كتب وفنون
التغيرات فوق الجينية: ما أسهل إلقاء اللوم على الأم!
كتاب يقدم قراءةً نقدية للأدلة التي تتكئ عليها الدراسات القائلة بانتقال تأثير الصدمات من الآباء إلى الأبناء عبر التغيُّرات فوق الجينية.
- Nature (2022)
- doi:10.1038/d41586-021-03053-w
- English article
- Published online:
لاجئون يحاولون عبور الحدود الكرواتية إلى الاتحاد الأوربي في عام 2015.
Credit: Sanja Vrzic/Shutterstock
«بصمة الأم: حيرة العلم إزاء تأثير الأم على الجنين» The Maternal Imprint: The Contested Science of Maternal-Fetal Effects
بقلم: سارة إس. ريتشاردسون
دار نشر جامعة شيكاجو (2021)
عانت جدتي من القلق طيلة حياتها، مثلي تمامًا، ولو أنها لم تكن لتصف معاناتها بهذا الوصف. أما وجه الاختلاف بيني وبينها، فهو أنها فرَّت هاربة من بولندا بأوراق هوية مزورة فور اندلاع الحرب العالمية الثانية، مع أن أختها التوأم، وزوجة أبيها التي كانت تحفظ لها ودًّا صادقًا، بقيتا في البلد المحتل.
وعندما اطَّلعتُ على التغطية الصحفية التي تناولت الدراسة التي قدمتها راشيل يهودا في عام 2016، والتي جاء فيها أن لدى أبناء الناجين من مذابح الهولوكوست تغيرات فوق جينية في منطقة بعينها في الجينوم، وأن تلك التغيرات تجعلهم أكثر عرضة للضغط النفسي (R. Yehuda et al. Biol. Psychiatry 80, 372–380; 2016)، وجدتُ في نفسي صوتًا يتساءل: هل تسببت الصدمات التي تعرضت لها جدتي في إحداث تغيرات في تنظيم المادة الوراثية (DNA)، التي انتقلت من جسمها إلى أبي عندما كان جنينًا في بطنها، ومن ثمَّ إليَّ، وأسهم في النهاية في القلق الذي أصابني؟ أم أن هذا القلق راجع إلى عوامل جينية، أو ثقافية، أو ظروف النشأة، أو بسبب ما أعرفه – ويقشعر له بدني - عن مرور أقاربي بتجربة مروعة؟ أم تُرى هل كانت الإجابة كل هذه العوامل مجتمعة؟
صُوِّبت إلى دراسة يهودا سهام النقد، التي دارت في غالبيتها حول صِغر حجم عيّنة الدراسة، وضآلة المجموعة الضابطة، والإفراط في تصوير حجم العلاقات السببية بين المتغيرات التي تناولتها الدراسة، وذلك على الرغم من عدم وضوح هذه الانتقادات في التغطية الإعلامية للدراسة. وفي كتابها، «بصمة الأم» The Maternal Imprint، تعمد المؤلفة سارة ريتشاردسون إلى توسيع نطاق النقد، بحيث يشمل مجال التغيرات فوق الجينية التي تنتقل عبر الأجيال لدى البشر على وجه العموم. تذهب ريتشاردسون في كتابها إلى أن الافتراضات الاجتماعية المتصلة بمسؤولية الأم عن انتقال هذه الجينات تضفي على أفكار هذا المجال مصداقية أكبر مما تستحق عند النظر إليها من زاوية البيانات. وسوف يجد هذا الرأي صدًى واسعًا في صفوف الباحثين، والمثقَّفات من الحوامل، وصناع السياسات، مع أنه كان في الإمكان عرض عملها البحثي على نحوٍ أفضل مما هو عليه.
يُعنى علم التغيرات فوق الجينية (epigenetics) بدراسة التغيرات الكيميائية التي تطرأ على المادة الوراثية دون إحداث تغيير التسلسل الجيني نفسه، وإنما تؤثر تأثيرًا كبيرًا في كيفية تنظيم الجينات، ومن أمثلة هذه التغيُّرات، العملية التي يُطلق عليها «المَثْيَلة» .methylationعلى أن ريتشاردسون تقصر النظر في كتابها على التغيُّرات فوق الجينية التي تُتوارَث عبر الأجيال، وهي التغيرات التي يمكن أن تنتقل وراثيًا إلى المشيج أو الجنين. ويختلف هذا النوع من التغيرات عن التغيرات فوق الجينية التي تنشأ فيما بين الخلايا داخل جسم الإنسان. يحظى هذا النوع الأخير بالدعم الكامل، كما أنها تؤثر تأثيرًا بالغًا على جينومات الخلايا السرطانية، على سبيل المثال.
يأخذنا النصف الأول من الكتاب في جولة ممتدة، ومُسهِبة في الطول، بين النظريات التي تتناول إسهام كلٍّ من الأم والأب فيما يرثه الأبناء منذ أواخر القرن التاسع عشر. وتُبين ريتشاردسون، بوصفها مؤرخة في مجال العلوم، كيف أنَّ المعتقدات السائدة في كل عصر هي ما شكَّلت نظرياته.
لقد تبدَّلت الأفكار السائدة في هذا الشأن، وتحوَّلت من النقيض إلى النقيض، أكثر من مرة. ففي ثمانينيات القرن التاسع عشر، تبنت نظرية «البلازما الجرثومية» germ plasm فكرة أن الحيوان المنوي والبويضة كليهما يسهم بالقدر نفسه في الوراثة. وخلال الفترة الممتدة من ثمانينيات القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين، عارض قِسمٌ من أنصار اليوجينيا في الولايات المتحدة هذه الفكرة، وذهبوا إلى أن الحالة النفسية للأم أثناء الحمل تترك على الطفل أثرًا لا يمَّحي. فعلى سبيل المثال، وفي كتاب صدر في عام 1882م، نصحت جورجيانا بروس كيربي، المُصلِحة التربوية، الأمهاتِ الحوامل بتعلُّم الرياضيات وعزف الموسيقى كل يوم، بدلًا من المشاركة في "الأعمال المنزلية المملة الرتيبة"، مثل "صُنع المُربَّ" و"حياكة التنُّورات"، إذا أردنَ ترك الأثر المناسب في أجنَّتهن. تلا ذلك، وبالتحديد في العقد الأول من القرن العشرين، أنْ شاع اعتقاد بأنَّ للرجال نصيب الأسد في المخاطر التي تهدد النسل، نتيجة اشتغالهم بالوظائف الأكثر خطورة، وزيادة احتمالات شرب الكحول فيما بينهم.
وفي نهاية المطاف، تصل ريتشاردسون إلى نقدها الرئيس للدراسات التي تتناول التغيُّرات فوق الجينية لدى البشر؛ إذ وضعت يدها على نقاط الضعف في ثلاث مجموعات من الدراسات، هي: دراسات سوزان كينج التي أُجريَت على أطفال رُضَّع كانوا أجنة أثناء عاصفة ثلجية ضربت مقاطعة كيبك بكندا في العام 1998، ودراسات يهودا عن الناجين من الهولوكوست وأبنائهم، والأبحاث التي أُجرِيَت على أطفال رضع كانوا أجنة أثناء مجاعة الشتاء الهولندية في عامي 1944 و1945.
أُجريت الدراسات التي تناولت العاصفة الثلجية الكندية على 34 طفلًا فقط، وبدون مجموعة ضابطة. أما الدراسات التي أُجريت عن أثر الهولوكوست، فقد اشتملت على مجموعة ضابطة من الآباء قوامها ثمانية أفراد فقط، وأخرى من النسل قوامها تسعة أفراد. وأما الدراسات الخاصة بمجاعة هولندا، فقد اشتمات على 811 طفلًا، وهو حجم للعينة كافٍ لإجراء الدراسة، بحيث تتضمَّن عددًا كبيرًا من أفراد المجموعة الضابطة. غير أنَّ ريتشاردسون تشير إلى انخفاض حجم التأثيرات التي كشفت عنها الدراسات؛ فقد أظهرت الدراسات أن الفوارق في مستويات مثيَلة المادة الوراثية تراوحت نسبتها بين 0.7% و2.7%. كما أن أيًّا من الدراسات لم تأخذ عينات بيولوجية من الأطفال عند ولادتهم؛ ومن دون تلك العينات، بحسب ريتشاردسون، لا يمكن استبعاد احتمال قيام «علاقة سببية عكسية». معنى ذلك، بعبارةٍ أخرى، أن تلك الدراسات لا يمكنها إثبات ما إذا كانت التغيرات فوق الجينية قد تسبَّبت في زيادة احتمالات التعرُّض للضغط النفسي، على سبيل المثال، أم أن التعرُّض للضغط النفسي هو ما تسبَّب في إحداث تلك التغيرات.
تعتمد دراسات التغيرات فوق الجينية، في المعتاد، على عينات الدم، إلا أن هذه التغيرات تختلف وفقًا لنوع الخلية موضع الدراسة. لذا، فإذا كنتَ مهتمًا بمعرفة آثار التغيرات فوق الجينية على خلايا المخ، فلن يكون في إمكانك الوصول إلى أية معلومات من خلال دراسة تلك التغيرات في خلايا الدم. ونادرًا ما تجمع الدراسات معلومات كافية عن دور الأبوين في حدوث الآثار محل الدراسة، وذلك إن جمعتها من الأساس. ثمة نظرية، على سبيل المثال، ترجح أن سِمنة الأمهات أثناء الحمل تتسبب في زيادة معدلات السمنة لدى الأطفال. ولكن عندما وسَّعت الدراسات دائرة البحث، وُجد أن وزن الأب يعطي تفسيرًا أفضل لهذا المتغيِّر لدى الأبناء.
تُضمِّن ريتشاردسون في كتابها عديدًا من الأفكار الجديرة بالاعتبار، لكنها لا تتعرَّض للمراجع ووجهات النظر الأخرى إلا لمامًا. الأمر الأشدُّ إشكالية في الكتاب أن مؤلفته لا تشتبك مع الدراسات، الآخذة في الزيادة يومًا بعد يوم، التي تقصد إلى سد بعض الثغرات الموجودة في الدراسات الهولندية. ومن أمثلة تلك الجهود «دراسة آفون الطوليَّة للآباء والأطفال في المملكة المتحدة» Avon Longitudinal Study of Parents and Children in the United Kingdom، بالإضافة إلى سبع دراسات أخرى، على الأقل، أجراها «التحالف المعني بدراسة التغيرات فوق الجينية لدى الحوامل والأطفال» Pregnancy And Childhood Epigenetics Consortium، بالاستعانة بعينات تعد بالآلاف، وعينات من دم الحبل السري، للتعامل مع احتمالات قيام علاقات سببية عكسية. وفضلًا عن ذلك، لا توضح ريتشاردسون آلية اختيار تلك المجموعات الثلاث من الدراسات التي انصبَّ عليها تركيزها دون غيرها.
أما الحُجة الرئيسة التي تسوقُها ريتشاردسون في كتابها، فهي أن الدراسات التي تتناول التغيرات فوق الجينية، وإن كانت نتائجها محدودة، قد تُحكم قبضتها على العقول؛ لاسيما في ظل ثقافتنا التي تُعلمنا افتراض أن الأمهات هنّ من يتحمَّلن المسؤولية. حقًا، ليس أسهل من إلقاء اللوم على النساء. ولكن للخروج بحُجة قوية حقًا، يلزَم التعامل مع التفسيرات الأخرى كذلك، ومنها ما نشهده من اندفاع عام نحو التفسيرات التي تعتمد على المادة الوراثية، أو المذهب الذي يُركز على المسؤولية الشخصية أكثر من المجتمعية.
ومع ذلك، فإن ريتشاردسون مُحِقَّة في وصفها كيف أن الافتراضات النابعة من الثقافة السائدة تُضيِّق نطاق الاحتمالات. فكما كتبت أخصائية الصحة العامة، ليانا وينيت: "أنْ تسأل: ماذا ينبغي على المرأة اليوم إذا أرادت مساعدة طفلها على تجنُّب الإصابة بالأمراض المزمنة؟، فهذا السؤال يختلف اختلافًا جذريًا – ويزيد في تحيُّزه – عن السؤال: ماذا يفعل مجتمعنا، وماذا يتعين عليه أن يقدِّم، إذا أردنا أن نصبح بيئةً توفر أفضل المقومات الصحية لإنجاب الأطفال؟".
آنا نوفوجرودسكي محررة تعمل لدى دورية Nature، وتقيم في مدينة بوسطون بولاية ماساتشوستس الأمريكية.