صندوق الأدوات
خمس تقنيات بحثية رائدة: إلى أين وصلت؟
هل تبحث عن بعض الطرق الشائعة لتحقيق النجاح في الأبحاث العلمية الرائدة؟ إليك هذه الأدوات والمشروعات البحثية الهامّة، التي حققت الشهرة والرواج بسرعة لافتة.
- Nature (2021)
- doi:10.1038/d41586-021-01684-7
- English article
- Published online:
Credit: Adapted from Getty
حين طُلِب من كايهانج وانج وصف تخصصه، أجاب على الفور قائلًا: "عمل يدويّ"؛ ذلك أنَّ جزءًا كبيرًا من عمله في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في باسادينا يتضمن صُنع الأشياء. لكنَّه لا يصنعها باستخدام المطرقة والمسامير، وإنما يبتكر مع فريقه أدواتٍ جزيئية، من بينها نظامٌ يستطيع علماء البيولوجيا برمجته لإضافة شريطٍ صناعي طويل من الحمض النووي إلى الخلايا البكتيرية1 وبعد مزيدٍ من التفكير، أجاب وانج على السؤال مرةً أخرى، مقدِّمًا هذه المرة إجابتين بديلتين أقرب إلى العِلم: البيولوجيا التخليقية، أو هندسة الجينوم. وقال: "الغاية التي تصبو إليها كل جهودنا هي أن نصنع شيئًا حيًّا".
يلجأ العديد من علماء البيولوجيا، مثل وانج، إلى التخصصات الأخرى، بحثًا عن المواد، أو للتعاون مع باحثين آخرين، أو للعثور على أساليب مختلفة حين تعجز الأدوات المتاحة لديهم عن تحقيق غاياتهم. وهذا يمكن أن يسفر عن طُرُقٍ أو اتحاداتٍ بحثية تتطلَّب مصطلحاتٍ واصفة جديدة، مثل تقنية «الفحص المجهري بمطِّ العينات»، أو «مشروع الجينوم - مرحلة التخليق». وبعض هذه الطرُق والاتحادات تُحدِثُ ضجةً بين العلماء، لتَمَتُّعها بمزيجٍ من القدرات التقنية وأساليب الترويج الفعَّالة.
وفي هذا الصدد، ترى إريكا شيمانسكي، التي تدرس الخطاب العلمي في جامعة ولاية كولورادو بمدينة فورت كولينز الأمريكية، أنَّ صياغة اسمٍ جذاب لمجالٍ أو أداةٍ ما يُنشئ بِنْيةً تحتية مفاهيمية، يستطيع الباحثون الاعتماد عليها لتطوير أبحاثهم. وتضيف: "مثلما تُحدِّد حدود المجهر ما نستطيع رؤيته به، لا يمكننا «رؤية» الأشياء إلَّا عندما يصبح لدينا اسم لها. وأحيانًا ما يفيدنا التفكير في العمل الذي نؤديه بطريقةٍ مبتكرة، لأنَّ هذا يفتح لنا آفاقًا لنتخيَّل احتمالاتٍ جديدة".
وفي هذا المقال، تستعرض دورية Nature خمس تقنياتٍ مثيرة للاهتمام، عاصرناها في الأعوام الخمسة عشر الماضية. تمخَّض بعض هذه التقنيات عن مجالاتٍ بحثية جديدة، وبعضها حاز تمويلًا، فيما عزَّز بعضها الآخر التعاون العالمي، أو استلهم أهدافًا جديدة من دراساتٍ بعيدة عن هدفه الأصلي. لكنَّها كلها تركت بصمتها على العِلم، سواء بما كشفَتْه من وظائف جديدة للخلايا، أَم ما نتج عنها من شركاتٍ وعلاجات جديدة، أَم بما وَفّرَتْه من معلوماتٍ وإرشادات لسياسات الصحة العامة خلال الجائحة الحالية.
التغيرات فوق الترانسكربتومية
يستطيع الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA)، شأنه في ذلك شأن الحمض النووي الجينومي، أن يحمل وسومًا كيميائية، مثل مجموعات الميثيل أو السكر، تُعدِّل وظيفته أو مصيره. غير أنَّ هذه التعديلات ليست موحدة، وعندما اكتُشِف أنَّ بعضًا من الحمض النووي الريبي المرسال يتعرَّض لدرجةٍ كبيرة من «المَثْيَلة» methylation، بخلاف بعضه الآخر، تبيَّن أنَّ هذه الوسوم ربما تضطلع بدورٍ بيولوجي. وفي عام 2012، تمكَّن سامي جافري، اختصاصي بيولوجيا الحمض النووي الريبي في كلية وايل كورنيل للطب بمدينة نيوريورك، ومعه عددٌ من زملائه، من ابتكار طريقةٍ لتحديد علامةٍ معينة من علامات مثْيَلة الحمض النووي الريبي، تُسمَّى m6A، وذلك على مستوى الترانسكربتوم (الذي يُقصَد به جميع جزيئات الحمض النووي الريبي في خليةٍ، أو كائنٍ حي)2.
في الدراسة التي نشرها الفريق، صاغ الباحث كريستوفر ماسون - المؤلف المشارك فيها، الذي يعمل هو أيضًا في كلية وايل كورنيل - مصطلح «التغيرات فوق الترانسكربتومية» epitranscriptomics، ليشرح فرضية الفريق القائلة بأنَّ وسوم الميثيل تُنظِّم نشاط نُسَخ الحمض النووي الريبي، مشيرًا بهذا إلى السبب المحتمل الذي يجعل مستويات البروتين غير متكافئة أحيانًا، مع وفرة النُّسَخ التي تُرمِّزها. ويقول جافري عن ذلك: "ربما تكون هذه طبقةً أخرى من الشفرة الجينية، وكانت هذه فكرةً جذَّابة جدًّا". وقد سهَّل هذا المصطلح الجديد على الباحثين الآخرين استيعاب المفهوم.
وعلى مر السنوات، نَمَت فكرة «التغيرات فوق الترانسكربتومية»، لتصبح مجالًا مستقلًّا بذاته، يحتاج إلى التمويل، وإلى عقد الاجتماعات، وإنشاء المشروعات التعاونية. وحول هذا الشأن، تقول إيفا ماريا نوفوا باردو، الباحثة المتخصصة في بيولوجيا الحمض النووي الريبي بمركز تنظيم بحوث الجينوم في مدينة برشلونة الإسبانية: "يمكن القول إنه حين صُكَّ هذا المصطلح، نشأ هذا المجتمع الجديد".
في طريقة جافري وماسون الأصلية، استُعين بجسم مضاد لعلامة m6A، لعزل الأجزاء الصغيرة من الحمض النووي الريبي المُعدَّل، التي يتراوح طولها بين 100 و200 نيوكليوتيد، ثم حدَّد الباحثان ماهية تلك الأجزاء، عن طريق تعيين تسلسلها الجيني. وبعدها رَبَط أعضاء الفريق بين الأجسام المضادة، وركيزةٍ، باستخدام روابط عرضية، ورسَّبوا أجزاء الحمض النووي الريبي المرتبطة بالأجسام المضادة، لتحديد المواقع التي تعرضت لعملية المَثْيَلة؛ ما أتاح لهم إنشاء أول خريطة للحمض النووي الريبي المرسال المُمَثْيَل على مستوى النيوكليوتيدات المفردة. وهذا ساعدهم في تحديد فئةٍ أخرى من الجزيئات التي تتضمن هذا التعديل، وهي جزيئات الحمض النووي الريبي للأنوية الصغيرة3 يقول جافري: "بدأنا الآن نجتمع على فكرة أنَّ إحدى الوظائف الرئيسة لعلامة m6A هي تحديد الحمض النووي الريبي، ليحدث له تحوُّلٌ سريع"، وهذا عاملٌ بالغ الأهمية في قدرة الخلية على التغيُّر والاستجابة لبيئتها.
اعتمدت الابتكارات اللاحقة على الإنزيمات القادرة على قطع جزيئات الحمض النووي الريبي غير المُمَثيَلة عند تسلسلاتٍ محددة. وهذه الأداة، التي ابتكرها شراجا شوارتز، اختصاصي بيولوجيا الحمض النووي الريبي في معهد وايزمان للعلوم بمدينة رحوفوت في إسرائيل، أتاحت له أن يكتشف ما إذا كان موقعٌ معين قد خضع للتعديل، وأن يحدد أيضًا النسبة المئوية للنُسَخ التي تحمل التسلسل المُمَثيَل. وعندما طبَّق شوارتز وزملاؤه تلك الطريقة على الترانسكربتوم بأكمله، وجدوا أنَّ التقنية المعتمدة على الأجسام المضادة قد فوَّتت حوالي 75% من المواقع المُعدَّلة، ولم تتعرَّف عليها، ما يعني أنَّ حساسية تلك التقنية ربما تكون محدودة4 يقول شوارتز: "فوجئنا بشدة عند ملاحظة ذلك. فوجود طريقتين بدلًا من واحدةٍ فقط يتيح لنا رؤيةً أشمل".
واليوم، صار الباحثون في مجال «التغيرات فوق الترانسكربتومية» قادرين على تحليل تسلسلات الحمض النووي الريبي المُعدَّل مباشرةً، باستخدام آلات تعيين التسلسل بالثقب النانوي. وعلى عكس الآلات التقليدية، التي تتطلب تحويل الحمض النووي الريبي إلى حمضٍ نووي أولًا، باستخدام النَسخ العكسي، فإنَّ هذه الأدوات تُمرِّر جزيئات الحمض النووي الريبي خلال ثقوب نانوية بروتينية، مُنتِجةً بذلك تياراتٍ كهربائية مميزة، تُفَك شفرتها بعدئذٍ لكشف تسلسل الحمض النووي الريبي. غير أنَّ خوارزمية تعيين التسلسل المُستخدَمة لفك شفرة التيارات تُخطئ مرارًا في تحليل النيوكليوتيدات المُمَثيَلة لعلامة m6A. لذا، في عام 2019، صمَّمت نوفوا وزملاؤها خوارزمية (حُدِّثَت في وقتٍ سابق من العام الجاري5) تستخدم هذه الأخطاء لتتوقع أيًّا من هذه المواقع يحمل نيوكليوتيدًا مُمَثْيَلًا. تقول نوفوا: "إنَّ إمكانية تعيين تسلسل الحمض النووي الريبي الأصلي تتيح لنا رؤية الترانسكربتوم من منظورٍ غير متحيزٍ إطلاقًا"، قاصدةً بهذا تعيين تسلسله، دون الحاجة إلى تحويله بالنسخ العكسي إلى حمض نووي أولًا.
أطلس الخلايا البشرية
بعد الانتهاء من تحديد تسلسل الجينوم البشري في عام 2003، وابتكار أدواتٍ جديدة لدراسة الخلايا المُفرَدة، راح الكثيرون يتساءلون عمَّا إذا كانوا يستطيعون رسم خريطةٍ بالمواقع الفريدة لكل خليةٍ بشرية، وسلوك هذه الخلايا وتطورها. وكان من بين هؤلاء سارة تايشمان، اختصاصية عِلم الجينات في معهد وِيلْكَم سانجر بمدينة هنكستون في المملكة المتحدة، وأفيف ريجيف، اختصاصية البيولوجيا الحوسبية، التي تعمل الآن في شركة التكنولوجيا البيولوجية «جِينِينْتك» Genentech في مدينة ساوث سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا.
ففي أواخر عام 2016، اجتمعت تايشمان وريجيف، برفقة آخرين، لمناقشة هذه الفكرة. وكانت ثمرة الاجتماع مشروع «أطلس الخلايا البشرية»، الذي يستخدم طرق دراسة الخلايا المفردة لتحديد التنظيم الخاص بكل خليةٍ ونسيج وعضو لدى البشر، وخصائصها الجينية والبيولوجية. يُشدِّد فريق المشروع على أهمية تبنِّي نهج تعاوني منفتح، يمكن للجميع المشاركة فيه، ويُلزم الاتحاد القائم على المشروع بجمع معلوماته بالاعتماد على طائفة واسعة من الأساليب الجزيئية والحوسبية.
وفي هذا الصدد، يقول هولجر هين، الذي يدرس تقنيات تحديد تسلسل الخلايا المفردة في مركز تنظيم بحوث الجينوم، ويقود فريق العمل المعنِيّ بالتقنيات والمعايير ضمن اتحاد المشروع: "لا توجد تقنية مثالية معيارية يمكنها فعل كل شيء، فلكل طريقة أوجه نقص، وكلما دمجنا مزيدًا من التقنيات المتنوعة، تقلَّصت مساحة النقص، وقلَّت العيوب".
وفي دراسةٍ أُجريت خلال عام 2020، قارن هين وزملاؤه بين 13 تقنية من تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي الريبي للخلايا المفردة، باستخدامها لتحليل مجموعةٍ مرجعية مشتركة من العيِّنات، وقيَّموها بناءً على قدرتها على اكتشاف السمات المميزة للخلايا6 وجد الباحثون أنَّ أحد الأسباب الرئيسة الكامنة وراء تبايُن النتائج يتمثل في حجم الخلايا في العينة. يقول هين: "لم يكن الهدف هو تحديد التقنية الفائزة، أو الخاسرة، بل فقط تحديد ما قد تتوقع الحصول عليه من كل تقنية".
يضم الاتحاد القائم على المشروع الآن حوالي 2200 عضو، موزَّعين في 77 بلدًا. وقد حلَّل هؤلاء الأعضاء حوالي 39 مليون خلية من 14 عضوًا رئيسًا، ونشروا حوالي 80 دراسة، وما زال العدد في ازدياد.
ساعدت هذه البيانات على تحقيق عدة منجزات، من بينها كشف خبايا مرض «كوفيد-19». ففي أوائل عام 2020، جَمَع أعضاء الاتحاد 26 مجموعة بيانات، بعضها منشور، والآخر غير منشور؛ من أجل فهم الكيفية التي يغزو بها فيروس كورونا «سارس-كوف-2» أنسجة الرئتين. ورسموا خريطةً للمستقبِلات الموجودة على أسطح الخلايا، التي يستخدمها الفيروس ليدخل الأنسجة، بما فيها أنسجة الأنف، والفم، والعينين، وغيرها7 ومنذ ذلك الحين، أخذ الباحثون في كل أنحاء العالم في استخدام تلك الخريطة لفهم عملية الإصابة بالعدوى. بل لقد ساعدت تلك الخريطة على توفير المعلومات اللازمة لسياسات الصحة العامة، مثل تلك التي تُلزم بارتداء الكمامات، حسبما تقول تايشمان، التي أضافت: "كانت الجائحة بالفعل نقطة تحوُّل فارقة لمشروع أطلس الخلايا البشرية. فهي تُبيِّن مدى أهمية أن يتوفر لديك أطلس خلايا، حتى وإن كان أوَّليًّا، وغير مكتمل".
الفحص المجهري بمَطٍّ العينات
في الوقت الذي ركّز فيه عديدٌ من الباحثين المولَعين باستبانة الفحص المجهري على ابتكار أجهزةٍ أفضل، سَلَك عالِم الأعصاب إد بويدن اتَّبع نهجًا مغايرًا؛ إذ تعاوَن مع زملائه في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بمدينة كامبريدج الأمريكية، وابتكروا تقنيةً تُسمَّى «الفحص المجهري بمَطِّ العينات» expansion microscopy، تُكبِّر حجم الخلايا والأنسجة كما يُنفَخ البالون.
تقوم هذه الطريقة على إدخال مونومر (يُسمى الأكريليت) داخل العينة، فينتُج عن إضافة الماء تبلمُر المونومر وانتفاخه، فيُباعد ما بين المكونات الخلوية في أثناء تضخمه. وفي المحاولات الأولى لاستخدام هذه الطريقة، كانت الخلايا تتشقق، أو تنتفخ انتفاخًا غير منتظم. لكن عندما جرَّب الباحثون إضافة إنزيماتٍ لتليين الأنسجة قبل البلمرة، استطاعوا «مَطَّ» أنسجة دماغ الفأر إلى حجمٍ أكبر من حجمها الأصلي بأربع مراتٍ ونصف مرّة8 وبعد ذلك بعامين، تمكَّن الفريق من تطبيق الطريقة نفسها على 12 نوعًا آخر من أنواع الأنسجة، بعضها أمكَن تكبير حجمه 16 مرة9. ويقول بويدن عن ذلك: "كان الحرص على تكبير جسم العينة وفق مقياسٍ تناسبي صحيح مسألةً ضرورية، حتى تصبح هذه التقنية جديرةً بالجهد والوقت".
وقد استخدم بويدن وفريقه في العام الجاري هذه الفكرة لتحديد مواقع جزيئاتٍ معينة من جزيئات الحمض النووي الريبي في الأنسجة. وهذا مجالٌ فرعي يُسمَّى «الترانسكربتومات المكانية»، إذ عملوا على مَطِّ جزء من أنسجة أدمغة الفئران أولًا، ثم حددوا تسلسل جزيئات الحمض النووي الريبي في مواضعها10.
الجمع بين تقنية «الفحص المجهري بمطِّ العينات» وتقنية تحديد تسلسل الحمض النووي الريبي (إلى اليسار) يكشف تنظيم الخلايا العصبية في القشرة البصرية لدى الفئران (إلى اليمين).
Credit: S. Alon et al./Science
تتجلَّى فعالية تلك الفكرة في تجربة إرين شومان، اختصاصية علم الأعصاب في معهد ماكس بلانك لأبحاث الدماغ في مدينة فرانكفورت الألمانية، التي تدرس كيفية تكوُّن البروتينات عند وصلات الخلايا العصبية، المُسمَّاة بالمشابك. تَعتمِد شومان منذ فترةٍ طويلة على طرقٍ غير مباشرة لتصوُّر هذه العملية، مثل طريقة الطلاء بالفضة. وقد أرادت رؤية البروتينات حديثة التكوُّن في المشابك العصبية مباشرةً. لكنَّ المشابك تتكون عن طريق أليافٍ طويلة رفيعة تُعرَف بالمحاور العصبية، وهذه الألياف ليست لها أي مُحدِّداتٍ جزيئية واضحة. وتقول شومان عنها: "إنَّها بالفعل من أكثر الأشياء استعصاءً على الدراسة".
وحين استعانت شومان وفريقها بطريقة الفحص المجهري بمَطِّ العينات، تمكَّنوا – لأول مرة – من رؤية أطراف المحاور العصبية كلها تقريبًا، بما يساعد على تنفيذ الآلية اللازمة لتخليق بروتيناتٍ جديدة11. وتقول عن ذلك: "لقد ساعدَتنا حقًّا في أن نرى المشابك العصبية بدرجةٍ كبيرة من الوضوح، وأن نُجرِي عليها تحليلاتٍ عالية الإنتاجية".
وفي جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، استخدم المهندس البيولوجي بو وانج هذه الأداة لالتقاط صورةٍ عالية الاستبانة، توضح كيفية تفاعُل بكتيريا السالمونيلا الشائعة، المُسبِّبة لأمراض الأمعاء مع الخلايا البشرية. وفي أثناء محاولته، مع زملائه، تحسين خطوة «التليين» في تلك العملية إلى أقصى حدٍّ ممكن، اكتشفوا إمكانية استخدام هذه الطريقة لقياس صلابة جدران الخلايا البكتيرية. هذه الطبقة الصلبة بالغة الأهمية في المقاومة التي تُبديها البكتيريا للمضادات الحيوية، ودفاعات الجزء المضيف، على سبيل المثال. صحيحٌ أنَّ دراسة الخصائص الميكانيكية للأجسام الميكروية ليست بالأمر الميسور، إلا أن تقنية الفحص المجهري بمطِّ العينات ساعدت الفريق على قياس قوة آلاف الجدران الخلوية دفعةً واحدة، لفهم كيفية تفاعل البكتيريا مع الآليات الدفاعية لجسم العائل أو المضيف12. يقول وانج: "يُمكن للاستراتيجيات المشابِهة أن تساعد في إجابة الأسئلة الفسيولوجية المتعلقة بالنباتات والفطريات، والعديد من الأنواع المختلفة الأخرى".
تقنية «برينبو»
في عام 2007، تمكَّن فريقٌ من العلماء، بقيادة عالِمَي الأعصاب جيف ليكتمان وجوشوا سينز، الباحثَين في جامعة هارفارد بمدينة كامبريدج في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، من ابتكار طريقةٍ لتمييز الخيوط المتشابكة في الخلايا العصبية بأدمغة الفئران13. طوَّر باحثو الفريق نظامًا يُتحكَّم فيه في جينات بعض البروتينات الفلورية بواسطة تسلسلاتٍ تنظيمية خاصة بالخلايا العصبية، وتُحاط فيه هذه الجينات بوسومٍ تُحدِّدها، ليُعاد ترتيبها بعشوائية في عمليةٍ مُحفَّزة بالإنزيمات، تُسمَّى «إعادة التركيب» recombination. أضاف الباحثون إلى الخلايا نُسَخًا متعددة من هذه التسلسلات الجينية الجزئية. ولذلك، حين نشَّطوا بروتينًا قادرًا على التَعرُّف على وسوم عملية إعادة التركيب، أعاد هذا البروتين ترتيب الجينات لإنتاج تركيباتٍ عشوائية مختلفة، يُعبَّر عنها بقوس قزح فلوري. وقد أطلقوا على أداتهم هذه اسم «برينبو» Brainbow.
يتذكر الباحث جابرييل فكتورا، اختصاصي المناعة في جامعة ذا روكفلر بمدينة نيويورك الأمريكية، أنَّه اطّلع على ناتج تلك الأداة حين كان طالب دراسات عليا في جامعة نيويورك. وبإعجابٍ شديد، استقبل تلك الصور متعددة الألوان للدماغ، التي تظهر فيها كل خلية بلونٍ مختلف. غير أن دراساته كانت تركِّز على المراكز الجنينية، تلك البِنَى الميكروية في العقد الليمفاوية، التي تنقسم فيها الخلايا المناعية وتنمو. لذا، يقول إنَّه وزملاءه لم يخطُر لهم استخدام هذه التقنية في بادئ الأمر، مضيفًا: "أتذكر أنَّني كنتُ أقول لنفسي: من المؤسف أنَّها تُستخدم في الأدمغة".
مراكز جنينية موسومة بتقنية «برينبو»
Credit: Carla Nowosad
ودَّ ليكتمان لو تساعدنا القدرة على وسم الخلايا المفردة في إيضاح التفاصيل الدقيقة، مثل وصلات المشابك العصبية في الدماغ، لكنَّ البِنى الخلوية الصغيرة تحوي عددًا أقل من الجزيئات الفلورية، ما يجعلها أقل سطوعًا في وهجها الفلوري، وغالبًا ما تكون خافتةً إلى الحد الذي يجعلها غير مفيدة. ونتيجةً لشعوره بالإحباط من هذه النتائج، يقول ليكتمان إنَّه لجأ منذ ذلك الحين إلى تقنياتٍ بعينها، مثل تقنية «الفحص المجهري الإلكتروني بالمسح المتكرر لأوجه الكُتَل الراتنجية الحاوية للعيِّنات» serial block-face scanning electron microscopy، وهي التقنية التي تُصوَّر فيها كتل الأنسجة عدة مرات، ثم تُقشَّر وتُصوَّر مرةً أخرى لرسم خريطةٍ بالوصلات العصبية.
وعن ذلك يقول ليكتمان: "عليك أن تجد الأداة المناسبة لأداء المهمة المطلوبة. وفي حالتنا هذه، لم تكن تقنية «برينبو» مناسبةً تمامًا". ومع ذلك، فقد استخدم تقنية «برينبو» لإجراء تجاربه على الجهاز العصبي الطرفي، الذي يتسم بتباعد خلاياه، ما يتيح ملاحظة الوهج الفلوري، ولو كان خافتًا. وقد عدَّلت فِرَقٌ بحثية أخرى هذه التقنية لاستخدامها على كائناتٍ مختلفة: فأنتجت هذه الفِرق، على سبيل المثال، تقنية «فلايبو» Flybow لدراسة أدمغة ذباب الفاكهة، وتقنية «زيبرابو» Zebrabow لدراسة أنسجة السمك المُخطَّط. ومن خلال المزج بين تقنية «برينبو»، وتقنية الفحص المجهري بمطِّ العينات، استطاع الباحثون أيضًا فحص الأشكال الخلوية، والاتصال بين الخلايا في أنسجة الثدييات14.
أمَّا فكتورا، فما أعاد إشعال جذوة اهتمامه بتقنية «برينبو» كان نموذجٌ فأري يُسمَّى «كونفيتي» Confetti، أتاح استخدام التقنية لدراسة الخلايا غير العصبية. ففي داخل المراكز الجنينية للعقد الليمفاوية، تُنتِج مجموعات الخلايا البائية أجسامًا مضادة مختلفة، وتتنافس على النمو. ويحافظ معظم هذه المراكز على تنوع جزيئات الأجسام المضادة. لكن في نسبةٍ تتراوح بين 5% و10% من هذه البِنَى، وجد فكتورا وفريقه أنَّ الخلايا التي تُنتِج أجسامًا مضادة ذات نزعة ارتباط عالية يُمكن أن تتفوق بسرعة على الخلايا البائية الأخرى، وتهيمن بذلك على المركز الجنيني15. ويستطيع الباحثون الذين يتتبَّعون هذه «الدفقات النسيلية» باستخدام تقنية «برينبو» رؤية كل الخلايا في أي مركزٍ جنيني بألوانٍ مختلفة حين يَسِمون الخلايا لأول مرة. وحين تسيطر نسيلةٌ مهيمنة، يُحوِّل نسلها – الذي يحمل كله لون الخلية الأصلية نفسه – بِنْية المركز من بنيةٍ متعددة الألوان إلى أحادية اللون. يقول فكتورا: "تُبيِّن تقنية برينبو هذا التقسيم للوظائف والأدوار ]بين الخلايا البائية[ بوضوحٍ شديد".
مشروع الجينوم-مرحلة التخليق
إذا استطاع العلماء إنتاج كروموسوماتٍ مُخلَّقة بالكامل، فسوف يتمكنون من إكساب الخلايا وظائف جديدة، أو تبديل المسارات الجينية المسببة للأمراض، أو تصميم أنظمةٍ تجريبية جديدة لإجراء الأبحاث. لكنَّ الكروموسومات المُخلَّقة لا يمكن أن تُنشأ في خطوةٍ واحدة.
في عام 2010، نجح الباحثون في تجميع أول جينوم بكتيري مُخلَّق16؛ إذ أعادوا تشكيل الحمض النووي البكتيري في صورة قِطَعٍ قصيرة، ثم وصلوا ما بين هذه القِطَع، وبعدئذٍ استبدلوا أجزاء الكروموسومات، جزءًا تلو الآخر، حتى بُدِّل الحمض النووي الأصلي كله، وحل محله نظيره المُخلَّق. وقد ظلت هذه العملية تتم بنفس الآلية منذ تلك المحاولة الأولى، حسبما يقول وانج، الذي يعمل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. وبالرغم من التقدم الملحوظ في دراسات البكتيريا والخميرة، لم يتم التوسُّع في تطبيق تلك التقنية لتشمل الكائنات الحية ذات الجينومات الأكثر تعقيدًا، حتى أعلن الباحثون في عام 2016 إطلاق المشروع المعروف باسم «مشروع الجينوم-مرحلة التخليق» Genome Project-write، الذي كان يهدف إلى تخليق الجينومات المعقدة، بما فيها جينومات البشر.
أُطلِق هذا المشروع وسط حالةٍ من الحماس الشديد، لكن كان عليه أن يخفض سقف تطلعاته – استجابةً لصعوباتٍ في التمويل وبعض التحديات التقنية (انظر: Nature 557, 16–17; 2018) – ليُركِّز على هندسة خطوط خلايا بشرية مقاوِمة للفيروسات. ورغم ذلك، فإن تخليق الحمض النووي على هذا النطاق ما زال يشكل تحديًا، شأنه في ذلك شأن تصميم الدارات الجينية القادرة على ترميز وظائف جديدة. وفي هذا الشأن، يقول كريستوفر فويجت، اختصاصي البيولوجيا التخليقية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إنَّ هذا العمل ما زال يقوم عليه في الوقت الراهن عددٌ من آحاد الباحثين، أو فِرَقٌ بحثية صغيرة في العموم. وهذا النهج هو ما يجب أن يتغير، إذا أُريدَ لفكرة تخليق الجينومات على نطاقٍ أوسع أن تصبح قابلةً للتطبيق. يقول فويجت: "الوضع أشبه بشخصٍ يحاول صنع طائرةٍ وحده، فيؤدي كل شيءٍ، بدءًا من تصميمها إلى لحام أجزائها معًا. وهذا يُبيِّن كيف أن تصميم شيءٍ على مستوى الجينوم لا يزال هدفًا بعيد المنال".
ومع ذلك، يرى وانج أنَّ ذاك الهدف السامي يمكن أن يحفِّز المجال، ويدفعه قُدُمًا. يقول: "هذا الحافز لتصميم جينوم كامل يدفعنا إلى تطوير التقنيات. إنَّها حلقةٌ مغلقة، فحالما تُتاح لنا الأدوات، ستزداد قدرتنا على تخليق الجينومات، وسيضخ الناس مزيدًا من الموارد في المجال".
References
- Fredens, J. et al. Nature 569, 514–518 (2019). | article
- Meyer, K. D. et al. Cell 149, 1635–1646 (2012). | article
- Linder, B. et al. Nature Methods 12, 767–772 (2015). | article
- Garcia-Campos, M. A. et al. Cell 178, 731–747 (2019). | article
- Begik, O. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/2020.07.06.189969 (2021).
- Mereu, E. et al. Nature Biotechnol. 38, 747–755 (2020). | article
- Sungnak, W. et al. Nature Med. 26, 681–687 (2020). | article
- Chen, C., Tillberg, P. W. & Boyden, E. S. Science 347, 543–548 (2015). | article
- Chang, J.-B. et al. Nature Methods 14, 593–599 (2017) | article
- Alon, S. et al. Science 371, eaax2656 (2021). | article
- Hafner, A.-S., Donlin-Asp, P. G., Leitch, B., Herzog, E. & Schuman, E. M. Science 364, eaau3644 (2019). | article
- Lim, Y. et al. PLoS Biol. 17, e3000268 (2019). | article
- Livet, J. et al. Nature 450, 56–62 (2007). | article
- Shen, F. Y. et al. Nature Commun. 11, 4632 (2020). | article
- Nowosad, C. R. et al. Nature 588, 321–326 (2020). | article
- Gibson, D. G. et al. Science 329, 52–56 (2010). | article
جيوتي مادوسودانان
كاتبة مستقلة تعيش في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون الأمريكية، وحاصلة على زمالة مشروع «نايت للصحافة العلمية» بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في مدينة كامبريدج الأمريكية، في خريف عام 2020.