تكنولوجيا
أدواتٌ جديدة للتصدي لمقاوَمة البكتيريا للمضادات الحيوية
تقنياتٌ تشخيصية قائمة على حركة البكتيريا، وعلم الجينوم، وتعَلُّم الآلة، يُمكن أن تساعد في التصدي لأزمة عالمية.
- Nature (2021)
- doi:10.1038/d41586-021-02292-1
- English article
- Published online:
مقاوَمةُ البكتيريا للمضادات الحيوية تُمثِّل مشكلةً كبيرة في جميع أنحاء العالم، وثمة حلولٌ جديدة تهدف إلى التغلب عليها.
Credit: Joao Silva/NYT/Redux/eyevine
أمضت مها فرحات شهورًا من عام 2007 في رعاية المرضى في أحد مستشفيات ديربان بجنوب أفريقيا. فقد أُصيب الكثيرون هناك بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (HIV)، غير أن العدوى التي أرَّقتها وأرَّقت مرضاها آنذاك، حين كانتُ طبيبةً مقيمة، لم تكن ناتجة عن فيروسٍ، وإنما كان سببُها نوعًا من البكتيريا يُسمَّى المتفطِّرة السُلِّية Mycobacterium tuberculosis، وهي العامل المُمْرِض الذي يُسبِّب مرض السُّل. وكان ما أثار قلق فرحات تحديدًا هو السلالات المقاوِمة للمضادات الحيوية الشائعة من هذه البكتيريا.
فمن المعروف أن الأفراد ذوي المناعة الضعيفة معرَّضون بشدة للإصابة بمرض السل، لكن العدوى ليست قاصرةً على المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية المكتَسَب. ففي عام 2019، حصدت بكتيريا المتفطِّرة السُّلية أرواح 1.4 مليون شخص على مستوى العالم، من بينهم 208 آلاف مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية المكتسَب. وتقول فرحات، التي تعمل حاليًّا طبيبة وأخصائية في مجال نُظُم المعلومات الحيوية بجامعة هارفارد في بوسطن بولاية ماساتشوستس: "على الرغم من أن «كوفيد-19» حلَّ محل مرض السل لفترةٍ وجيزة، لا يزال السل يتصدَّر قائمة الأمراض المُعدية الفتاكة على مستوى العالم." وتُعَد أشكال السل المقاوِمة للعقاقير من أهم العوامل المسهمة في هذه المشكلة.
تسبَّبت العوامل المُمْرِضة المقاوِمة للعقاقير بجميع أنواعها في حدوث أزمة مقاومة للمضادات الحيوية تُشكِّل تهديدًا للصحة العامة والزراعة وتربية الحيوانات، وغير ذلك كثير، بيْد أن اكتشاف هذه السلالات وتحديد العلاجات الفعالة لها ليس بالمهمةً السهلة. فقد يصعُب توفير المختبرات المجهَّزة للتعامل مع مُسبِّبات الأمراض المُعدية، مثل المتفطِّرة السُّلِّية، في البلدان محدودة الموارد. وقد تستغرق أدوات اختبار سرعة تأثر البكتيريا بالعقاقير أيامًا لإعطاء النتائج المطلوبة. وفي كثير من الحالات، لا يجري الأطباء اختبارات مقاومة العقاقير إلا بعد فشل واحدٍ أو أكثر من المضادات الحيوية القياسية. وأثناء فترة الانتظار، قد يبدأ المرضى في تناول مضادات حيوية غير ضرورية أو غير فعالة، وربما يغادرون العيادات بدون علاج.
بدأت فرحات وباحثون آخرون في اللجوء إلى استخدام أدواتٍ مثل الفحص المجهري بالقوة الذرية، وعلم الجينوم، وتعلُّم الآلة، بهدف تصميم اختبارات تشخيصية في نقاط الرعاية، آملين أن تُعطي هذه الاختبارات النتائج المطلوبة في غضون دقائق، وهو ما من شأنه أن يُقلِّل كثيرًا من استخدام الوصفات الطبية غير الصحيحة، أو غير الضرورية. فيقول يفجيني إيدليفيتش، اختصاصي علم الأحياء الدقيقة الإكلينيكي، والذي يعمل في المركز الطبي الجامعي في جرايفسفالد في ألمانيا: "زيادة السرعة هي أهم تقدُّم نحتاج إلى تحقيقه".
قياس النمو الميكروبي
تعود الطريقة القياسية لتقييم تأثُّر الميكروبات بالعقاقير - المعروفة باسم «اختبار انتشار القرص» - إلى عام 1889. وفي هذه الطريقة، يستنبت الباحثون البكتيريا على طبق أجار (وهو مادة هلامية تستخرج من الطحالب)، ثم يضعون أقراصًا دقيقة من الورق مُحمَّلة بالعقاقير على الخلايا البكتيرية النامية. وتصبح المناطق المحيطة بالأقراص شفافةً إذا كان العقار يقتل البكتيريا، أو يتسبِّب في وقف نموها، وهو ما يدل على أن البكتيريا تتأثر بالعقار.
وقد استخدمت شركات تقنيات التشغيل الآلي لتطبيق هذا المبدأ في تطوير أدوات لقياس تأثُر البكتيريا بمضادات الميكروبات، مثل أداة «بي دي فينيكس» BD Phoenix من إنتاج شركة «بي دي بايوساينسز» BD Biosciences، ومقرها ولاية نيو جيرسي، وأداة «فِيتيك 2» VITEK 2 من شركة «بايوميريو» bioMérieux، ومقرها مارسي ليتوال في فرنسا. وتستنبت هذه الأنظمة البكتيريا في مزارع سائلة تحتوي على مضادات حيوية، وتبحث عن تغيراتٍ ظاهرة في الخواص البصرية للعينة المستزرعة تدل على نمو البكتيريا، أو نفوقها. وتستغرق هذه الاختبارات عادةً فترةً زمنية تتراوح بين أربع وثماني ساعات. وإن كان صدور نتائجها قد يستغرق يومًا أو أكثر، لأن الأطباء يُضطرون إلى إرسال العينات إلى مختبرات مخصَّصة لعلم الأحياء الدقيقة الإكلينيكي1.
غير أن الباحثين يستفيدون أيضًا من اختباراتٍ عُهد عنها أنها أكثر ارتباطًا بالعلوم الفيزيائية، مقارنة بمختبرات الأحياء الدقيقة.
اختبار انتشار القرص طريقةٌ شائعة لمعرفة مدى فعالية المضادات الحيوية.
Credit: Doncaster and Bassetlaw Hospitals/SPL
ففي عام 2018 - على سبيل المثال - ابتكر إيدليفيتش نسخةً مصغرة من اختبار المزرعة السائلة، تعتمد على تقنية تسمى MALDI-TOF - وهي تقنية لقياس الطيف الكتلي، تستخدم التأين المُستحَث بالليزر، و«أنبوب قياس زمن الطيران»، والذي يكون أنبوبًا طويلًا تنتقل عبره الأيونات؛ للتعرف على الجزيئات الميكروبية استنادًا إلى كتلتها وشحنتها. وقد ضع إيدليفيتش وفريقه البحثي قُطيراتٍ مجهرية من مزارع اثنين من العوامل المُمْرِضة – هما الزائفة الزنجارية Pseudomonas aeruginosa، والكلبسيلة الرئوية Klebsiella pneumoniae – مباشرة على مصفوفة داعمة صلبة تُستخدم في تقنية MALDI-TOF، وأحاطوا كل قُطيرة بعقار مختلف. وعالجوا العينة بعد ذلك بنظام صُمِّم خصيصًا للتعرف على البكتيريا؛ وهو نظام «مالدي بايوتايبر» MALDI Biotyper، الذي ابتكرته شركة «بروكر دالتونيك» Bruker Daltonik. ودلَّت قيم الكثافة عند قمم طيفية محددة على ما إذا كانت المزارع تتأثر بالمضادات الحيوية، أم تقاومها2.
وفي عام 2013، وجد جيوفاني لونجو - الذي يعمل في المجلس الوطني الإيطالي للأبحاث في روما – بالتعاون مع زملائه أنه لدى إلصاق بكتيريا الإشريكية القولونية Escherichia coli المُمْرِضة ببِنى مصغرة أشبه بألواح الغوص، تُعرف بالدعامات، وتعريضها للمضادات الحيوية، تأخذ هذه البِنى في البروز لأعلى وتهبط لأسفل، بسبب حركاتٍ ضئيلة قامت بها البكتيريا الحية المُلتصقة. وكانت الحركات تتوقف إذا تأثرت البكتيريا بالمضادات الحيوية. وأمكن رصد هذه الحركة في غضون دقائق من خلال مجهر يستخدم القوة الذرية قبل تكاثر البكتيريا بوقت طويل، مما عنى أن هذا الاختبار يمكنه اكتشاف البكتيريا الحية بصورة أسرع كثيرًا مما يمكن باستخدام اختبار يرصد نمو البكتيريا3.
وقد أرادت رايتشيل ماكيندري - الباحثة في تكنولوجيا النانو من كلية لندن الجامعية – وإيزابيل بينيت، طالبة الدراسات العليا، التي كانت رايتشيل تشرف عليها آنذاك، أن تطبقا هذا النهج إكلينيكيًّا، غير أن إلصاق البكتيريا بدعامات يبلغ طولها 200 ميكرومتر في طبق بتري لاستنبات البكتيريا لم يكن بالسهل عمليًا. وحول ذلك، تقول بينيت: "جزءٌ صغير فقط من المرتكزات هو الذي تلتصق به البكتيريا، وأحيانًا تتكتَّل البكتيريا، أو تلتصق كمية ضئيلة للغاية منها".
وقد اكتشفت بينيت أثناء عملها مع فريق لونجو من أجل ضبط هذه العملية وتحسينها اختلافات كبيرة في الضوء المنعكس من العينات المستزرعة، وهو ما أوحى بإمكانية رصد حركات بكتيرية مماثلة، حتى عندما لا تلتصق البكتيريا بالمرتكزات. لذا، قرَّر الفريق تغيير نسق عمله، بحيث يتم تتبُّع البكتيريا أثناء طفوها عبر أسطح البِنى المصغرة. وصنع الفريق الدعامات من مادة صلبة عاكسة، وابتكر برمجية لتحليل حركة البكتيريا، بحيث تكون القراءة متناسبة مع عدد البكتيريا في المحلول4. وتقول ماكيندري: "لقد تبيَّن أن هذه الإشارة البسيطة المواربة هي حقًّا طريقة جيدة لاكتشاف مقاومة المُمْرض للعقاقير، مقارنةً بالطرق الحالية".
وتشير بينيت إلى أن النظام يمكن تكييفه وتطويره لأغراض الاستخدام الإكلينيكي، رغم أنه لم يُطرح على نطاق تجاري بعد. فيمكن تحويل الأسطح العاكسة إلى أجزاء مُلحقة تُوضع في الألواح الميكرومترية المستخدمة في المعتاد، والاستعاضة عن مجهر القوة الذرية بالقارئ الضوئي لمشغل أقراص الفيديو الرقمية لالتقاط الإشارة. وتقول بينيت: "من الممكن أن تكون هذه أداة بسيطة للغاية، ومنخفضة التكلفة".
ويسعى الفيزيائي كاميل إكينشي، من جامعة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، إلى تطوير وسيلة بديلة للاستدلال على مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية، وهي التيار الكهربائي. فقد وضع فريقه عينة بول مليئة ببكتيريا الكلبسيلة الرئوية - وهي سبب شائع لعدوى المسالك البولية - مباشرةً داخل قناة واحدة لجهاز موائع دقيقة مع مضاد حيوي، وتتَّبع الفريق التوصيل الكهربائي عبر القناة5. ويوضح إكينشي ذلك قائلًا: "إذا تكاثرت البكتيريا، وسدت القناة، فإنها تخلق المزيد من المقاومة الكهربائية، فنحن في الأساس نحوِّل النمو البكتيري إلى إشارة كهربائية".
ويضيف إكينشي أن الميزة الأساسية لهذا النهج تتمثَّل في أن الإشارة الكهربائية أسهل في تضخيمها وتصويرها من الصور المجهرية، ويقول: "تقنيتنا قادرةٌ، من حيث المبدأ، على اكتشاف أي انقسام بكتيري مفرد"؛ على الرغم من أنه يضيف أن الطريقة قد لا تفلح مع جميع أنواع البكتيريا، لا سيما مُسبِّبات الأمراض بطيئة النمو، مثل المتفطِّرة السُّلِّية.
قياس الواسمات الجزيئية
إن الاختبارات التي تعتمد على نمو البكتيريا سهلة، ورخيصة التكلفة، وغير نوعية، فاختبارٌ واحد يصلح للكشف عن ِطَيْف واسع من مُسبِّبات الأمراض، ولكن نظرًا إلى أن نتائج الاختبارات تعتمد على ظروف النمو، وعلى استخدام التركيز الصحيح من المضادات الحيوية، فإن هذه الاختبارات "معيبة على الأصعدة الأخرى كافة"، على حد قول سوزان هاوسلر، التي تدرس طب الأحياء الدقيقة في مستشفى ريجشوسبيتالت في كوبنهاجن.
ولإيجاد بديل، لجأت هاوسلر وآخرون إلى علم الجينوم، للحصول على أدلة تكشف ظاهرة مقاومة العقاقير. وتعقيبًا على ذلك، تقول صوفيا كو، اختصاصية علم الأوبئة من جامعة هارفارد إن هذا الاتجاه إلى "الاختبارات المستقلة عن المزرعة" يمثل التحوَّل الكبير القادم في هذا المجال.
ويرى جاري سكولنيك، المتخصِّص في أبحاث الأمراض المعدية من جامعة ستانفورد في ولاية كاليفورنيا، إن الاعتماد على الجينات التي توجد صلة واضحة بينها وبين آليات مقاومة المضادات الحيوية هو الطريق الأمثل نحو تشخيصٍ أسرع، إذ لا يتطلب فتراتٍ طويلة من الحضانة البكتيرية. غير أنه من الأهمية بمكانٍ معرفة أي جزء من تسلسلات الجينوم البكتيري يُعد مهمًا لمقاومة العقاقير، حسبما يقول توماس جريس، اختصاصي علم الأحياء الدقيقة الإكلينيكي من مايو كلينيك في فينيكس بولاية أريزونا، والذي أضاف قائلًا : "إذا لم نفعل ذلك، فمن السهل أن نغفل التعرف على آليات المقاومة الجديدة، أو أن نكتشف جزءًا من جين لا يكسِب البكتيريا المقاومة في حقيقة الأمر".
سكولنيك هو أيضًا كبير المسؤولين الطبيين في «فيسبي ميديكال» Visby Medical، وهي شركة ناشئة، مقرها كاليفورنيا، فازت بمبلغ قيمته 19 مليون دولار أمريكي في عام 2020 كجزءٍ من تحدي تشخيص مقاومة مضادات الميكروبات برعاية معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، وهيئة البحث والتطوير الطبي الحيوي المتقدم، التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية.
"كلما زادت البيانات التي نجمعها، أصبحت لدينا فرصةٌ أكبر لتحسين قدرتنا على التنبؤ بالمقاومة".
واختبار الشركة هو اختبارٍ تشخيصي يستخدم مرة واحدة، في نقطة الرعاية، ويُجرى باستخدام أداة بسيطة محمولة لاكتشاف القدرة على مقاومة العقاقير لدى العوامل المُمْرضة المنقولة جنسيًّا، مثل النيسرية البُنية Neisseri a gonorrhoeae. ويركز الاختبار على الطفرات التي تُكسِب العوامل المُمْرِضة مقاومة لعقار «سيبروفلوكساسين» ciprofloxacin، وهو مضاد حيوي فموي شائع الاستخدام في حالات عدوى المكورات البنية. وتكشف الطفرات في الجين الذي يُشفِّر إنزيم gyrase A البكتيري عن الفرق بين سلالات النيسرية المقاوِمة لعقار «سيبروفلوكساسين» أو التي تتأثر به.
وقلما تُستخدم الاختبارات القائمة على تفاعل البوليميراز المتسلسل للكشف عن مثل هذه المتغيرات في العيادات، بسبب الحاجة إلى أدوات وكواشف وفنيين مدربين على إجراء التفاعُل. ويتجاوز تشخيص شركة فيسبي هذه القيود عن طريق اختزال نتائج الاختبار في تغييرٍ بسيط في اللون، إذ تتدفق الشظايا الميكروبية المُضخَّمة إلى غرفة في الجهاز تحتوي على مجسات رصد لكل متغير من الجين. وينتج عن الارتباط بين المضاد الحيوي والعامل الممرض تغيرٌ في اللون يعكس ما إذا كانت السلالة تتأثر بعقار «سيبروفلوكساسين»، أم تقاومه6.
ويواصل آخرون استكشاف تسلسل الجينوم الكامل، لتحديد طيف المتغيرات الجينية التي تمنح العامل المُمْرِض المقاومة، غير أن تطوير اختباراتٍ سريعة ومنخفضة التكلفة استنادًا إلى المعلومات التي تتكشف من هذه العملية لا يزال يمثل تحديًا صعبًا. وتقول نيكول ويلر، عالمة البيانات من جامعة برمِنجهام بالمملكة المتحدة، التي تدرس أساليب تعَلُّم الآلة لعلم الجينوم: "لا يتعلق الأمر فقط بوجود جين مقاومة، وإنما بالتعبير عنه كذلك". وتضيف: "كلما زادت البيانات الترانسكربتومية والبروتيومية التي نجمعها، أصبحت لدينا فرصةٌ أكبر لتحسين قدرتنا على التنبؤ بالمقاومة".
إن التقنيات المعتمدة فقط على سلسلة الجينوم تعمل على نحوٍ جيد مع بعض العوامل المُمْرِضة، مثل السالمونيلا المعوية Salmonella enterica، غير أن الطفرات في الجينات التنظيمية المتعددة يمكن أن تُحدِث تغييرًا في أنماط التعبير الجيني (ومن ثم، تُحدِث تغييرًا في المقاومة) لدى عوامل مُمْرِضة أخرى، ومنها الزائفة الزنجارية P. aeruginosa. فتقول هاوسلر: "من حيث المبدأ، يشتمل الجينوم على جميع بيانات الترانسكريبتوم، إلا أن فحص الترانسكربيتوم يكون أسهل في بعض الأحيان من البحث عن جميع الطفرات المحتملة التي تُغيِّر التعبير الجيني".
ففي عام 2014، على سبيل المثال، درس تشيكارا فوروساوا - وهو اختصاصي في الهندسة الحيوية من معهد ريكن في أوساكا باليابان - سلالاتٍ مُعدة مخبريًا من بكتيريا الإشريكية القولونية تتكيف مع النمو في وجود مضادات حيوية مختلفة، وقد تَوصَّل إلى أن بمقدوره استخدام التغييرات في التعبير الجيني لدى البكتيريا، للتنبؤ بنشوء المقاومة على نحوٍ أكثر دقة مما يمكن أن يفعله بواسطة تسلسلات الحمض النووي ذاتها7 ويقول فوروساوا: "كان الارتباط بين التعبير الجيني والمقاومة أعلى بكثير من الارتباط بين المقاومة والواسمات الجينومية".
التنبؤ بالمقاوَمة المستقبلية
ركّزت هاوسلر وفريقها البحثي، في الدراسة التي أجروها، على مزيجٍ من الواسمات الجينومية والترانسكربتومية، بوصفهما أفضل "بصمة" للتنبؤ بمقاومة المضادات الحيوية لدى بكتيريا الزائفة الزنجارية8 غير أنهم لجأوا إلى تعلُّم الآلة، بهدف تحسين نموذجهم. فبدلًا من مجرد تحديد الطفرات التي تُكسِب مقاومة، استخدموا خوارزمياتهم لتحديد بصمة تغيرات الحمض النووي والحمض النووي الريبي، التي تنذر بمقاومة السلالة للمضادات الحيوية8. وتقول هاوسلر إن الخوارزمية تساعد في تحديد السمات الأساسية فحسب، وهي لن تُشكِّل جزءًا من اختبار تشخيصي نهائي، غير أن مثل هذه النُّهُج بمقدورها التغلب على مشاكل رصد جميع صور تفاعل "الجراثيم والعقاقير" من خلال الجينوم وحده، حسبما تقول ويلر.
وبدلًا من الاكتفاء بإبلاغ الأطباء بسمات المقاومة الحالية لدى أحد العوامل المُمرِضة، يمكن أن تكشف هذه الخوارزميات أيضًا عن آليات مقاومة المضادات الحيوية التي قد تُطوِّرها سلالةٌ ما، استجابةً للعلاجات، غير أن "تحديد ما إذا كان ينبغي الوثوق بخوارزمية ما، أم لا، يمثل تحديًا صعبًا"، حسبما تشير ويلر التي تضيف قائلة: "إن الخوارزميات تشبه بصناديق سوداء. فحتى إذا كنتَ تمتلك كل الشفرات وجميع البيانات، فأنت لا تعرف بالضرورة ما الذي يدفع النموذج إلى الجزم بأن العينة "أ"، مثلًا، مقاوِمة لعقار «أزيثرومايسين»".
وتشير ويلر إلى مشكلةٍ أخرى يسعى مطورو العقاقير إلى التغلب عليها، وهي فرط التوفيق بين البيانات والنتائج، إذ تقول إن الخوارزمية قد "تحفظ مجموعةً كبيرة من السمات غير المهمة" في البيانات، بدلًا من تعلُّم كيفية العثور على الارتباطات الحقيقية. ونظرًا إلى أن التسلسلات الجينية البكتيرية قد تكون متشابهة للغاية، فقد تبالغ أدوات تعلُّم الآلة في تبسيط المشكلة، وتستخلص نتائج خاطئة. وتشبِّه ويلر المشكلة ببحثٍ خاطئ عن الصور: فعند تدريب خوارزميةٍ ما على التعرف على العديد من صور حيوانات المزرعة في الحقول، فمن الوارد أن ترصد صورة مساحة مفتوحة، باعتبارها أغنامًا. وكثيرًا ما تمرر البكتيريا جينات مقاومة المضادات الحيوية إلى بعضها بعضًا على قِطَع دائرية صغيرة من الحمض النووي، لا تُعَد جزءًا من جينوماتها. وهنا، تقول ويلر: "نظرًا إلى أن باقي الجينوم لا يتغير، فقد تستنتج الخوارزمية أن السلالة لا تزال تتأثر بالعقاقير". وتضيف قائلة: "ما نريده حقًّا من هذه النماذج هو أن تتعلم بيولوجيا المقاوَمة".
وفي ظل القيود المفروضة على دراسة مرض السل وإجراء الفحوص الخاصة به، تبنَّت فرحات نهج تعلُّم الآلة، الذي يستخدم سلسلة الجينوم الكامل، بهدف التوصل إلى تنبؤات. وفي شهر إبريل الماضي، سلَّطت هي وزملاؤها الضوء على أداةٍ معتمِدة على شبكة الإنترنت، تُسمَّى «جين تي بي» GenTB، يمكنها التنبؤ بالمقاومة للعديد من عقاقير مرض السل9. ويتباين أداء الأداة تبعًا لجودة مدخلات بيانات التسلسل والعقار محل الدراسة. وتوضح فرحات أنه في حين أن طفرةً واحدة شائعة تكون مسؤولةً عن ما يصل إلى 80% من مقاومة عقاقير الخط الأول المستخدَمة في علاج السل، فإن العديد من السلالات المتحوِّرة النادرة تعزز قليلًا مقاومة عقاقير الخط الثاني. وحول ذلك، تقول فرحات: "في بعض الأحيان، لا نرصد المقاومة إلا عند وجود العديد من هذه الطفرات".
العمل جار على قدم وساق
بصرف النظر عن النهج الذي يسلكه الباحثون، فهم يواجهون التحدي الأساسي ذاته: تصميم أداة تشخيصية تحسن كثيرًا الأدوات الحالية. ويقول جريس إن الاختبارات الحالية قادرةٌ بالفعل على تقديم النتائج للأطباء في أقل من 24 ساعة، مقابل دولارٍ واحد أو دولارين لكل اختبار. لكنه يضيف قائلًا: "المسألة لا تتعلق بما إذا كان الاختبار جيدًا أم لا. وإنما بما إذا كان أفضل مما لدينا الآن. فمن المهم أن نحدد مسارًا يساعدنا على تحقيق الأهداف المنشودة".
ويجري حاليًّا تطوير بعض الاختبارات. وهذه الاختبارات تواجه قيودًا فيما يتعلق بأنواع العينات التي يمكنها معالجتها، أو البكتيريا، أو المضادات الحيوية التي يمكنها فحصها. فعلى سبيل المثال، يقتصر عمل أدوات التشخيص في شركة «فيسبي» حاليًّا على اكتشاف حالات عدوى المكورات البُنّية، ويتطلب جهاز الموائع الدقيقة الذي ابتكره عالِم الفيزياء إكينشي وجود عينات بول، ولا يمكنه التعامل مع العدوى التي يسبِّبها أكثر من نوعٍ واحد من البكتيريا. أما الأنواع الأخرى من الأجهزة التي تتطلب مجاهر متطورة، أو قياسًا طيفيًّا – مثل تلك المعتمدة على الدعامات – فسوف تحتاج إلى إدخال تعديلاتٍ عليها، كي يتسنى لغير المتخصصين العاملين في العياداتٍ فقيرة الموارد حول العالم استخدامها. ونظرًا إلى أن أساليب عديدة من تلك تفحص واحدًا أو اثنين من الميكروبات في مواجهة عددٍ محدودٍ من العقاقير، فلم يتم التغلُب إلا على "غيض من فيض"من المشكلات ، حسبما يقول ألكس فون بلكوم، مدير أبحاث علم الأحياء الدقيقة في شركة «بايوميريو»، الذي يضيف قائلًا: "ثمة فجوةٌ كبيرة لا تزال قائمةً بين هذه التقنيات ونُظُم اختبار التأثر بالمضادات الحيوية التي تعمل بالتشغيل الآلي وتُستخدم حاليًّا في المختبرات".
وكما ثبت مع جائحة «كوفيد-19» - التي أظهرت أن الاختبارات السريعة حاسمةٌ في اكتشاف الفيروس ووقف انتشاره - فإن أدوات التشخيص منخفضة التكلفة في نقاط الرعاية تُعَد ضروريةً للحد من إساءة استخدام المضادات الحيوية، على حد قول ماكيندري، التي تضيف قائلة: "إن مقاومة مضادات الميكروبات مشكلةٌ معقدة للغاية، والاختبارات الجديدة ليست سوى جزءٍ من الحل".
References
- van Belkum, A. et al. Nature Rev. Microbiol. 18, 299–311 (2020). | article
- Idelevich, E. A., Sparbier, K., Kostrzewa, M. & Becker, K. Clin. Microbiol. Infect. 24, 738–743 (2018). | article
- Longo, G. et al. Nature Nanotechnol. 8, 522–526 (2013). | article
- Bennett, I., Pyne, A. L. B. & McKendry, R. A. ACS Sens. 5, 3133–3139 (2020). | article
- Yang, Y., Gupta, K. & Ekinci, K. L. Proc. Natl Acad. Sci. USA 117, 10639–10644 (2020). | article
- Morris, S. R. et al. Lancet Infect. Dis. 21, 668–676 (2021). | article
- Suzuki, S., Horinouchi, T. & Furusawa, C. Nature Commun. 5, 5792 (2014). | article
- Khaledi, A. et al. EMBO Mol. Med. 12, e10264 (2020). | article
- Gröschel, M. I. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/2021.03.27.437319 (2021).