أنباء وآراء
فضلاتٌ بشرية قديمة تكشف ميكروباتٍ معوية من الماضي
يتنامى فهمنا للكيفية التي تُشكِّل بها الميكروبات المعوية الصحة والمرض. والآن، تُسلِّط دراسةٌ أُجريت على فضلاتٍ بشرية قديمة الضوءَ على التغيُّرات التي طرأت على المجموعات الميكروبية في أمعائنا خلال الألفي سنةٍ الماضية.
- Nature (2021)
- doi:10.1038/d41586-021-01266-7
- English article
- Published online:
يُطلَق إجمالًا على خلايا الميكروبات التي تعيش في الأمعاء البشرية اسم مجهريات البقعة المعوية، أو الميكروبيوم. وهي ذات تأثيراتٌ مهمة على الخصائص البيولوجية لكل من الأيض، والجهاز المناعي1،2. والكثير من الكائنات الدقيقة تتوارثه الأجيال3،4، غير أن مجهريات البقعة المعوية (التي يمكن تتبُّع تطوراتها عن طريق تحليل الحمض النووي الميكروبي في البراز) يمكن أن تعتريها تغييرات جذرية خلال فترة تتراوح من أيامٍ إلى شهور،ٍ بعد أحداث معينة، مثل الهجرة إلى بلدٍ مختلف5، أو العلاج بالمضادات الحيوية6. وتحديد ماهية الميكروبات التي كانت تُشكِّل جزءًا من تاريخنا التطوري في وقت ما، والتي اختفت منذ ذلك الحين، قد يكون مفتاحًا لفهم العلاقة بين الميكروبات، وصحة الإنسان. من هنا، في بحثٍ نشرته دورية Nature، تتصدى الباحثة مارشا ويبوو7 لهذه المسألة باللجوء إلى تحليل ميكروبي يخدم كـ"آلة سفر عبر الزمن"، يتمثل في فحص فضلات حفرية قديمة. وباستخدام إحدى تقنيات تحديد تسلسل الحمض النووي، بهدف دراسة ميكروبيومات عينات برازٍ بشري، يتراوح عمرها ما بين 1000 و2000 عامٍ، تُقدم هذه الدراسة معلومات قيمة بشأن ميكروبات معوية، يعود تاريخها إلى ما قبل التحوُّل الصناعي.
ويُعَد الميكروبيوم البشري عنصرًا قابلًا للتطويع من مكوناتنا البيولوجية؛ إذ يتكيف مع بعض الظروفِ، فيُظهِر مثلًا تنوعًا موسميًّا حسب مدى توفُّر الغداء8. وبالرغم من أن هذه القابلية تفتح آفاقًا محتملة لعلاج الأمراض البشرية المرتبطة بمجهريات البقعة المعوية، فهي تفتح الباب أمام تهديدات كذلك؛ فالكثير من جوانب الحياة الصناعية، مثل استخدام المضادات الحيوية، والنظام الغذائي الغربي الذي يفتقر إلى الألياف9،10، له تأثيرٌ سلبي على الميكروبات المعوية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أي ميكروباتٍ أساسية وأي وظائف ميكروبية اختفت من مجهريات البقعة المعوية التي تعود إلى ما قبل التحوُّل الصناعي، عندما اتجهت المجتمعات البشرية إلى الصناعة؟ فبعض مجموعات الأصناف البكتيرية واسعة النطاق، التي تسمى اختصارًاVANISH (ويُشار إليها بأنها "غير مستقرة"، و/أو يرتبط ظهورها ارتباطًا عكسيًّا باتجاه المجموعات البشرية إلى الصناعة) يشيع وجودها لدى المجتمعات السكانية الأصلية الحالية التي تتبع أنماط حياة تقليدية، لكنها تندُر أو تختفي تمامًا لدى المجتمعات السكانية الصناعية10. كما أن أنواعًا بكتيرية عديدة يشار إليها اختصارًا باسم BloSSUM (تُعرَّف بأنها "أصناف مزدهرة أو منتخبة في مجتمعات التحضر/ الحداثة) تتبع نمطًا معاكسًا10. والسؤال عما إذا كانت المجتمعات السكانية غير الصناعية الحالية لديها مجهريات بقعة معوية مشابهة لتلك التي حملها البشر الذين عاشوا قبل آلاف السنين، أم لا، لم تُوجَد إجابة له إلى الآن.
من هنا، تورد ويبوو وفريقها البحثي تحليلًا لتسلسلات الحمض النووي في 15 عينة من الفضلات الحفرية القديمة، التي جُمعت من جنوب غرب الولايات المتحدة، والمكسيك. وقد استُثني سبع من هذه العينات من أجل إخضاعها لمزيدٍ من الدراسة، نظرًا إلى سوء جودة الحمض النووي بها، أو لوجود أدلة على تلوث التربة التي وُجِدت فيها، أو لأنه تبيَّن أن مصدر العينة كان عائلًا من الكلبيات. وتحدَّد عمر العينات الثماني المتبقية باستخدام طريقة التأريخ بالكربون، وكشف تحليل لتلف الحمض النووي دلائل أكَّدت قِدم هذه الفضلات (إذ إن تحلُّل الحمض النووي العتيق له خصائص محددة). وتأكَّد أن هذه العينات جاءت من بشر من خلال التحليل المجهري للبقايا الغذائية الموجودة في الفضلات الحفرية، واستنادًا إلى وجود حمض نووي بشري في ميتوكوندريا العينات.
وبفضل الجودة العالية التي امتازت بها البيانات المستحدثة من تلك العينات، تمكَّن الباحثون من رصد أنواعٍ ميكروبية معروفة، واكتشاف ميكروبات لم تكن معروفة في السابق، من خلال وضع تصوُّر لبِنْية الجينومات الميكروبية في الحفريات. وإجمالًا، جرى تصنيف 181 جينومًا من أصل 498 جينومًا ميكروبيًّا، تبيَّن من نمذجة بِنيتها أنها مستمدة من الأمعاء، وشاب هذه الجينومات تلفٌ كثيفٌ في الحمض النووي، يتسق مع كونها من أصل عتيق، كما دلَّ 39% من هذه الجينومات العتيقة على أنها أنواع مكتشَفة حديثًا.
عَمَدت ويبوو وفريقها البحثي إلى مقارنة بياناتهم المستقاة من عينات معوية موغلة في القدم ببياناتٍ مستقاة من مجموعة عينات براز حُدد تسلسلها في السابق، وأُخِذت من مجموعات سكانية حالية، سلكت أنماطًا حياتية تأثرت بالصناعة، أو لم تتأثر بها. وقد رُصِد في بعض الفضلات الحفرية النوع Treponema succinifaciens، وهو ميكروب ينتمي إلى فصيلة بكتيرية يُطلق عليها "الملتويات"، وتبيَّن اختفاؤه في المجتمعات السكانية الصناعية8. وبالإضافة إلى ذلك، وُجِدت أصناف أخرى غير مستقرة، و/أو يرتبط ظهورها ارتباطًا عكسيًّا بالاتجاه إلى الصناعة، خلت منها عينات المجتمعات الصناعية، وشاعت في عينات المجتمعات غير الصناعية. أما الأصناف المزدهِرة أو المنتخبة لدى مجتمعات التحضر/الحداثة، بما في ذلك النوع Akkermansia muciniphila (الذي يحلِّل المخاط البشري)، فكانت أكثر وفرة في عينات المجتمعات الصناعية، مقارنة بها في عينات المجتمعات غير الصناعية، وعينات الفضلات الحفرية. وتدعم هذه النتائج مجتمعة الفكرة القائلة إن خصائص الميكروبيومات في المجتمعات غير الصناعية مشابهة لها لدى أسلافنا البشريين، وإن المجتمعات السكانية الصناعية قد حادت في تطوُّرها عن اكتساب هذه السمات الميكروبية (الشكل 1).
شكل 1| مقارنة بين الميكروبات المعوية البشرية القديمة والحديثة. أجرت مارشا ويبوو وفريقها7 البحثي تحليلًا للحمض النووي الخاص بالميكروبات المعوية الموجودة في فضلات بشرية يتراوح عمرها بين 1000 و2000 عام، وقارنوا هذا الحمض بذلك الموجود لدى ميكروبات معوية في عينات براز مأخوذة من أفراد حاليين من مجتمعات صناعية وغير صناعية. واستخدم الباحثون نهجًا إحصائيًّا، يُطلق عليه تحليل العنصر الرئيس، بهدف مقارنة أنماط الأنواع البكتيرية الموجودة في عينات براز كل فرد. ويوزع هذا النهج نقاط البيانات التي تعبر عن عينة كل فرد على طول محورين، هما: العنصر الرئيس 1 (PC1)، والعنصر الرئيس 2 (PC2)، ويتم إدراج العينات الأكثر تشابهًا فيما بينها ضمن مجموعات، بحيث تكون متقاربة على الشكل البياني. ويكشف هذا التحليل أن ميكروبات عينات الفضلات الحفرية موزعة في عينات الأفراد الذين يعيشون في مجتمعات غير صناعية، وهو ما يدل على تشابه أنماط الميكروبات المعوية بين الإنسان القديم، والإنسان الحديث الذي يتبع أساليب حياتية تقليدية؛ وهذه الأنماط تختلف عن النمط الذي يميز ميكروبات الأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات صناعية. (أُعِد هذا الشكل استنادًا إلى الشكل 1ب من المرجع 7).
كبر الصورة
ولم يقصِر الباحثون اهتمامهم في هذه الدراسة على هوية الأنواع الميكروبية، فقد قارنوا الجينات في الميكروبات التي تحتويها الفضلات الحفرية والوظائف المتوقعة للبروتينات التي تُشفِّرها تلك الجينات بالجينات والوظائف الخاصة بعينات المجتمعات الحالية. وتبيَّن أن العينات المأخوذة من المجتمعات الحالية، سواء الصناعية، أم غير الصناعية شاعت فيها بدرجة أكبر جينات مقاوِمة للمضادات الحيوية، مقارنةً بما كان عليه الحال في الفضلات الحفرية، وهو اكتشاف يتسق مع كون تاريخ هذه الميكروبات العتيقة يعود إلى ما قبل حقبة استخدام المضادات الحيوية. وانتشرت بدرجة كبيرة في الفضلات الحفرية الجينات المشفِّرة للبروتينات التي تستطيع تحليل جزيء الكايتين، وهو أحد مكونات الهياكل الخارجية للحشرات. وتتسق هذه النتيجة مع استهلاك أسلاف البشر للحشرات، التي عُرف أنها كانت تمثِّل أحد مكونات الأنظمة الغذائية لهم. وقد تأكَّد التهام أسلاف البشر للحشرات عن طريق تحليل مجهري أجراه الباحثون للمواد الموجودة في الفضلات الحفرية. ويفيد الباحثون بشيوع العديد من الجينات بكثرة في عينات المجتمعات السكانية الصناعية، بما في ذلك تلك التي تؤدي دورًا في تحلُّل المخاط في الأمعاء البشرية.
وتُعَد دراسة ويبوو وفريقها البحثي إنجازًا تقنيًّا لافتًا، فقد تمكَّنوا من استخلاص حمض نووي عالي الجودة من كائنات ميكروبية عاشت قبل آلاف السنين، ويرجع الفضل في ذلك - على الأرجح - إلى الحفظ الجيد لهذه العينات، الذي أتاحته البيئة الصحراوية الجافة التي وُجِدت فيها. وقد أكدت أدلة عديدة عُمْر عينات الفضلات، وورودها عن مصدر بشري. ولا شك أن العلماء سيستفيدون على مدار عدة سنوات قادمة من إتاحة بيانات تسلسلات الحمض النووي القديمة هذه للجميع.
إلا أن التحليلات القائمة على تحديد تسلسل الحمض النووي تخضع لبعض القيود، عندما لا تكون نتائجها مقترنة بتجارب مخبرية من نوع آخر تؤكدها، إذ تجدُر الإشارة - على سبيل المثال - إلى أن استخدام الأدوات الحاسوبية للتنبؤ بمعلومات تتعلق بالبروتينات التي يُشفِّرها الحمض النووي يعتريه بعض القصور، حتى في الظروف المثالية. كما أنه يصبح جَمّ الصعوبة عند تحليل الوظائف الجينية لكائنات كانت غير معروفة في السابق، كتلك التي اكتُشفت في سياق هذه الدراسة. وإضافة إلى ذلك، تتباين الميكروبيومات تبايُنًا شديدًا باختلاف الأفراد، والمجتمعات السكانية. وسوف تكون هناك حاجة إلى إجراء تحليلات لمزيد من الفضلات الحفرية التي تنتمي إلى مجموعة أوسع من الفترات الزمنية، والبقاع، من أجل تعزيز فهمنا للخصائص العامة التي تتميز بها الميكروبات المعوية البشرية، وتلك التي تميِّز مجتمعات سكانية محددة.
وقد وجد الباحثون أن البِنى والوظائف التي تتسم بها الميكروبات في الفضلات الحفرية القديمة تختلف اختلافًا ملحوظًا عنها في الميكروبات الموجودة في الفضلات البشرية الحالية. فتزايُد شيوع الأنواع والجينات المحلِّلة للمخاط في ميكروبيومات المجتمعات الصناعية، مقارنة بميكروبيومات كل من المجتمعات القديمة وغير الصناعية، يُرجَّح أن يكون مردّه إلى الأنظمة الغذائية الغربية، التي تفتقر غالبًا إلى الألياف الغذائية بما يكفي لدعم استمرار الأنواع الميكروبية المحلِّلة للألياف التي وُجِدت بكثرة في وقت ما11،12. واستنادًا إلى العلاقة بين الميكروبيوم والجهاز المناعي، قد تكون هذه الاختلافات ذات صلة بتزايُد معدلات الاضطرابات المناعية الذاتية، والالتهابية، والأيضية لدى المجتمعات السكانية الصناعية9،10.
ويشير بحث ويبوو وزملائها إلى أنه يوجد الآن بديلان عمليان للسفر عبر الزمن من أجل فَهْم بِنْية الميكروبيومات القديمة، إذ تعمل الفضلات الحفرية على تمكين الباحثين من دراسة الميكروبيومات البشرية القديمة مباشرة، بيد أن عُمْر عينات هذه الفضلات يفرض قيودًا على أخذ القياسات والتجارب الإضافية التي يمكن إجراؤها عليها. ومن الأهمية بمكان أن هذا البحث يؤكد أن المجموعات السكانية الأصلية الحالية التي تتبع أنماطًا حياتية تقليدية لديها بِنى ميكروبيومية مشابهة لتلك التي حملها الإنسان القديم. ومن الضروري الإقرار بأن أغلب هذه المجموعات السكانية الحالية مُهمَّش، ومهدَّد، وبأنه بحاجة إلى أشكال من الحماية الاستثنائية، لضمان عدم تعرُّضه للاستغلال. ومن خلال الأبحاث التي تُجرى وفق ضوابط أخلاقية، قد تفتح دراسة هذه المجتمعات السكانية الحديثة نافذة للإطلال على ميكروباتنا الماضية.
يقرّ الباحثون بعدم وجود تعارض في المصالح.
References
- Hooper, L. V., Littman, D. R. & Macpherson, A. J. Science 336, 1268–1273 (2012). | article
- Karlsson, F., Tremaroli, V., Nielsen, J. & Bäckhed, F. Diabetes 62, 3341–3349 (2013). | article
- Asnicar, F. et al. mSystems 2, e00164-16 (2017). | article
- Moeller, A. H. et al. Science 353, 380–382 (2016). | article
- Vangay, P. et al. Cell 175, 962–972 (2018). | article
- Dethlefsen, L. & Relman, D. A. Proc. Natl Acad. Sci. USA 108, 4554–4561 (2011). | article
- Wibowo, M. C. et al. Nature 594, 234–239 (2021). | article
- Smits, S. A. et al. Science 357, 802–806 (2017). | article
- Blaser, M. J. Cell 172, 1173–1177 (2018). | article
- Sonnenburg, J. L. & Sonnenburg, E. D. Science 366, eaaw9255 (2019). | article
- Makki, K., Deehan, E. C., Walter, J. & Bäckhed, F. Cell Host Microbe 23, 705–715 (2018). | article
- Desai, M. S. et al. Cell 167, 1339–1353 (2016). | article
ماثيو آر. أولم، وجاستين إل سونينبيرج يعملان في قسم الميكروبيولوجيا وعلم المناعة بكلية طب جامعة ستانفورد، ستانفورد، كاليفورنيا، 94305، الولايات المتحدة الأمريكية. ويعمل جاستين إل. سونينبيرج أيضًا في مركز دراسات الميكروبيوم البشري بكلية طب جامعة ستانفورد.
البريد الإلكتروني: mattolm@stanford.edu
jsonnenburg@stanford.edu