أنباء وآراء
الذكاء الاصطناعي يعين الحدس البشري على البحث في ميدان الرياضيات
يلجأ الباحثون إلى بعض تقنيات تعلُّم الآلة لمساعدتهم على إنجاز العمليات التي تعتمد عادةً على الحدس والإبداعَ البشريين في إجراء أبحاث الرياضيات.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-021-03512-4
- English article
- Published online:
على مرّ التاريخ، توصَّل علماء الرياضيات إلى نظرياتهم من خلال دراسة الأمثلة. فعندما ينظر المرء إلى مكعبٍ أو هرم، مثلًا، لربما أدرك أنَّ عدد الرؤوس في كل شكل متناسب مع عدد حوافه وأوجُهه. وهكذا، يلاحظ عالِم الرياضيات نمطًا كهذا، ويمُد الخط على استقامته، مُطبِّقًا إياه على أشكالٍ أعم، ثم يبدأ التفكير في سبب استمرار وجود هذه العلاقة. وبعض أجزاء هذه العملية يتضمَّن حسابات رياضية، وصحيح أنَّ هذه الحسابات يُستعان فيها ببرامج حاسوبية رياضيّة، تُجريها بنجاح منذ صارت تلك البرامج متاحة للاستخدام للمرة الأولى في ستينيات القرن العشرين، إلا أن الإبداع البشري يُمكِّن علماء الرياضيات من أن يفطنوا إلى المناطق التي ينبغي أن ينظروا فيها، بحثًا عن الأنماط الناشئة. وقد توصَّل الباحث أليكس ديفيز، وزملاؤه، طريقةً لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مساعدة الباحثين على هذه العملية الإبداعية، التي تمثِّل لُبَّ مجال البحث الرياضي1.
مضت قرون على اكتشاف البشر العلاقة بين خصائص المجسمات المحدبة متعددة السطوح (وهي أشكال ثلاثية الأبعاد ذات أوجه مُسطَّحة وحواف مستقيمة ورؤوس تبرز كلها نحو الخارج)، وسُمِّيت المعادلة الرياضية التي تصف هذه العلاقة باسم مكتشفها، عالم الرياضيات السويسري ليونارد أويلر. تنصّ هذه المعادلة على أنَّه، في أي شكلٍ من الأشكال الهندسية، يكون عدد الرؤوس (V)، مطروحًا منه عدد الحواف (E)، ومضافًا إليه عدد الأوجه (F)، مساويًا الرقم اثنين: V - E + F = 2 (الشكل 1). فهل نستطيع الوصول إلى هذه المعادلة من خلال دراسة بضعة أمثلة لأشكال مختلفة، وباستخدام قلم وورقة؟ بالإمكان فعل ذلك في هذه الحالة، لكنَّ الأفكار الرياضية الأكثر تعقيدًا تتطلَّب تنفيذ حسابات أوسع نطاقًا، وهي حالات يمكن للحاسوب فيها أن يكون مفيدًا للغاية.
عادةً ما يدُور البحث الرياضي القائم على إيجاد الأمثلة ودراستها في دورةٍ بعينها (الشكل 1). أولًا، يُحدِّد الباحث بضعة أمثلة ذات صلة بموضوع بحثه (مثل مكعب، أو هرم، أو ربما مجسم ذي اثني عشر سطحًا)، ثم يحسب بعض خصائصها، ويُحلّل العلاقات المحتملة بين هذه الخصائص. وبعد ذلك، تُنقَّح هذه العلاقات حتى ينشأ نمط معين. ويواصل الباحث تلك الدورة باختبار هذه العلاقات على أمثلة أكثر تعقيدًا (من المجسم عشريني الأسطح، وحتى مجسم ضخم، شكل عشوائي، له عدد كبير من الأوجه)، ويستبعد أي خصائص ليست ذات صلة بها. وحال عدم تحقُّق تلك العلاقات في هذه الأمثلة الأخرى، أو إذا ظل الغموض يكتنف الأسباب التي تجعلها قائمة على هذه الصورة، يُعيد الباحث تعريف المعايير المُستخدَمة في تحديد الأمثلة ذات الصلة. وعلى هذا النحو، تستمر دورة البحث.
الشكل 1 | دورة ابتكار النظريات الرياضية من خلال دراسة الأمثلة بعدما يلاحظ علماء الرياضيات نمطًا محتملًا في خصائص بعض الكائنات الرياضية، مثل المجسمات المحدبة متعددة الأسطح (وهي أشكال ثلاثية الأبعاد ذات وجوه مسطحة وحواف مستقيمة ورؤوس كلها تبرُز نحو الخارج)، عادةً ما يسلكون دورة محددة لفهم هذا النمط. أولًا، يحسبون خصائص بعض الأمثلة البسيطة ويحللون العلاقات المحتملة بينها. ثم يُنقِّح الباحثون هذه العلاقات. فعلى سبيل المثال، قد يتوصلون إلى معادلة أويلر، المُعبِّرة عن المجسمات متعددة الأسطح، التي تفترض أنَّ عدد الرؤوس (V)، مطروحًا منه عدد الحواف (E)، ومضافًا إليه عدد الأوجه (F)، يساوي الرقم اثنين دائمًا: V - E + F = 2. ثم يختبرون هذه العلاقة المقترحة على أمثلة أكثر تعقيدًا، ويستبعدون الخصائص غير ذات الصلة، ويحاولون فهم سبب بقاء هذه العلاقة قائمة. وإذا بقي السبب غير واضح، فحينئذ يدرس علماء الرياضيات أمثلة مختلفة، وهكذا دوالَيك. وقد برهن الباحث أليكس ديفيز وزملاؤه1 على أنَّ تقنيات تعلّم الآلة يُمكن أن تساعد الباحثين على إجراء خطوة التنقيح، التي عادة ما تعمد على الحدس البشري بصفةٍ أساسية.
كبر الصورةوفي كل مرحلة من مراحل هذه العملية، باستثناء واحدة، يلعب عنصرا الإبداع البشري والحساب الرياضي أدوارًا مهمة. فعلى سبيل المثال، يتضمَّن تحليل خصائص الأمثلة المختارة إبداعًا في تحديد العنصر المناسب، ثم إجراء العمليات الحسابية الرياضية لحسابها. والمرحلة الوحيدة التي لا تتضمَّن أي مهامَّ حسابية هي خطوة التنقيح، التي يُمكِن اعتبارها جوهر العملية الإبداعية؛ إذ تتطلَّب هذه المرحلة من الباحث استخلاصَ ظواهر عامة من أمثلة مادية متماسكة، استنادًا إلى الحدس بالأساس. وفي حالة المجسمات متعددة الأسطح، قد تتضمن هذه الخطوة مَدَّ تمرين القلم والورقة المذكور أعلاه، وتطبيقه على أبعاد مختلفة، ثمة سؤال يطرح نفسه: هل ينطبق النمط المُكتشَف على الأشكال ثنائية الأبعاد أيضًا؟ وماذا عن الأشكال ذات العدد الأكبر من الأبعاد؟
ورغم أنَّ الطُرق القائمة على الذكاء الاصطناعي لم تنتشر انتشارًا واسعًا في مضمار البحث الرياضي حتى الآن، أثبتت فِرق بحثية عدة، خلال السنوات القليلة الماضية، أنَّ بالإمكان استخدام الوسائل القائمة على تعلُّم الآلة، من حيث المبدأ، في العثور على أمثلة ذات صلة بمجموعات البيانات الكبيرة 2،3. فيما استخدمت فِرَق بحثية أخرى وسائل كهذه لتقدير خصائص الكائنات الرياضية بدقة عالية، سعيًا وراء تحسين فهمهم لمجموعات البيانات هذه4. وفي هذه الدراسة التي يدور حولها موضوع هذا المقال، يكشف ديفيز وفريقه أن بالإمكان استخدام تقنيات تعلُّم الآلة لمساعدة الباحثين على أداء خطوة التنقيح في دورة البحث، التي كانت تُعتبَر في السابق مهمةً قائمة بالأساس على الحدس البشري. ومن الناحية النظرية، يُمكن استخدام النهج الذي قدَمه الباحثون في كثير من مجالات الرياضيات المختلفة.
تتمثل فكرة هذا النهج في تحديد بنيتين، مثل قوائم بأعداد أو شبكات، من خصائص كائنات رياضية تنتمي إلى نوع معين. ثم يُمكن افتراض أنَّ هاتين البنيتين مترابطتان؛ أي أنَّ إحدى البنيتين يُمكنها أن تعطينا معلومات عن الأخرى. وتقنية تعلُّم الآلة مناسبة تمامًا لأداء هذه المهمة في مجموعات البيانات الكبيرة، لأنَّها تستطيع استخدام إحدى البنيتين في تخمين تفاصيل البنية الأخرى، بدرجة أكبر من الدقة، تتجاوز ما يُتوقَع الحصول عليه عند إجراء تخمينات قائمة على منطق الصدفة.
وتُقدِّم معادلة أويلر المتعلقة بالمجسمات عديدة الأسطح طريقةً بسيطة لتوضيح نهج ديفيز وزملائه. فالبنية الأولى في هذه الحالة ستكون مؤلفة من أربعة أعداد، تُمثِّل عدد رؤوس الشكل متعدد الأسطح، وعدد حوافه، وحجمه، ومساحة سطحه. فيما ستكون البنية الثانية هي عدد الأوجه. وعندئذٍ، يُمكن كتابة معادلة أويلر في صورة علاقة خطية بسيطة بين هاتين البنيتين. وكذلك توضِّح العملية المتَّبعة للوصول إلى المعادلة نفسها أنَّ الحجم ومساحة السطح ليسا متصلين بهذه العلاقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ تطبيق هذا النهج على معادلة أويلر ينطوي على درجةٍ عالية من البساطة والمباشَرة، لكنَّ الوضع يصبح أكثر تعقيدًا عندما لا يكون بالإمكان تمييز العلاقات بهذه البساطة. وفي تلك الحالات، يُمكن الاستعانة بما تقدمه لنا تقنيات تعلم الآلة.
وقد اتَّضح بالفعل ما أحرزه العلماء من تقدّم على هذا الصعيد، عندما طَبَّق الباحثون نهجهم بصورة ناجحة على مجالين منفصلين من مجالات الرياضيات. فقد استخدموا هذه الطريقة ليتعرَّفوا على علاقات لم تكن معروفة من قبل فيما يُعرف بنظرية العقد، ونظرية التمثيل التوافقي. وصحيح أنَّ هاتين النتيجتين لم تكونا بعيدتين بالضرورة عن متناول الباحثين في هذا الميدان، لكنَّهما كشفتا لنا أبعادًا كانت خافيةً عن أنظار الباحثين. لذا، فلنا أن ننظر إلى هذا الإنجاز على أنه يتجاوز فكرة التوصّل إلى خطوط عريضة لإطار عمل تجريدي. وصحيح أن مدى قدرتنا على تطبيق هذا النهج على نطاق واسع ما زال أمرًا غير محسوم، إلا أن ديفيز وزملاءه يطرحون في دراستهم نموذجًا توضيحيًّا واعدًا، يُبيِّنون فيه كيفية استخدام تقنيات تعلُّم الآلة لدعم العملية الإبداعية في البحث الرياضي.
References
- Davies, A. et al. Nature 600, 70–74 (2021). | article
- Peifer, D., Stillman, M. & Halpern-Leistner, D. Proc. Mach. Learn. Res. 119, 7575–7585 (2020)
- Lample, G. & Charton, F. Preprint at https://arxiv.org/abs/1912.01412 (2019).
- He, Y.-H. The Calabi–Yau Landscape: From Geometry, to Physics, to Machine Learning (Springer, 2021).
كريستيان ستامب
باحث بكلية الرياضيات بجامعة الرور في مدينة بوخوم الألمانية.
البريد الإلكتروني: christian.stump@rub.de
أقرَّ المؤلف بعدم وجود تضارُب في المصالح.