رؤية كونية

أن تكون بيانات الجائحة حقيقية أهم من أن تكون باعثة على التفاؤل

على الحكومات والمنظمات الدولية أن تلتزم بالشفافية في إتاحة البيانات عن كوفيد حتى يُعلَن عن انتهاء الجائحة.

إدوارد ماثيو

  • Published online:

ALEXABRUNET

ليس سرًا أن الدول الغنية تُسدلُ الآن الستار على حملاتها المكثفة للتطعيم بلقاحات «كوفيد-19». ويصحب ذلك التخفيف من تدابير الصحة العامة لمكافحة المرض، وخفض وتيرة نشر البيانات حول «كوفيد»، رغم أن نحو ثلاثة مليارات شخص لم يتلقوا اللقاحات بعد. ومما يبعث على القلق أن الجهات الحكومية والمنظمات المسؤولة عن جهود تجميع البيانات المحورية لن تركّز على اتخاذ التدابير اللازمة حقًّا لتجاوز الجائحة.

عندما تفشتْ أولى موجات الجائحة في عام 2020، بادر قليل من الباحثين، بجامعة جونز هوبكنز في مدينة بالتيمور بولاية ميريلاند الأمريكية، إلى حصر الأرقام التي توفرها كل دولة عن أعداد الإصابات المؤكدة وحالات الوفيات. وفي الوقت نفسه، بدأتْ مبادرة «أوَر ورلد إن داتا» Our World in Data، وهي مبادرة لنشر البيانات مقرها أوكسفورد بالمملكة المتحدة، في جمع البيانات بدقة عما تجريه كل دولة على حدة من اختبارات «كوفيد». حينها، قررتُ الاستقالة من عملي بشركة للخدمات الرقمية، لأنضم إلى تلك المبادرة.

يتعيَّن على جهات نشر البيانات – سواءٌ أكانت حكومات وطنية، أم منظمات دولية، أم مواقع إلكترونية – أن تقطع التزامًا صريحًا بتزويد عموم الجمهور والباحثين ببيانات حقيقية حول الجائحة، إلى أن يحين وقت إعلان منظمة الصحة العالمية انطواء صفحة الجائحة. وينبغي لمنظمة الصحة العالمية تنسيق هذه الجهود.

من المُلاحَظ وجود تفاوتاتٍ ضخمة في نهج الإبلاغ عن البيانات من بلدٍ لآخر. وقد قضيتُ أغلب وقتي خلال العامين الماضيين مُنَقّبًا في مواقع الحكومات على الإنترنت، وفي الحسابات الرسمية على منصات التواصل الاجتماعي، لمئات الدول والجهات الصحية. فبعض الحكومات تُواصل نشر الإحصاءات الرسمية، ولكن على هيئة صور منخفضة الجودة، غيرِ واضحة على موقع «فيسبوك»، أو عبر مؤتمرات صحافية متباعدة على موقع «يوتيوب»؛ وهذا راجع، في غالب الأحيان، إلى غياب الموارد اللازمة للخروج بنتيجة أفضل. ودول أخرى، مثل الصين وإيران، توقفتْ عن نشر البيانات تمامًا.

أحيانًا ما يكون السبب راجعًا لغياب الوعي؛ إذ يظن مسؤولون حكوميون أن الأمر لا يتطلَّب أكثر من إذاعة رقم إجمالي في بيان صحافي. وفي أحيان أخرى، تكون المشكلة في الممانعة التي يُبديها المسؤولون؛ لأنهم يعلمون أنه لدى نشر أول ملف بيانات، سيواجَهون بسيلٍ من المطالبات بالمزيد من البيانات، وهي بيانات لا تستطيع الجهاتُ الرسمية إتاحتَها، أو لا ترغب في ذلك.

من ناحية أخرى، سارعتْ بعض الحكومات إلى إطلاق لوحات معلومات تعرض بيانات «كوفيد»، وغالبًا ما كانت تلك اللوحات مجرد إصدار وحيد، أنشأه متعاقدون مع الحكومات. لم يتمكن الموظفون الحكوميون من تحديث تلك اللوحات مع تطور وضع الجائحة، وانتقال التركيز لمؤشرات وجداول بيانية جديدة، تتقدَّم عليها في سُلَّم الأولويات. وكنتُ قد بدأتُ إنشاء قاعدة بياناتنا العالمية حول التطعيم بلقاحات «كوفيد-19» في 2021، ولكن حكومات عديدة لم توفر بياناتها على مدى أسابيع، وأحيانًا شهور، بعد بدء حملات التطعيم؛ لأن لوحات معلوماتهم لم تستوعب إضافة تلك البيانات. والأدهى من ذلك أن بعض الحكومات نادرًا ما أتاحت البيانات الأولية، كي تحصل عليها الجهات الأخرى، ومن ثم تفحصها، وتُنتِج تحليلاتها المستقلة لتلك البيانات (رغم أن فريقي طلب تلك البيانات مرارًا).

وكثيرًا ما لاحظتُ أن حكومات عديدة تصرّ على نشر لوحات معلومات هدفُها بثُّ التفاؤل حول وضع الجائحة، في حين ينبغي أن تكون الأولوية هي إتاحة البيانات الأوليّة. وهنا، لا نحتاج لأكثر من ملف نصي بسيط يحوي البيانات. ففِرق البحث، مثل فريقي، وكذلك المواطنون ذوو الخبرة في أدوات عرض البيانات، على أتمِّ استعداد لإنشاء مواقع إلكترونية، أو تطبيقات للهواتف تفيد في عرض البيانات. ولكن لنتمكن من ذلك، نحتاج أولًا إلى البيانات الأوليّة في نسق تستطيع الحواسيب والبرمجيات قراءته.

في المقابل، هناك أمثلة عديدة تستحق الإشادة لحكومات أتاحتْ ما لديها من بيانات للآخرين، لعرضها بصور مختلفة. مثلًا، مستودعات البيانات مفتوحة المصدر على موقع «جيت هاب» GitHub للحكومتين الماليزية والتشيلية هي نماذج يُحتذى بها في هذا المضمار. وحين لم تقم الحكومات بذلك الدور، تدخلتْ جماعات متطوعة للقيام به، كما هو الحال في مشروع «سليديلنيك» Sledilnik في سلوفينيا، والموقِعَين «كوفيد لايف» COVID LIVE و«كوفيد بيس» CovidBase في أستراليا، و«مشروع تتبُّع كوفيد» COVID Tracking Project عام 2020 بالولايات المتحدة، وكلها جهود بطولية جديرة بالثناء.

أدت المؤسسات آنفة الذِّكر دورَ بث البيانات على مدار العامين الماضيين، ولكن لا ينبغي للعالم أن يعتمد على جامعة خاصة، مثلًا، لاحتساب حصيلة الوفيات جراء الجائحة، أو لإعلان أن نحو 60% من سكان العالم تلقوا اللقاحات. يجدُرُ بمنظمة الصحة العالمية أن تجمع الأرقام من كل دولة، وتصنِّفها في قاعدة بيانات دولية.

صحيحٌ أن هذا سيتطلب التزامًا – وإن لم يكن كبيرًا – بتخصيص الموارد، ولكن قبل الموارد، سيتطلب الأمر مرونة في التصرف. ففي خضم وضع لا ينفكّ يتغير باستمرار، من المستحيل إنتاج بيانات مفيدة إذا كانت إضافة خانة بيانات واحدة، أو تحديثها، أمرًا يستغرق تنفيذه ستة أشهر. وكان فريقنا قد أضاف مؤشر بيانات جديدًا لجرعات اللقاح التعزيزية في أغسطس 2021، بمجرد ما بدأتْ دول، مثل إسرائيل، توفير تلك الجرعات. وحتى اللحظة، لا ترصد منظمة الصحة العالمية تلك البيانات.

يمكن أن تحدث تغييرات جوهرية في تجميع وإتاحة البيانات. فبعد بذل جهود منسَّقة على مدار العقد الأخير، صار البنك الدولي ينشر الآن بعضًا من أفضل مجموعات البيانات النظيفة والموثوقة ومفتوحة المصدر حول التطوّرات العالمية. وبمقدور منظمة الصحة العالمية أن تقوم بدور مماثل على صعيد بيانات الصحة العامة العالمية.

ثم إن بمُستَطاع المنظمة العالمية، وقادة الجهات الصحية الدولية، أن يبذلوا مزيدًا من الجهود لتشجيع تبني أسلوب أكثر شمولية في إدارة البيانات طويلة الأمد للجائحة. وهذا سيسمح للسلطات في كل دولة بمواصلة إحصاء الحالات والمرضى بالمستشفيات، وما إلى ذلك من بيانات، وفي الوقت ذاته، سيعينها على تعزيز كفاءتها في تجميع تلك الإحصاءات. فكثير من البيانات الأساسية لا تزال غائبة. مثلًا، أصبح من الضروري الآن التمييز بين أعداد المرضى الذين أُودِعوا بالمستشفيات كنتيجةٍ مباشرة للإصابة بـ«كوفيد»، وأعداد الحالات التي اكتُشفتْ إصابتها مصادفةً، خاصةً مع ارتفاع الأخيرة. ولكن لا يوفر تلك التصنيفاتِ سوى عدد محدود من الدول.

وهناك مشكلة أكبر تتمثل في غياب بيانات الوفيات الكلية، التي تشمل جميع مسبِّبات الوفاة. فبدونها، يستحيل أن نعرف الحصيلة الحقيقية للوفيات الناجمة عن الجائحة. فعندما ننظر لندرة توفر بيانات الوفيات الكلية جراء جميع الأسباب في دول إفريقيا – مثل مصر وجنوب إفريقيا – نجد أن حصيلة الوفيات الناتجة عن الجائحة تبدو أعلى بكثير مما تفيد به الأرقام التي تتصدر بيانات تلك الدول.

لقد اعتمدت الجهات الوطنية والدولية، وكذلك عموم الجمهور، على نوافذ النشر الإلكترونية – ومنها مواقع صحافية، ومبادرة «أوَر ورلد إن داتا» – لتتبُّع مؤشرات الجائحة، والوقوف على مضمون البيانات. ولكن تلك السلطات تتحمل أيضًا مسؤولية، خاصة تجاه الدول الفقيرة التي قد تجد نفسها بغير إرشاد وتوجيه وهي تتعامل مع المرحلة القادمة من الجائحة، حيث سريعًا ما ستنساها الدول الغنية، في خضمّ جهودها الحثيثة التي تسعى من خلالها إلى تجاوز الجائحة.

إدوارد ماثيو: مسؤول البيانات في مبادرة «أوَر ورلد إن داتا»، وهي من مشروعات المنظمة غير الربحية «جلوبال تشينج داتا لاب» Global Change Data Lab، ومقرها جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة.

البريد الإلكتروني: edouard@ourworldindata.org