدي هذا الغرض، أي يعمل كمحرك مجهري دوار، يتشكل بتجميع بنى من الحمض النووي ذاتيًا، ويعمل بالكهرباء.
يشهد العالم حاليًا تزايد الاعتماد على الطاقة الكهربية، بدلا من الوقود الأحفوري، في كثير من التطبيقات. ففي الأسواق، أخذت حصة المحركات التي تعمل بالكهرباء تتزايد سريعًا على حساب نظائرها الأكثر استخدامًا من التقنيات المنافسة، كاستخدام محركات الاحتراق الداخلي، أو القوة العضلية. ويُحتمل أن تصبح الكهرباء أيضا مصدر الطاقة الأكثر شعبية، لتوليد الشغل الميكانيكي على المستوى الميكرومتري والنانوي. وهو ما يتطلب تطوير محركات نانوية كهربية عالية الأداء. ويُعد ما أُفيد به في عام 2003، من ابتكار محرك معدني نانوي دوار، يلف على محور من أنابيب الكربون النانوية2، أحد المحطات المهمة على طريق تطوير تلك التقنية. وقد جرى تشغيل هذا المحرك الدوار في ذلك الجهاز عن طريق تعريض ثلاثة من أقطابه لجهد كهربي بنسق منتظم.
"من الأهمية بمكان، أن واضعي الدراسة أثبتوا أن النظام الذي ابتكروه يستطيع بالفعل تحريك حِمْلٍ معين".
وعلى مدار العقدين اللذين أعقبا ذلك الحدث، بزغ الحمض النووي كمادة متعددة الأغراض، يمكن استغلالها في تصميم الأجسام النانوية. كما أحرز العلماء أيضًا تقدمًا كبيرًا في استغلاله لصنع بِنى أكبر وأكثر تعقيدًا، في البيئات المائية3. وفي عام 2006، شهد هذا المجال طفرة بفضل تقنيات طي الحمض النووي وتشكيله التي يستخدم فيها العلماء شرائط قصيرة من الحمض النووي، تخدم كـ"مشابك"، لطي شريط طويل من الحمض النووي، وتشكيل بنى ثنائية أو ثلاثية الأبعاد. وتعد هذه الطريقة حاليًا أداة قياسية لتصميم الأجسام النانوية، مثل الرقائق، والأنابيب، والصناديق4. ويتزايد حاليًا استخدام البنى التي تتشكل من طي الحمض النووي، للاستفادة منها كمكونات فرعية لأجهزة أكبر حجما6،5.
وقد سلكت بوم وفريقها البحثي خطوة إلى الأمام في هذا السياق. إذ أفاد الفريق بابتكاره لمحرك دوار، يتشكل ذاتيًا من ركيزة، وقاعدة، وذراع دوارة، وهي أجزاء صنعت كلها بتقنية "أوريجامي" الحمض النووي (أي طي الحمض النووي وتشكيله، كما يتبين من الشكل 1). وتُعد هذه الوحدات الثلاث عملاقة بالمقاييس الجزيئية (على سبيل المثال، يبلغ طول الذراع الدوارة 550 نانومترًا). أما تجمُّعها على نحو صحيح، بمجرد الانتشار في محلول سائل، فيمكن القول إنه مثير لدهشة وعجب، يضاهيان الذهول الذي ينتاب المرء إذا علم أن مسامير ملولبة، سلكت داخل صواميل أُلقِي بها معها في غسالة ملابس، في أثناء دورة غسيل بالغسالة.
شكل 1. تجميع وتشغيل محرك نانوي مصنوع من حمض نووي. يمكن تجميع بنى نانوية معقدة تتألف من الحمض النووي باستخدام تقنية شبيهة بـ"فن الأوريجامي"، وفيها يتم ثني شريط طويل من الحمض النووي، وطيه للحصول على شكل معقد باستخدام عشرات من شرائط الحمض النووي الصغيرة، التي تخدم كدبابيس لتثبيت تلك الطيات. وقد أفادت آنا-كاتارينا بوم وفريقها البحثي1 بأنهم نجحوا في ابتكار محرك نانوي، يتألف من مرتكز، وقاعدة، وذراع دوارة. (أ) وصنعت جميع هذه الأجزاء بتقنيات شبيهة بأساليب فن "الأوريجامي". وتتجمع هذه المكونات ذاتيًا في المحلول، لتشكيل المحرك الذي يرسو على سطح زجاجي (ب). رَكَّب الباحثون أيضا عوائق على حواف القاعدة، على نحو يصنع ما يشبه سُقّاطة تحفِّز حركة الذراع الدوارة في اتجاه واحد فقط، وتمنع حركتها في الاتجاه المضاد. ويُدور المحرك بتعريضه لمجال كهربي يُحدثه تيار تردد، يمر خلال أقطاب (لا تظهر في الرسم) موضوعة على كلا جانبي المحرك.
كبر الصورة
ومن الأهمية بمكان أن تشغيل المحرك يعتمد على آلية "السقاطات البراونية"7، التي تحفِّز دورانًا عشوائيًا للذراع الدوارة في اتجاه مطلوب، عند تسبب تذبذبات حرارية في هذا الدوران، وتمنع دوران الذراع في الاتجاه المضاد. وفكرة الاستفادة من هذه العشوائية، بدلا من محاولة تثبيطها، تستهوي إلى حد هائل الساعين إلى هندسة الماكينات المجهرية. ففي هذه الحالة، يُحفَّز التغلب على عشوائية الدوران الناجمة عن التذبذبات الحرارية، عن طريق إحداث تفاعل بين مجال كهربي متغير دوريًا تتعرض له المنظومة، وبين الشكل غير المتماثل للمحرك المشحون بطبيعته. غير أن الفهم الدقيق لكيفية تأثير المجال الكهربي على الذراع الدوارة، يحتاج إلى مزيد من الدراسة، بالنظر إلى أن هذا المجال الكهربي يحدِث أيضا تأثيرات أخرى، يمكن أن تغير حركة الذراع الدوارة. فمن تأثيراته، على سبيل المثال، أنه يحفز سريان الأيونات خلال الماء حول الجهاز.
وعندما أقرأ عن محرك نانوي جديد، يكون أول ما يتبادر إلى ذهني، هو تساؤل عما إذا كان قادرًا بالفعل على أداء المهام الميكانيكية. ولا شك أن تطوير الماكينات التي تنتج حركة يمكن التنبؤ بها، بدون بذل شغل ميكانيكي، يظل إنجازًا مهمًا. فقد تبين عبر تاريخ الهندسة، أن لمثل هذه الماكينات فوائد عظيمة، إذ يمكن استخدامها كعدادات في بعض التطبيقات، مثل عدادات قياس السرعة في الملاحة البحرية. فهل يستطيع الجهاز الذي ابتكرته بوم وفريقها البحثي أداء مهام أخرى بخلاف إنتاج حركة موجهة؟ من الأهمية بمكان، أن واضعي الدراسة أثبتوا أن النظام الذي ابتكروه يستطيع بالفعل تحريك حِمْلٍ معين، من خلال لف نابض لولبي جزيئي. ومن ثم، هو بلا شك محرك بمعنى الكلمة.
أما ثاني ما يخطر ببالي، عندما أقرأ عن محرك نانوي، فيتعلق غالبًا بكفاءة ذلك المحرك. إذ إن كثيرًا من المحركات المجهرية الاصطناعية، تناظر كفاءتها في استهلاك الطاقة سيارة تستهلك مليون لتر من الوقود لكل 100 كيلومتر تقطعها، وهو ما يحول دون التوسع في استخدام تلك المحركات8. خلصت بوم وفريقها البحثي إلى معادلة يمكن من خلالها حساب كفاءة محركهم، بصورة تقريبية، وحساب مقدار فاقد الطاقة، الناجم عن المقاومة الناشئة من الاحتكاك الداخلي بالمحرك. غير أن أكثر ما يستنزف كفاءة المحرك هو أن الأقطاب التي تولد المجال الكهربي، توضع حول الجهاز، متباعدة عن بعضها بعضًا بعدة ملليمترات، وهي مسافة تزيد على طول الذراع الدوارة بمقدار ألف مرة. وتعد هذه المسافة ضرورية، لعزل تأثير التفاعلات الكهروكيميائية التي تحدث عند الأقطاب، عن المحركات، لكنها تعني أن معظم الطاقة الكهربية تُفقَد في الطريق إلى المحرك. ويحتاج التغلب على هذه المشكلة إلى فتح علمي آخر.
وقد سبق أن حاججت9، بأنه في المستقبل ستُستخدم أعداد هائلة من المحركات الدقيقة، في توفير الطاقة اللازمة للروبوتات الدقيقة، والمواد "النشطة" (التي تحتوي على وحدات تستهلك الطاقة لإنتاج حركةٍ أو إنتاج تأثير ميكانيكي). ويتسابق المهندسون حاليًا لتحقيق هذه التطلعات، من خلال تصميم محركات تعتمد على تقنيات تصنيع البِنى الدقيقة، أو البيوتكنولوجيا، أو الكيمياء العضوية، وتفاضل بين عدد من البدائل كمصدر للطاقة، مثل الكهرباء، أو الضوء، أو الوقود. على سبيل المثال، يمكن استغلال تطبيقات البيوتكنولوجيا، في حال الأجهزة القائمة على بِنى من الحمض النووي، لصناعة أعداد كبيرة من المحركات. ومثلما أوضحَت بوم وفريقها البحثي في بحثهم الأخير، يمكن استخدام الكهرباء كمصدر للطاقة عند تشغيل تلك المحركات في الماء. في المقابل، المحرك الكهربي2 الذي أُفيد بابتكاره عام 2003، صُنِع بطرق طُورت لتصنيع أشباه الموصلات، ويتم تشغيل ذلك المحرك في حيز مفرغ من الهواء، لمنع تكثف الماء على الأجزاء المكشوفة منه. من هنا، فإن المحركين يُكَمِّل أحدهما الآخر، ويمكن استخدامهما في أوساط مختلفة، وتطبيقات متباينة، وهو ما يشير إلى أن ثمة متسعا لأكثر من فائز واحد في هذا السباق.
يُعد إنجاز بوم وفريقها البحثي خطوة أخرى للأمام في مجال تقنيات الحمض النووي النانوية، إذ بينوا أن الحمض النووي يمكن أن يُستخدم لصنع محرك يتألف من أجزاء متعددة، تبلغ أبعادها بضع مئات من النانومترات، وتتمتع في الوقت نفسه بخصائص ضًبطت بإحكام لتوائم أبعادًا أصغر كثيرًا من تلك التي اتسمت بها المحركات المناظرة السابقة، ولتناسب تشغيل المحرك. إضافة إلى ذلك، استغل الباحثون المفاهيم النظرية التي أُسفر النقاب عنها بصعوبة، عن آليات سُقّاطات براون، في تصميم نوع جديد من المحركات النانوية الاصطناعية. ويشير إنجاز بوم وفريقها البحثي، بوجه عام، إلى أننا نقترب من الوصول إلى حد البراعة في مجال هندسة الجزيئات، مع تطوير أدوات تتيح تشكيل البنى النانوية وتحريكها وتجميعها، وتتمتع بوظائف يمكن أن تنافس الآليات الجزيئية الخلوية.
References
Pumm, A.-K. et al. Nature 607, 492–498 (2022).
| articleFennimore, A. M. et al. Nature 424, 408–410 (2003).
| articleCanary, J. W. & Yan, H. Nature Nanotechnol. 17, 108 (2022).
| article- Rothemund, P. W. K. Nature 440, 297–302 (2006). | article
Wagenbauer, K. F., Sigl, C. & Dietz, H. Nature 552, 78–83 (2017).
| articleTikhomirov, G., Petersen, P. & Qian, L. Nature 552, 67–71 (2017).
| articleAstumian, R. D. Sci. Am. 285, 56–64 (2001).
| articleWang, W., Chiang, T.-Y., Velegol, D. & Mallouk, T. E. J. Am. Chem. Soc. 135, 10557–10565 (2013).
| articleHess, H. Nature Mater. 20, 1040–1041 (2021).
| articlePraetorius, F. et al. Nature 552, 84–87 (2017).
| article
هنري هس، يعمل بقسم الهندسة الحيوية الطبية في جامعة كولومبيا، بمدينة نيويورك، في ولاية نيو يورك 10027،
الولايات المتحدة الأمريكية.
البريد الإلكتروني: hhess@columbia.edu