موجزات مهنية
كيف يُعينك التكيّف والإصرار على تحقيق النجاح؟
التأخيرات وخيبات الأمل حواجزٌ تعترض سبيل النجاح في نيل درجة الدكتوراه، لكن يمكن لتبنِّي ثقافات جديدة تغيير منظور المرء للأشياء وملامح مساره المهني، بحسب الباحث محمد شعبان.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-022-01351-5
- English article
- Published online:
محمد شعبان يقيم حاليًا في لندن.
Credit: Michael Bowles/The Francis Crick Institute
في شهر يناير عام 2011، كنتُ قد حزتُ لتوي درجتي الجامعية في الكيمياء الحيوية والكيمياء العامة من جامعة الفيوم بمصر، حين تصاعدت المظاهرات المُندّدة بالنظام المصري لتسفر عن اندلاع ثورة، كانت إحدى نتائجها المباشرة: تدشين مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، وهي حَرَمٌ جامعي ومقرٌ لمعهد بحثي، أُسِّسَ بهدف إنعاش حركة البحث العلمي في البلد، وفي عام 2012، رفضتُ منحة دراسية أتاحت لي السعي إلى الحصول على درجة الماجستير من جامعة خنت ببلجيكا، من أجل أن يسنح لي بدلًا من ذلك أن أصبح أحد أوائل الخريجين الذين يُشرفون بالانضمام إلى جامعة مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في وطني الأم.
بَيْد أن الأمور لم تسرْ بسلاسة كما أملت، إذ تعثرتْ خطى مشواري المهني سنواتٍ مع بطء وضع برامج ودورات الدراسات العليا في الجامعة. وفي نهاية المطاف، التحقتُ ببرنامج دكتوراه سريع، وأتممتُ تحصيل ثماني دورات تعليمية، لكن بعد وفاة مؤسس الجامعة عام 2016، أعادتْ المؤسسة هيكلة برامج الدراسات العليا، فخسرتُ رصيدي من الساعات المُعتَمدة التي أمضيتها في التحصيل، وما أنفقته من وقت فيها. وبعد خمس سنوات من الانضمام للجامعة، بدأتُ أشعر بخيبة الأمل.
ومن ثم، قررت إعادة التقدم لطلب منح الدراسة خارج بلدي. فحزت منحة فولبرايت؛ وهي منحة مموّلة من الحكومة الأمريكية للطلاب الدوليين، وانتقلتُ إلى الإقامة في الولايات المتحدة عام 2018 لخوض دراسات الحصول على درجة الماجستير في الكيمياء الحيوية والبيولوجيا الخلوية بجامعة ستوني بروك في مدينة نيويورك الأمريكية. وحاليًا، أدرس في السنة الثانية من برنامج البيولوجيا البنيوية لنيل درجة الدكتوراه من معهد فرانسيس كريك، وكلية إمبريال كوليدج لندن، إذ أستخدم الفحص المجهري الإلكتروني فائق التبريد بهدف دراسة الإنزيمات الرابطة لحلقات الكولين، وهي إنزيمات واسمة للبروتينات الخلوية المُستهدَف نقلها أو تدميرها وتساعد على تنظيم عمليات مثل نسخ الحمض النووي، وضبط دورات الخلايا. ورغم أنني أملت بشدة في الحصول على درجة دكتوراه من مصر، فقد تعلّمتُ دروسًا شديدة الأهمية من التدرُّب في بيئات أكاديمية ذات ثقافات مختلفة بالولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
كن واسعَ الحيلة
إذا كان بلدك أو مؤسستك الأكاديمية يفتقران إلى الموارد، فينبغي لك تبنّي فكر غير تقليدي، واغتنام الفرص التي تتسنَّى لك، حتى إن لم تبد مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بأهدافك حينها. على سبيل المثال، عندما كنت طالبًا جامعيًا، كرَّست حياتي للعلوم، لكنني لم أستطع تدبير ثمن الكتب الدراسية التي احتجت إليها، ولا تكلفة السفر إلى القاهرة للمشاركة في الورش التدريبية المنعقدة هناك. وفي محاولة لحلّ هذه المشكلة، شاركتُ في مسابقتين وطنيتين لكتابة مقالات في العلوم الإنسانية، إحداهما عن حقوق المواطنة بين القانون والتطبيق، والأخرى عن حقوق الإنسان بين اليهودية والإسلام والمسيحية، وكانت جوائز هذه المنافسات أكبر من مثيلاتها الممنوحة في المسابقات العلمية، حتى إن ما حصدته منها عن مقالاتي وكتاباتي الشعرية دبَّر لي ما يكفي من المال لتمويل مساعيّ في المجال الذي شغفت به.
لا تخشَ طرق الأبواب والتماس المساعدة. على سبيل المثال، انضممتُ ذات مرة إلى جمهرة من الناس يرفعون مطالبهم إلى عضو بالبرلمان، وكانت الغالبية تنشد الطعام أو المأوى أو التوظيف، ولا أزال أذكر نظرة الدهشة التي عَلَت وجه عضو البرلمان عندما سألته عما إذا كان يستطيع مساعدتي في الحصول على كتاب غير متوافر في بلدي بخصوص تداخل الحمض النووي الريبي. ولم يتمكن عضو البرلمان من توفير الكتاب لي، لكنني أعتقد أن محادثتي العلمية والتوعوية معه اختلفتْ عن تلك التي اعتاد التعامل معها. كما أدركتُ من الحوار بيننا مدى محدودية معرفة مُشرِّعي القوانين بالمشكلات التي يواجهها شباب العلماء.
تحلّ بالمرونة
لن تعرف أبدًا ماهية العقبات التي ستواجهك مستقبلًا، لذا، ينبغي أن تتسلح دائمًا بعدّة خطط احترازية. من هنا، بعد حصولي على درجة الماجستير، سنحتْ لي منحة للسعي إلى الحصول على درجة الدكتوراه في جامعة ستوني بروك، لكن للأسف، اضطررت للعودة إلى مصر لتسوية مسألة تتعلق بالتأشيرة في شهر مارس من عام 2020. ونتيجةً لإيقاف العمل بالسفارات والقنصليات وإغلاق الحدود بسبب تفشّي جائحة «كوفيد-19»، وإدخال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تعديلات على قواعد الهجرة وإجراءاتها، بدا حينها أنني قد لا أتمكن من العودة إلى الولايات المتحدة. كما واجهتْ سياسة المنح المالية الأكاديمية تخبطًا هناك بسبب نقص التمويل الحكومي الأمريكي لطلاب الدكتوراه الدوليين، وهو ما استدعى عندئذ التحلّي بالمرونة والتكيّف مع الظروف المتغيّرة والتقدّم بطلبات للحصول على درجة الدكتوراه إلى مؤسسات أكاديمية أوروبية. ومن ثمَّ، عُرِضَت عليّ منحتان من معهد فرانسيس كريك، ومعهد ماكس بلانك للفسيولوجية الجزيئية في دورتموند بألمانيا.
كان السفر إلى خارج البلاد حافلًا بالتحديات والصعوبات، لا سيّما في الأيام الأولى، عندما صُدِمتُ من أثر الاختلاف الثقافي واعتراني الحنين إلى الوطن. بَيْد أن الروابط الوثيقة التي كوّنتها مع بعض الأصدقاء والأساتذة ساعدتني على الاندماج سريعًا في البيئة الجديدة. وقد قدمتْ لي سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها نيتا دين، مديرة برنامج الماجستير بجامعة ستوني بروك عونًا كبيرًا؛ فعلى سبيل المثال، عندما شعرتُ بالإنهاك جرّاء الضغوط، نصحتني بزيارة مختص في الصحة النفسية، وإعادة تنظيم جدول مهامي ليشمل أنشطة خارجية، وهو ما ساعدني على تجاوُز الموقف.
كن انتقائيًا
التدريب والتوجيه اللذان يقدِّمهما لك مرشدك الأكاديمي هما الأساس الذي تستند إليه. لذا، من الأهمية بمكان اختيار المرشد الأكاديمي المناسب والبيئة البحثية الملائمة. وأوصيكم بالبحث عن فريق مختبر يتمتع بعقلية تعميم المنفعة على الجميع، ويرحّب بالنقاشات المفتوحة للأفكار. ولم تكن الثقافة الأكاديمية التي لمستها في وقت مبكر بمصر ترقى لتطلعاتي؛ إذ قامت على عقلية الاستئثار بالمنفعة لطرف وحيد، ما يؤدِّي إلى سلوكيات سلبية، كتهديد الأساتذة باستبعاد باحثين شباب من تأليف الأوراق البحثية، أو حجب أعضاء الفرق البحثية بعضَ المعلومات عن زملائهم.
في المقابل، وجدتُ دعمًا من جانب منظمة فولبرايت، وجامعة ستوني بروك، ومعهد فرانسيس كريك. ففي البيئة المناسبة، لن تؤدي الخلافات الشخصية إلى إجراءات انتقامية في السياق المهني. وفوق ذلك، يتوافر للطلاب -الذين يواجهون عقباتٍ- مدافعون عن حقوقهم في المؤسسات والأقسام المعنية، ممن يمكنهم اللجوء إليهم. وسأظل دائمًا وأبدًا أذكر كلمات سايكات تشاودوري، مرشدي الأكاديمي في أثناء دراستي لنيل درجة الماجستير: "نجاحك نجاحٌ لي". وقد ساعدني هذا اللون من الدعم على رسم ملامح مساري المهني، وأثمر عن نشر بحثٍ -كنت الباحث الرئيسي بين واضعيه في دورية «نيتشر ستراكتشورال آند موليكيولار بيولوجي» Nature Structural & Molecular Biology، كشف عن عنصر تنوِّي أكتيني نشط بالنواة، يخدم كآلة جزيئية تشارك في تحديد شكل الخلية وقدرتها على الحركة؛ وهو ما أثار حيرة المتخصصين في هذا الحقل طوال 20 عامًا.
تحلّ بالمثابرة
صادفتُ محطات عديدة على مدار رحلتي أمكن فيها أن أستسلم، أو أقبل بأقل مما أستحق. فعلى سبيل المثال، رفضت في البداية منحة أكاديمية من منظمة فولبرايت في الولايات المتحدة من أجل فرصة لم يحالفني الحظ لاقتناصها في ألمانيا. فكان عليَّ أن أستنهض عزيمتي وأعاود تقديم طلبات الحصول على منح في العام اللاحق. وبالعودة إلى الماضي، أرى أن الصعوبات والتحديات التي واجهتها ساعدتني على اكتساب المرونة والمثابرة، وهما صفتان لا غنى عنهما لعلماء المختبرات. بالإضافة إلى ذلك، أعانني التعرض لثقافات مختلفة على النمو على المستوى الشخصي. وقد استغرق مني هذا عشر سنوات وواجهت عديدًا من البدايات المتعثرة، لكنني أخيرًا على الطريق الصحيح لنيل درجة الدكتوراه في مؤسسة أشعر فيها بالتقدير والاحترام. وأعلم أن الطريق لنيل درجة الدكتوراه محفوف بالصعوبات، لكن في لحظات الشك والارتياب، ألجأ إلى الكلمات المثيرة للتأمل التي كتبها نجيب محفوظ، الكاتب المصري الحاصل على جائزة نوبل في الآداب: "لا تجزع، فقد ينفتح الباب ذات يوم، تحيةً لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة". وتذكّرني هذه الكلمات بأن الفُرص يمكن أن تسنح بعد طرق جميع الأبواب في مثابرة وطموح.
References
- Shaaban, M., Chowdhury, S. & Nolen, B. J. Nature Struct. Mol. Biol. 27, 1009–1016 (2020). | article