موجزات مهنية
لِم قد يقع الباحثون المغتربون فريسةً للتَّنَمُّر؟
تحقق دورية Nature في حالات عدة يتعرُّض فيها الباحثون الذين يعملون خارج بلدانهم بموجب تأشيرات عمل للإساءة والتمييز في الأجور.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-022-02142-8
- English article
- Published online:
Illustration by Nadia Hafid
"ما هذا الهراء الذي كتبته في رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلتها إليّ بالأمس؟ هل جننت؟ أتريدني أن أفصلك؟".
حول باحث يخوض دراسات لنيل درجة الدكتوراه من الشرق الأوسط عينيه عن شاشة جهاز كمبيوتر، فيما أُلقيت على مسامعه هذه الكلمات، التي صاح بها في وجهه رئيس أحد مُختبرات الهندسة الكيميائية في جامعة أمريكية، كان القائم على توجيهه في أطروحة الدكتوراة التي يعدها. زعم الموجِّه أن خطة الباحث للأطروحة، ليست مُفَصَّلة بالدرجة الكافية. بعد ذلك، عرض للباحث ما يظهر على شاشته، وبدأ في كتابة رسالة بريد إلكتروني، مُصدِرًا تعليمات بحرمان الباحث من دخول المُختَبَر.
تأتي وقائع هذه المحادثة، التي دارت في نوفمبر من عام 2020، ضمن سلسلة من مقاطع الفيديو التي اطلع عليها مختصون من دورية Nature،والتي توثق صراخ أحد كبار الأكاديميين مرارًا وتكرارًا في وجه طالبه وتقليله من شأن هذا الطالب أمام فريقه البحثي، وتهديده له بقطع دخله. ويزعم هذا الطالب وزميلة عمل سابقة له من إحدى دول الشرق الأوسط، تخوض بدورها دراسات لنيل درجة الدكتوراه، أن قائد فريقهما البحثي أخضعهما، دون غيرهما من أعضاء الفريق، لممارسات تنمر لأنه سُمح لهما بالإقامة في الولايات المتحدة بموجب تأشيرة دخول لمرة واحدة، تُعرف اختصارًا باسم «F-1». وبالتالي، امتلك سلطة الفصل فيما إذا كانا بإمكانهما استكمال إقامتهما داخل البلد، أم لا. وقد بدآ في تسجيل اجتماعات الفيديو التي تجمعهما مع قائد فريقهما البحثي في أثناء جائحة «كوفيد-19»، التي انتقلت خلالها إساءة معاملة قائد فريقهما البحثي لهما إلى الإنترنت.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن «حركة التكافؤ الأكاديمي» (APM)، وهي مبادرة عالمية لمكافحة التنمر، تُعرِّف التنمر الأكاديمي على أنه سلوك عدائي مُستدام، ربما ينطوي على سخرية، وتهديدات، وانتهاكات للخصوصية، وتدخل في سير التقدُّم الوظيفي. ويرى الباحثون الذين يدرسون هذه الظاهرة إن مرتكبي هذه الأفعال يستهدفون في أغلب الأحيان الباحثين المغتربين بسبب وضعهم كمهاجرين، وضعف وضعهم المالي، وافتقارهم إلى شبكات الدعم.
حول ذلك، تقول شيري موس باحثة دراسات إدارة المؤسسات من جامعة ويك فورست في مدينة وينستون-سالم بولاية كارولاينا الشمالية، والمؤسسة المشاركة لـ«حركة التكافؤ الأكاديمي»: الطلاب المغتربين الساعين لخوض الدراسات العليا، أو دراسات ما بعد الدكتوراة، يكونون أكثر عُرضة للوقوع فريسة للتنمر، لأن مقدار السلطة الممنوحة للباحث الرئيسي المشرف على أطروحاتهم يكون أكبر". وتضيف: "إذ يخضعون في كثير من الأحيان لرحمة الباحث الرئيسي القائم على توجيههم في دراساتهم، بسبب اعتمادهم على تأشيرة دخول، وعلى وظيفة مدفوعة الأجر بأحد المختبرات. وكلاهما أساس يمكن تقويضه، بموجب إشعار قبلها بمدة قصيرة. كما تؤدي الإشكاليات الثقافية واللغوية إلى مفاقمة احتمالية تعرضهم لسوء المعاملة".
في هذا السياق، أجرت دورية Nature مقابلات صحفية مع خمسة باحثين مغتربين ممن في مقتبل حياتهم المهنية، وصفوا بأشكال مختلفة تعرُّضهم للإيذاء اللفظي، وإرغامهم على العمل لعدد مفرط من الساعات، واستغلالهم ماليًّا. وطلب بعضهم عدم الإفصاح عن اسمه تخوفًا من الإضرار بحياته المهنية، أو التعرُّض لإجراءات جزائية انتقامية. ففي مقال يشير إليه رابط مرفق هنا: (انظر go.nature.com/3zxaten)، يطلعنا باحثون يدرسون ممارسات التنمر، وأشخاص صرحوا بأنهم تعرضوا له، على منظورهم حول سبب حدوثه، وكيف يمكن لمن تستهدفهم هذه الممارسات حماية أنفسهم، وما ينبغي لهم فعله لمنعها.
فيقول المهندس الكيميائي من الشرق أوسط المذكور آنِفًا إنه عندما بدأ كتابة رسالته لنيل درجة الدكتوراه، كان يوم عمله يمتد في كثير من الأحيان من 13 إلى 14 ساعة. ويقول إنه إلى جانب تنقيبه في الأدبيات العلمية، ووضعه خطة بحثه العلمي، وعمله في المُختَبَر، كان مشرفه يجعله يركب الأرفف، ويجري عمليات جرد لمحتويات المُختَبَر، ويضطلع بمهام التنظيف العامة.
وبوصفه مستجدًا في الوظيفة، اعتقد أن هذا طبيعي في بادئ الأمر. وبعد عدة شهور، بدأت تساوره شكوك كبيرة بشأن مشرفه. فيقول: "دعاني إلى مكتبه ذات يوم، وأخذ يوبخني لمدة ساعتين. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، وبخني أنا وطالب دكتوراه أجنبي آخر لمدة ساعتين أخريين، ثم مرة أخرى في وقت لاحق لمدة 3 ساعات إضافية. وتعلق الأمر بكون المُختَبَر غير مُرَتَّب، وبعدم تحديث بيانات جرد المواد الكيميائية بالمختبر، وجرد خزائن المواد ومخازن المختبر، وتمديد ساعات عملي، والعمل لوقت إضافي في عطلات نهاية الأسبوع، والتقدم البطيء الذي أحرزه في كتابة أطروحتي، على حد رأيه. فشعرت في نهاية المطاف وكأن رأسي يكاد أن ينفجر. وكنت بحاجة إلى الابتعاد فحسب".
وفي تسجيل مرئي لاجتماع عُقد عبر الإنترنت مع أعضاء المُختَبَر، صاح المشرف مرارًا وتكرارًا في وجه الطالب، طالبًا منه أن "يخرس"، ورفض قبول ورقته البحثية، واصفًا إياها بأنها "عقيمة". وفي وثيقة حول الواقعة، قُدِّمَت لاحقًا إلى الجامعة في إطار إحدى الشكاوى، واطلع عليها أيضًا مختصون من دورية Nature، يزعم الطالب أنه أُجبِر على العمل في مشروعات خارج نطاق أبحاثه تمامًا لنيل درجة الدكتوراه. وكتب قائلًا: "تعرضت للإهانة والتنمر والتخويف".
وتقول زميلته سالفة الذكر إن ذاك المشرف تسلل وراءها ذات يوم، بينما كانت تقرأ رسالة هاتفية من صديق(ة)، واتهمها بإهدار وقت العمل. وقد عقَّبت على ذلك قائلة في وثيقة أُخرى قُدمت إلى الجامعة كجزء من الشكوى نفسها: "لا يمكنني أبدًا أن أنسى نبرته، وكيف صاح بي من خلفي. منذ ذلك اليوم، صرت أشعر بالقلق الشديد والتوتر والخوف، متى وُجد على مقربة مني، خشية أن يندفع إلى المُختَبَر أو المكتب فجأة ويتهمني بعدم العمل الجاد، أو بالتحدث إلى شخص ما، أو بالنظر إلى هاتفي".
وقد ذكر كلا الباحثين، أنهما اضطُرا إلى العمل لوقت كبير، ولحضور اجتماعات في أوقات مبكرة، أو متأخرة جدًّا، كانت في عطلات نهاية الأسبوع في أغلب الوقت، وبموجب إخطار قبلها بفترة وجيزة، في حين رفض زميل أمريكي لهما العمل بعد ساعات العمل المتعاقَد عليها، أو حضور اجتماعات في عطلة نهاية الأسبوع، دون أن يتحمل أية عواقب. في ذلك الصدد، قال الباحث سالف الذكر الذي تعرض لهذه الممارسات: "هدد القائم على توجيهنا في رسالة الدكتوراة بفسخ عقود عملنا. إذ وعى إلى أننا نعمل بموجب تأشيرة دخول لمرة واحدة. وإن اضطررنا إلى مغادرة البلد، فلن نتمكن من العودة إلى عملنا".
وفي مقطع مرئي آخر، اطَّلع عليه متخصصون من دورية Nature، هدد المشرف بتقليص راتب باحث يخوض دراسات الحصول على درجة الدكتوراه، في أثناء خلاف بين الاثنين حول من تقع عليه تكلفة جهاز لنسخ بيانات المُختَبَر احتياطيًا. وتقول الباحثة سالفة الذكر الساعية للحصول على درجة الدكتوراة في هذا السياق: "لقد انتهز مجيئنا من بلد آخر، وتصور خطأ أننا لم نكن على دراية بحقوقنا".
تحمُّل قسري
انتبهت جامعات، وجهات تمويل، وأكاديميات علوم وطنية، في السنوات الأخيرة، إلى ضرورة الوصول إلى فهم أفضل لطبيعة ممارسات التنمر في الأوساط الأكاديمية، وضرورة التصدي لهذه الممارسات بأساليب أكثر نجوعًا. وقد وجدت مجموعة من الدراسات السابقة، نُشرت في عام 2019، أن 25% من أعضاء هيئات تدريس الجامعات، أفادوا بتعرضهم للتنمر1. وردًا على استطلاع عالمي أجرته دورية Nature في عام 2019، لآراء باحثين يخوضون دراسات للحصول على درجة الدكتوراة، ذكر واحد من كل خمسة طلاب دراسات عليا، أنه تعرض للتنمر (Nature 575، 403-406؛2019). وكشف الاستطلاع أن طلاب الدراسات العليا المغتربين، ليسوا أكثر عُرضة بدرجة كبيرة للتنمر ممن يعملون في أوطانهم. كما أظهرت دراسة نشرتها في العام نفسه «جمعية ماكس بلانك» (MPS) في ألمانيا، وضمت أكثر من 9 آلاف باحث يعملون في 86 معهدًا بحثيًا، أن 10% ممن شملتهم الدراسة تعرضوا للتنمر في الأشهر الاثني عشرة2 الماضية.
وتُحاجِج موس بأن تركيز السلطات في أيدي رؤساء المُختَبَرات يجعل الأبحاث الأكاديمية أرضًا خصبة لديناميات سامة، ولتجاوُّزات تقع تحت عباءة التوجيه الأكاديمي. على سبيل المثال، في أكتوبر من عام 2021، نشرت موس مع مرتضى محمودي، عالم النانو من جامعة ولاية ميشيجان في مدينة إيست لانسنج، والمؤسس المشارك لـ«حركة التكافؤ الأكاديمي»، نتائج استطلاع عالمي3 لآراء أكثر من ألفي شخص من ذوي الخبرة في العمل أو الدراسة في الأوساط الأكاديمية. وقد شارك هؤلاء في الاستطلاع طواعية. ومع ذلك، لم يذكر إلا 29% ممن تعرضوا لممارسات التنمر منهم، أنهم أبلغوا المؤسسات البحثية التي يتبعونها بهذه الممارسات. في حين ذكر سائر المستطلعين الذين وقعت عليهم هذه الممارسات – وقد شكلوا نسبة قوامها 61% – أنهم أحجموا عن الإبلاغ عن هذه الممارسات خوفًا من تعرُّضهم لإجراءات جزائية انتقامية.
درست موس ومحمودي آراء الباحثين في مجالات العلوم، والتكنولوجيا، والهندسة، والرياضيات في الولايات المتحدة (انظر الشكل: "اختلال التوازن الدولي في أعداد الباحثين المغتربين"). ووجدا أن الباحثين الوافدين من خارج الولايات المتحدة لم يكونوا أكثر عرضة للوقوع فريسة للتنمر، ولم يبلغوا عنه بدرجة أكبر من نظرائهم الذين يتمتعون بإقامة دائمة في البلد، لكن ارتفعت بينهم احتمالية الإبلاغ عن آثار أبلغ وأشد له، مثل التعرُّض لانتهاكات حقوق الملكية الفكرية، وتلقي تهديدات بالفصل من وظائفهم، واستخدام بياناتهم دون إخطارهم بذلك. على سبيل المثال، أبلغ 32% من المستطلعين عن تلقيهم تهديدات بإلغاء تأشيرات عملهم. فيقول محمودي: "يحظى الطلاب والباحثون من مواطني البلد بدعم الأسرة والأصدقاء، كما لا تقف الحواجز اللغوية عائقًا أمامهم، وهم على دراية بثقافة البلد. كما يُحتمل بدرجة أكبر أن يكونوا قد أعدوا خطة بديلة تحسبًا. فيما أن الوضع ليس كذلك إذا كنت باحثًا خارج بلدك، وتعتمد تأشيرتك على المؤسسة التي تتبعها. إذ تُرغم على أن تكون أكثر تحمُّلًا لسلوكيات التنمر".
وفي دراسة أخرى، نُشِرَت في عام 2018، أُجريَّت فيها مقابلات مع طلاب دراسات عليا في مرحلة ما بعد الدكتوراه، للحديث عن تجاربهم في خمس جامعات بحثية كبرى في الولايات المتحدة4، قال أحدهم: "عندما انضممت إلى الجامعة ... أوضح لي الباحث الرئيسي أنه وافق على تجديد تأشيرتي. بعد ذلك، أخبرني بأنه سيدفع لي 70% من الراتب الذي وعد به قبل وصولي إلى هنا. وعندما سألته عما إذا كان هذا إجراءً طبيعيًا، ما كان منه إلا أن سألني عما إذا كنت جادًا بشأن العمل [في الجامعة]، أم لا". وفي تصريح لمشارك آخر، قال: "يخلق الباحث الرئيسي المشرف علينا في مختبرنا بيئة مليئة بالضغوط. فتجد طلاب مرحلة ما بعد الدكتوراه الأجانب ينامون على أرضيات المُختَبَرات، ويعملون لأكثر من 100 ساعة أسبوعيًا. والباحثون الرئيسيون يتعمدون القيام بمثل هذه التصرفات. ويستغلون ظروف هؤلاء".
التضحية بجزء من الراتب
صرح أحد اختصاصيي كيمياء الطب الحيوي الصينيين لدورية Nature إن دفع أجور أقل للباحثين الوافدين من خارج الولايات المتحدة كان إجراء شائعًا في الجامعة الأمريكية التي عمل بها باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه. على سبيل المثال، عندما نفد تمويل قائد سابق لفريقه البحثي في عام 2012، اقتضت شروط تأشيرة التبادل الثقافي «J-1» التي حملها هذا القائد عودته إلى الصين، إذا لم يحصل على وظيفة جديدة في غضون شهر. فلما عُرض عليه منصب آخر كباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه، بجامعة مختلفة، لاستحداث طرق تصوير شعاعي لتشخيص الإصابة بالسرطان، نظير راتب أقل بمبلغ 10 آلاف دولار أمريكي عن راتبه السابق البالغ 46 ألف دولار أمريكي، شعر أنه ليس أمامه خيار سوى قبول المنصب.
حول ذلك، يقول اختصاصي كيمياء الطب الحيوي سالف الذكر : "تنوعت شرائح الرواتب، لكن رواتب جميع باحثي دراسات ما بعد الدكتوراه من الهند والصين كانت تحل بين الشرائح الأدنى". وأضاف: "صديقي، الذي كان صينيًا بدوره، عمل باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه، في حقل الكيمياء، براتب قدره 28 ألف دولار أمريكي، فيما كان الأمريكيون يتقاضون راتبًا يبدأ تقريبًا من 39 ألف أو 40 ألف دولار أمريكي، فأكثر".
ويقول إن صديقه ذاك قبل أجرًا أقل، لأن مشرفه وعد بمساعدته في الحصول على تأشيرة «H-1B» التي تسمح للخريجين بالعمل مؤقتًا في البلد، والتي كان من شأنها أن تحقق لهذا الصديق المزيد من الاستقرار، لكن في عام 2014، عندما أوشكت فترة سريان تأشيرة «J-1» التي حملها ذاك الباحث على الانتهاء، لم يرغب رئيس مُختَبَره في دفع الحد الأدنى للراتب المطلوب للحصول على التأشيرة الجديدة، وهو 68 ألف دولار أمريكيّ، وطلب من الباحث التقدم للحصول على بطاقة الإقامة الدائمة (البطاقة الخضراء)، بدلًا من ذلك. وعلى حد ما أفاد به الباحث، فإن التقدم للحصول على هذه البطاقة بموجب إخطار قبلها بفترة وجيزة لا يستهلك الكثير من الوقت والمال وحسب، بل شكل أيضًا مجازفة وكان باعثًا على الشعور بالضغط والتوتر، لأن من يُرفض اعتماد طلبهم، يواجهون خطر ترحيلهم إلى خارج البلد. وقد اعتُمد طلبه للحصول على بطاقة الإقامة الدائمة الخضراء في نهاية المطاف. غير أنه يقول: "استصدار تأشيرة العمل يصنع مشكلة كبيرة. إذ يعني أن الأستاذ المشرف على أطروحتك يملك السيطرة على مقاليد أمورك، ويمكنه أن يطلب منك أيما يحلو له".
"ما هذا الهراء الذي كتبته في رسالة البريد الإلكتروني التي أرسلتها إليّ بالأمس؟ هل جننت؟ أتريدني أن أفصلك؟".
ويرى اختصاصي كيمياء الطب الحيوي الذي أدلى بهذا التصريح أن مشرفه لم يتح له فرصًا لإقامة شبكة علاقات، أو لتلقي تدريب على مهارات مثل كتابة طلبات المنح التمويلية، أو التواصل مع آخرين. وبحلول عام 2015، كانت ثقته بنفسه قد تحطمت. إذ كان قد شغل وظيفة فني في هيئة حكومية أمريكية. فيقول: "شأني شأن جميع باحثي دراسات ما بعد الدكتوراه، كنت أرغب في أن أصبح أستاذًا جامعيًا، لكنني عدلت عن رأيي. فإن كان العمل كأستاذ جامعي، يعني معاملة الناس بالطريقة التي عوملت بها، فأنا لا أريد أن أصبح أستاذًا جامعيًا".
وقد يصعب إثبات أن الباحثين المغتربين يتقاضون رواتب أقل من زملائهم. بيد أن الحال لم يكن كذلك في حالة مجموعة من باحثي ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا في مدينة دايفيس الأمريكية. ففي عام 2013، قدمت نقابة العاملين في صناعة مركبات التشغيل الآلي التي يتبعونها، والمعروفة باسم «UAW Local 5810» — وهي الجزء الذي يمثل العاملين في الاتحاد الدولي لصناعة السيارات والملاحة الجوية والفضائية، والمعدات الزراعية في الولايات المتحدة — شكوى نيابةً عن اختصاصي علم الحشرات البرازيلي شيري بيزيرا دا سيلفا، بعدما تبين أن راتبه السنوي كان أقل بنحو 13 ألف دولار من ذاك الذي يتقاضاه زملاؤه من باحثي مرحلة ما بعد الدكتوراه.
وفي عام 2015، أقرت الجامعة بأن دا سيلفا كان مصنفًا كباحث زائر، على الرغم من عمله باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه، ووافقت على منحه 16 ألف دولار أمريكي كتعويض مستحق وكراتب متأخر. كما سددت تعويضات لباحثين أجانب آخرين للسبب نفسه. وأظهر تحقيق لاحق أن سبعة باحثين أجانب على الأقل أخطئ تصنيف مسماهم الوظيفي.
مشكلات في تمديد التَّمويلات البحثية
إن العلاقة بين الوظيفة وتأشيرة العمل في أوساط الباحثين المغتربين تجعلهم أكثر عُرضة للضغوط المرتبطة بتمديد العقود أو التمويلات البحثية.
على سبيل المثال، يزعم أحد الطلاب الذين خاضوا دراسات الحصول على درجة الدكتوراه في مُختَبَر يان بالدوين، إبان إدارة الأخير لـ«معهد ماكس بلانك للإيكولوجيا الكيميائية» (MPICE) في مدينا جينا الألمانية، أنه عندما طلب زيارة والديه في الصين لأول مرة منذ 16 شهرًا، أخبره بالدوين بأن منحته التعليمية لن تُمَدد عندما ينتهي أجلها، وهو ما يعني أنه قد لا يتوفر لديه الوقت الكافي لإتمام دراسات حصوله على درجة الدكتوراه.
وفي سرد هذه الواقعة، يقول اختصاصي علم الأحياء الصيني سالف الذكر: "قال لي: إذا عدت إلى بلدك هذا العام، فلن أجدد منحتك التعليمية. تُستحق الإجازات بعد الانتهاء من مناقشة الأطروحة". ويقول بالدوين، الذي لا يزال مختبره يتلقى تمويلًا من «جمعية ماكس بلانك» ويعمل فيها، إنه لا يتذكر إدلاءه بالتصريح المزعوم. وفي تعليق أدلى به إلى دورية Nature، قال: "لا أرى هذا قرارًا إداريًا غير منطقي. لا سيِّما عندما لا يحرز الباحثون أي تقدم".
كما أضاف اختصاصي علم الأحياء الصيني أن بالدوين قد يكون صعب المراس مع الباحثين على اختلاف جنسياتهم، لكن عاقبة عدم تمديد عقود عمل الباحثين كانت أشد خطورة في حال الباحثين المغتربين. ويوضح اختصاصي علم الأحياء الصيني ذلك قائلًا: "في حال الطلاب الوافدين من البلدان ذات الدخل المتوسط أو المنخفض، تعد هذه كارثة؛ فانتفاء العقد تنتفي معه تأشيرة العمل، والدخل، ويفضي إلى مغادرة البلد وعراقيل في استكمال دراسات الحصول على درجة الدكتوراه".
وبعد التحقيق في عدد من الشكاوى الموجهة ضد بالدوين، أُعيدَت هيكلة إدارته، وقُلِّص حجمها في عام 2015. وعينت «جمعية ماكس بلانك» وسيطًا للتعامل مع مثل هذه النزاعات، وطلبت من بالدوين حضور جلسات تدريب. واتُفق على وجود عالِم آخر دائمًا عند عقده الاجتماعات مع طلاب الدراسات العليا.
ويقول اختصاصي علم الحشرات ديفيد هيكل، الذي كان العضو المنتدب في «معهد ماكس بلانك للإيكولوجيا الكيميائية» من عام 2015 حتى العام الماضي: "رأيت إيان بالدوين يرفع صوته ويهين [اختصاصي علم الأحياء الصيني] خلال الاجتماع. لقد كان مشهدًا صادمًا".
ويقول بالدوين إنه لطالما جمعته علاقة عمل سيئة بهيكل (يعارض هيكل ذلك). ويضيف بالدوين أن علاقاته المتوترة مع زملائه ترجع إلى اختلاف ثقافي بين أسلوب قيادته "الأمريكي، الذي يتسم بكونه أكثر مباشرةً" و"الأسلوب الأوروبي والألماني الذي يتسم بأنه غير مباشر وتوافقي". وأضاف قائلًا: "إنني آسف وأعتذر إن كان أسلوبي قد بدا مباشرًا أكثر مما يجب، إلى حد أن البعض وجده قاسيًا".
وفي نوفمبر من عام 2020، أنهت «جمعية ماكس بلانك» إدارة بالدوين لـ«معهد ماكس بلانك للإيكولوجيا الكيميائية». ورفض متحدث باسم «جمعية ماكس بلانك» الإفصاح عن عدد من تقدموا رسميًا بشكوى ضد بالدوين، لكنه قال إنه تلقى أيضًا العديد من رسائل الدعم من زملاء وباحثين جمعهم تعاوُن سابق معه.
فماذا عن الباحثين اللذين كانا يخوضان دراسات الحصول على درجة الدكتوراه من دول الشرق الأوسط، وتعرَّضا للصياح في وجهيهما مرارًا وتكرارًا، إلى جانب التقليل من شأنهما أمام زملائهما، وتهديدهما بقطع دخلهما؟ من دواعي السخرية، أن جائحة «كوفيد-19» قد أنقذتهما. إذ استمر المشرف عليهما في الإساءة إليهما لفظيًا، والتنمر عليهما عبر الإنترنت، وهو ما عنى أنهما تمكنا من تسجيل الوقائع، وإرسال تسجيلاتها إلى إدارة جامعتهما. وذكرا أن تنمره أدى إلى معاناتهما من التوتر والقلق، والكوابيس، ونوبات الهلع بصورة منتظمة.
وبعد إجراء تحقيق، عينت الجامعة مشرفًا جديدًا لتوجيههما في دراساتهما للحصول على درجة الدكتوراة. وقد تخرجا وتخليا عن طموحاتهما الأكاديمية، ويعملان الآن في مجال الصناعة. وكلاهما يتعافى ببطء من تجربته. فالطالب يشعر بالتوتر عندما يطلب زملاؤه الأقدم عقد اجتماعات روتينية. أما زميلته سالفة الذكر، فيرتفع معدل ضربات قلبها عند سماع صوت إشعارات تطبيق «مايكروسوفت أوتلوك» Microsoft Outlook، أو الإشارة إلى اسم المشرف الذي أساء إليها. فتقول: "ما زلت أعاني كوابيسًا، لكنها أقل تواترًا الآن".
References
- Keashly, L. in Special Topics and Particular Occupations, Professions and Sectors Vol. 4 (eds D’Cruz, P., Noronha, E., Keashly, L. & Tye-Williams, S.) 1–77 (Springer, 2019). | article
- Olsthoorn, L. H. et al. PhDnet Survey Report 2019 https://doi.org/10.17617/2.3243876 (2019).
- Moss, S. E. & Mahmoudi, M. eClinicalMedicine 40, 101121 (2021). | article
- Hayter, C. S. & Parker, M. A. Res. Policy 48, 556–570 (2019). | article
نيك فليمنج كاتب حر مقيم في مدينة بريستول في المملكة المتحدة.