تحقيقات
القوى المحرِّكة للحياة
علماء يسعون لإحراز تقدم في فك غموض دور العوامل الميكانيكية المؤثرة في الجسم، بدءًا من تكوُّن الجنين، حتى البلوغ.
- Nature (2021)
- doi:10.1038/d41586-021-00018-x
- English article
- Published online:
سَلّطت الدراسات عن الأجنة -مثل جنين سمكة الدانيو المخطط، الموضح بالصورة- الضوء على الدور الذي تؤديه عوامل مؤثرة في الخصائص البيولوجية.
Credit: Philipp Keller/HHMI Janelia Research Campus
في بدايات تَكَوُّن الجنين، لا يمكن تمييز جزء أمامي أو خلفي للمضغة الجنينية، ولا رأس، ولا ذَنَب، إذ تكون هذه المضغة مجرد كُرة من الخلايا، ولكنْ سرعان ما تطرأ تغيُّرات على هذه الكتلة اللينة، ويتجمع سائل في منتصف الكرة، وتتدفق الخلايا كالعسل، لتشغل مواضعها من الجسم الذي سيتشكل في المستقبل. وتُطوَى طبقات من الخلايا على غرار فن الأوريجامي الياباني، كي تنشئ القلب، والأحشاء، والدماغ.
ولا يمكن أن تحدث أيّ عملية من هذه العمليات، دون عوامل مؤثرة تعمل على ضَغْط الحيوان الذي في طَوْر التكوُّن، وثَنْيه، وشَدّه، كي يتخذ شكله النهائي. وحتى عندما يصل الحيوان إلى مرحلة البلوغ، تُواصِل خلاياه الاستجابة لعوامل الدفع والجذب هذه، التي تنجم عن تأثير من الخلايا نفسها، وكذلك عن عوامل من الطبيعة.
ومع ذلك، فإن الطريقة التي تتكوَّن بها أجسامنا وأنسجتنا وتتخذ أشكالها لا تزال تمثل "أحد أهم ألغاز عصرنا، التي يشوب القصور فَهْمنا إياها حتى الآن"، حسب ما ذكرته اختصاصية الأحياء التطورية إيمي شاير، التي تدرس التشكّل الحيوي في جامعة روكفِلر بمدينة نيويورك. فعلى مدار عقود من الزمان، انصبّ تركيز اختصاصيي الأحياء على دراسة الآلية التي تعمل بها الجينات وغيرها من الجزيئات حيوية المنشأ على تشكيل أجسادنا. ويرجع ذلك في الأساس إلى أن الأدوات اللازمة لتحليل إشارات هذه العملية متوفرة بالفعل، وتشهد تحسينات مستمرة، بيد أن القوى الميكانيكية التي تسهم في هذا التشكُّل كان حظّها من الاهتمام أقل كثيرًا.
ودراسة الجينات والجزيئات حيوية المنشأ فقط "يشبه محاولة صوغ كتاب باستخدام نصف حروف الهجاء فقط"، على حد تعبير خافيير تريبات، اختصاصي الميكانيكا الحيوية من معهد كاتالونيا للهندسة الحيوية في برشلونة بإسبانيا.
" دراسة الجينات والجزيئات حيوية المنشأ فقط يشبه محاولة صوغ كتاب باستخدام نصف حروف الهجاء فقط".
لذا، على مدار العشرين عامًا المنصرمة، بدأ مزيد من العلماء يولون اهتمامًا بالدور المهم الذي تلعبه القوى الميكانيكية في مجموعة متنوعة من المراحل التطورية، وفي مختلف الأعضاء الحيوية، والكائنات الحيّة. وشرع باحثون في الوقوف على الآليات التي تستشعر بها الخلايا التأثيرات المختلفة، وتستجيب لها، وتولّدها. وقد تمكنوا من ذلك عن طريق ابتكار أدوات وحيل لهذا الغرض، تدخل فيها تقنيات الليزر، والماصّات الميكروية، والجسيمات المغناطيسية، والمجاهر المصممة لهذه الغاية. واليوم، يدرس أغلب الباحثين الإشارات الميكانيكية باستخدام خلايا أو أنسجة مستزرعة في طبق، بيد أن عددًا قليلًا من الفرق البحثية يدرس الحيوانات بأكملها، وأحيانًا ما تكتشف هذه الفرق اختلاف المبادئ التي تؤثر في التشكٌّل الحيوي للحيوانات عن تلك التي تتضح من دراسات الأنسجة المعزولة. وتصاحب هذه الدراسات المختبرية تحديات كثيرة، منها أنها تقيس قدرًا ضئيلًا من التأثيرات التي تعتمل في الأنسجة المعقدة، إلا أن هذه الدراسات محورية في فهم الدور الذي تؤديه قوى مؤثرة في تشكيل ملامح الحياة، حسب قول روبيرتو مايور، اختصاصي الأحياء التطورية من كلية لندن الجامعية.
ولما بدأت فرق من العلماء تتغلب على هذه التحديات بفضل إصرارها، لاحظت وجود عوامل مؤثرة تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل الخصائص البيولوجية للحيوانات، بدءًا من المراحل الأولى لنشوء المضغة الجنينية، حتى الأمراض التي تصيب الحيوان في مراحل حياته التالية. وربما تساعد هذه المعلومات العلماء في المستقبل على تصميم تدخلات علاجية أفضل لحلّ مشكلات معينة، مثل العقم، أو السرطان.
وفي ذلك الصدد، يقول توما لوكوِي، اختصاصي الأحياء التطورية من معهد مرسيليا للأحياء التطورية بفرنسا: "يُتوقع وجود قُوى تلعب دورًا في كل حالة تتأثر فيها هيئة الكائن".
عوامل مؤثرة من البداية
قبل أن يتخذ الجنين شكله، عليه أولًا كسر التناظُر الذي يميز كرة الخلايا الملساء سالفة الذكر. وتجدر الإشارة إلى أنه بعد أن بدأ العلماء في فك شفرة الضوابط الجينية والكيميائية التي تتحكم في هذه العملية، أخذوا في جمع المزيد من المعارف حول القوى الميكانيكية المؤثرة فيها. يقول جان-ليون مِتر اختصاصي الأحياء من معهد كيوري بباريس: "شيئًا فشيئًا، تتجمع معالم الصورة الكاملة للدورالذي تؤديه القوى الميكانيكية في النمو". وعلى سبيل المثال، للخصائص الفيزيائية، مثل ضغط السوائل وكثافة الخلايا، دور محوري خلال تشكيل أجنة الثدييات لمقدمات أجسادها، وظهورها، ورؤوسها، وأذنابها.
دَرَس فريق اختصاصي الأحياء جان-ليون مِتر الكيفية التي ينشأ بها تجويف كبير مليء بالسوائل، يسمى "اللُّمعة" Lumen من كرة الخلايا البدئية التي تتألف منها أجنة الفئران في مراحلها الأولى. وتبين أنه مع امتلاء هذا التجويف بالسوائل، تندفع معًا الخلايا التي ستكوّن الجنين إلى أحد الجوانب. وتضمن هذه الخطوة الأولى لكسر تناظُر المضغة الجنينية انغراس الجنين في جدار الرحم بشكل صحيح، كما تنظّم أي جانب من الجنين سيشكّل ظهره، وأي جانب سيشكّل بطنه، بيد أنه لم يتضح كيف يتكون هذا التجويف ويتحدد موضعه في الجنين (انظر الشكل "ضغوط محفزة للنمو").
"لاحظنا فقاعات صغيرة، أو جيوب الماء الصغيرة هذه التي تتكون بين الخلايا".
وعندما قام فريق جان-ليون مِتر بتصوير هذه العملية بالتفصيل، وقع على اكتشاف غير متوقع. ويوضحه جان-ليون مِتر قائلًا: "لاحظنا فقاعات صغيرة، أو جيوب الماء الصغيرة هذه التي تتكون بين الخلايا. وهي تختفي سريعًا، حتى إنك قد تفوت عليك ملاحظتها إذا لم تتمكن من التقاط الصور بالسرعة الكافية". ويأتي السائل في هذه الفقاعات من السائل المحيط بالمضغة الجنينية1، الذي يُدفع إلى داخل الفقاعات، نظرًا إلى أن تركيز جزيئات الماء خارجها أعلى. بعد ذلك، لاحظ الفريق ماءً يتدفق من كل من هذه الفقاعات، ربما عبر الفجوات بين الخلايا ليشكل لُمعة أو جوفًا وحيدًا في المضغة، حسبما يعتقد مِتر.
وقد تحقق الباحثون من الكيفية التي تَحْدُث بها هذه العملية بدراسة البروتينات المنتشرة عبر الفجوات بين الخلايا، وتتصل ببعضها البعض كي تلصق الخلايا معًا بإحكام2 فمع ظهور هذه الفقاعات، بدا أن هذه البروتينات اللاصقة تتكسر خلال ابتعاد الخلايا عن بعضها البعض. وقد كانت الخلايا التي احتوت على بروتينات لاصقة أقل أسهل في دفعها إلى الابتعاد عن بعضها بعضًا.
Source: Ref. 2
ويقول جان-ليون مِتر إن هذه أول ملاحظة مرصودة تفيد بوجود سائل مضغوط قادر على تشكيل الجنين عن طريق تكسير الروابط بين الخلايا، ويتساءل: لماذا إذَن تُجبِر المضغة الجنينية خلاياها على الابتعاد عن بعضها بعضًا من أجل تشكيل الجنين؟ وهو يعلق على ذلك قائلًا: "لا شك أن هذه طريقة محفوفة بالمخاطر، ولا تنم عن كفاءة"، لكنه يرى أن أغلب الظن أن هذه الاستراتيجية لم تتطوّر لأنها الحلّ الأمثل لهذه المشكلة، وإنما لأنها "جيدة بالدرجة الكافية". وتنعقد آماله على أن الوصول إلى فهم أكبر للآليات الميكانيكية الجنينية، التي يدرسها فريقه الآن في الخلايا البشرية، قد يساعد عيادات التخصيب المعملي في التعرّف على الأجنة الممكن استزراعها من أجل نجاح الحمل.
وفي مرحلة لاحقة من عملية النمو، تخرق المضغة الجنينية تناظرها في اتجاه آخر، ليتمايز الرأس عن الذَّنَب. ومن هنا، تتبع أوتجر كامباس، اختصاصي الفيزياء الحيوية من جامعة كاليفورنيا، في مدينة سانتا باربرا الأمريكية، عملية نمو الذَّنَب لدى أجنة سمك الدانيو المخطط (Danio rerio)3. وقام فريقه بقياس القوى المؤثرة على هذه العملية عن طريق حقْن قطيرات زيت محمّلة بجزيئات نانوية مغناطيسية في المساحات بين الخلايا، ثم استخدم الباحثون مجالًا مغناطيسيًّا لتغيير شكل القطيرات، بحيث يمكنهم قياس كيف تتفاعل الأنسجة مع عملية دفع الخلايا هذه، فاكتشفوا أن طرف الذَّنَب النامي كان في حالةٍ يصنّفها الفيزيائيون بأنها "سائلة"؛ إذ كانت الخلايا به تنساب بحُرّية، وعندما تعرضت لضغط، تغيّر شكل نسيج الذَّنَب بسهولة. وبالابتعاد عن طرف الذيل، وجد العلماء أن صلابة أنسجة الأجنة قد تزايدت. ويعود كامباس بذاكرته إلى هذا الاكتشاف قائلًا : "وَعَيْنا إلى أن الذيل يتصلب، لكننا لم نعرف الآليّة التي تسبب ذلك".
لم يكن بين الخلايا ما يمكن أن يضفي صلابة؛ إذ لم تكن هناك جزيئات بينها تشكِّل مصفوفة بنيوية، بيد أنه عندما قاس الباحثون المساحات بين الخلايا، اكتشفوا أنها كبيرة جدًّا في طرف الذَّنَب الليّن، لكنها كانت أصغر بالقرب من الرأس4. وعند تزاحم الخلايا مع بعضها، تصلّب النسيج. يشبّه كامباس هذا التحوُّل بتعبئة حبوب القهوة في حقائب؛ فالحبيبات تتدفق بحُرّية إلى داخل الحقيبة، لكنها تتكدس بعدئذ إلى حد أن ملمس الحقيبة الممتلئة يبدو صلبًا كالحجر. ويخطط كامباس لدراسة ما إذا كانت هذه الآلية مسؤولة عن تكوين بِنى جنينية أخرى، مثل براعم الأطراف، أم لا.
تكوين القلب والدماغ
بمجرد أن يتحدد مخطط تكوُّن الجنين، يبدأ تشكيل كل عضو من أعضائه. ويقول تيموثي سوندرز، اختصاصي الأحياء التطوّرية من جامعة سنغافورة الوطنية: "في الواقع، يُعَد فهْمنا لكيفية تكوّن الأعضاء الداخلية غير واف"، علمًا بأنّ (الاستثناء الوحيد الذي أشار إليه هو الأحشاء).
وهذا الوضع بصدد أن يتغير. فعلى سبيل المثال، دَرَس فريق سوندرز تكوُّن القلب لدى أجنة ذبابة الفاكهة Drosophila، ووجد أن ثمة حدثًا حاسمًا يقع عندما تلتقي قطعتان من النسيج لتكوين أنبوب يصبح القلب في نهاية المطاف؛ فكل من هاتين القطعتين تحتوي على نوعين من خلايا عضلة القلب، ويجب أن تلتصقا بشكل صحيح، بحيث تتطابقان عند اقترانهما من أجل تكوُّن قلب سليم. وعن ذلك، يقول سوندرز: "لاحظنا في كثير من الأحيان عدم اتساق في شكل القطعتين، يتم تصحيحه بعد ذلك؛ فما المسؤول عن هذا التصحيح؟".
اتضح أن هذه النتيجة تنشأ بتأثير من داخل خلايا القلب نفسها؛ حيث يوجد بروتين يُطلق عليه ميوسين 2، وهو قريب الشبه بالبروتين المسؤول عن انقباض الخلايا العضلية. وقد عُرف عنه أنه يتدفق من منتصف كل خلية إلى حافتها، جيئةً وذهابًا، خلال عملية الالتصاق. وقد تساءل شاوبو جانج –طالب الدراسات العليا آنذاك، الذي يستعد حاليًّا لتولي منصب بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، بعد نيله درجة الدكتوراة– حول ما إذا كان من المحتمل أن الميوسين يخلق قوةً تجذب بشدّة الخلايا المقترنة، بحيث تكسّر أي اتصال بين أنواع الخلايا غير المتطابقة، أم لا.
ولاختبار نظريته، قطع جانج الخلايا المقترنة باستخدام شعاع ليزر، فاندفعت الخلايا مبتعدة عن بعضها بعضًا، مثل رباط مطاطي مشدود انقطع بمقص. ويعقّب سوندرز على ذلك قائلًا: "لاحظنا عندئذ ارتدادًا مبهرًا"، لكن عندما قطع الفريق الخلايا التي لا تحتوي على ميوسين 2، "لم يحدث أي شيء على الإطلاق"، إذ كان الميوسين، الذي يشبه في عمله أصابع تشدّ رباطًا مطاطيًّا من كلا الجانبين، يخلق قوة تجذب بشدّة روابط الاقتران بين الخلايا من الداخل5 وعندما تتكسر روابط اقتران الخلايا غير المتطابقة، تسنح لها فرصة أخرى لتجد نظيرًا مناسبًا للاقتران به.
ويمكن أيضًا أن يُعطي تكاثر الخلايا البسيط إشارات إلى الخلايا، بحيث تحثها على ترتيب مواضعها بشكل صحيح، وفقًا لما اكتشفه فريق باحثين من جامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة لدى أجنة ضفدع القيطم Xenopus. فقد وعى هذا الفريق، الذي قاده اختصاصي الأحياء الفيزيائية كريستيان فرانز، إلى أنه في الوقت الذي تتصل فيه العين بالدماغ، تخرِج الخلايا العصبية للعين محاورها العصبية، وهي نتوءات طويلة تستخدمها الخلايا العصبية للتواصل مع بعضها البعض6، بحيث تمتد عبر مسار يتحدد بصلابة أنسجة الدماغ، فتتبع هذه المحاور العصبية الأنسجة الأقل صلابة، وصولًا إلى مركز في الدماغ المتكوِّن.
ولتحديد توقيت تكوُّن هذا المسار، وكيفية تشكُّله، صمم الفريق مجهرًا لأغراض هذه الدراسة، تمكنوا من الوقت نفسه. ويقول فرانز، الذي يدير معهد الفيزياء الطبية وهندسة الأنسجة المصغرة في جامعة إرلَنجن-نورنبيرج في ألمانيا، إن الفريق لاحظ ظهور تدرّج في صلابة أنسجة الدماغ قبل حوالي 15 دقيقة من وصول المحاور العصبية إلى هذه الأنسجة، كي تتبع هذا التدرج.
كيف إذَن تكوّن هذا التدرّج؟ كما في حال أذناب سمك الدانيو المخطط النامية، بدا أن النسيج الأكثر صلابة في أدمغة الضفادع يحتوي على الخلايا بكثافة أعلى. وعندما منع الفريق انقسام الخلايا في الأجنة النامية، لم يظهر تدرّج الصلابة هذا قط، وعجزت المحاور العصبية عن العثور على المسار الذي عليها أن تسلكه. من هنا، يبدو أن تكدًّس الخلايا يُعَد وسيلة سريعة وفعّالة لإرشاد تكوين الروابط العصبية في الجهاز العصبي وتوجيهه.
ضغوط متواصلة
يتحتم كذلك على الحيوانات مكتملة النمو أن تقاوم بعض العوامل المؤثرة فيها في أثناء مواصلتها النمو، أو لدى التغلُّب على الأمراض. فعلى سبيل المثال، عندما يتمدّد الجسم، ينمو الجلد كي يغطيه. ويستغلّ الجرّاحون هذه الميزة في جِراحات إعادة بناء الثدي، حيث تكون هناك حاجة إلى مزيد من الجلد لتغطية النسيج المخطط لاستزراعه. فأولًا، يُدخِل الجراحون "بالونًا"، ثم ينفخونه تدريجيًّا بمحلول ملحي على مدار عدة أشهر، بحيث يتمدّد الجلد الموجود، إلى أن ينمو جلد جديد يكفي لاستخدامه في جراحة ثانية.
والسؤال الآن: كيف تستجيب خلايا الجلد إلى هذا الضغط وتتكاثر؟ أجابت اختصاصية بيولوجيا الخلايا الجذعية مارياسيليست أراجونا على هذا السؤال في أبحاثها في مرحلة ما بعد الدكتوراة في جامعة بروكسل الحرّة في بلجيكا، خلال عملها مع سيدريك بلانبين، إذ قامت بزرع كُريَّة من هُلام مائي ذاتي التمدّد تحت الجلد لدى فئران8 .ومع امتصاص الهُلام المائي للسوائل، وصل إلى حجم نهائي يبلغ 4 ملِّيلترات، وتمدد الجلد من حوله. وفي غضون يوم واحد من زرع هذا الهلام، لاحظت أراجونا أن الخلايا الجذعية تحت الطبقة الخارجية من جلد الفئران بدأت في التكاثر، لتنتج بذلك المادة الخام التي بإمكانها التمايز والتحوُّل إلى جلد جديد.
غير أن الخلايا الجذعية لا تتكاثر جميعها استجابةً لهذا التمدد؛ إذ لم تبدأ سوى مجموعة فرعية -كانت غير مكتشَفة من قبل- في إنتاج خلايا جذعية جديدة بغزارة. وتعلّق أراجونا -التي تشغل حاليًّا منصبًا بجامعة كوبنهاجن- على ذلك قائلةً: "لا نعرف السبب حتى الآن". ويضيف بلانبين قائلًا إنّ فهْم هذه المنظومة قد يقودنا إلى اكتشاف أساليب من شأنها تحفيز نمو الجلد لأغراض الجراحات الترميمية، أو شفاء الجروح.
كما تلعب الخواص الميكانيكية للأنسجة دورًا في النمو غير الطبيعي للخلايا، مثلما يحدث في الأورام السرطانية. يقول خافيير تريبات: "الأورام الجامدة أكثر صلابة من الأنسجة الطبيعية". ويرجع هذا -في جزء منه- إلى وجود زوائد من شبكة ليفيّة تحيط بالخلايا، يُطلَق عليها المصفوفة خارج الخلوية، وإلى أن خلايا الورم السرطاني نفسها تتكاثر".
ويضيف تريبات قائلًا: "هذه الصلابة تجعل الخلايا السرطانية أكثر خبثًا"، ويستطرد قائلًا إنه إذا استطاع العلماء فهْم السبب وراء ذلك، فربما يتمكنون من تصميم علاجات تعمل على تغيير تلك الخواص الفيزيائية، وتجعل الأورام السرطانية أقل خطورة.
Source: Ref.9
وفي دراسة مشابِهة، اكتشف باحثون من جامعة روكفلر القوى الميكانيكية التي تفسر كون بعض أنواع سرطانات الجلد حميدًا، وكون بعضها الآخر خبيثًا، إذ تتسبب خلايا الجلد الجذعية في نوعين مختلفين من السرطان: سرطان الخلايا القاعدية، الذي لا ينتشر متجاوزًا الجلد؛ وسرطان الخلايا الحرشفية الغَزوِيّ. وكلا النوعين يضغط على الغشاء القاعديّ أسفله، وهو طبقة من البروتينات البنيوية التي تفصل الطبقات الخارجية من الجلد عن النسيج الأعمق. وفي حين أن ورم الخلايا القاعدية الحميد نادرًا ما يخرق الغشاء القاعدي، فإن نظيره الأكثر شراسة غالبًا ما يتسلل عبر هذا الغشاء ليطوف في الجُملة الوعائية، ويستقر في أعضاء أخرى من الجسم (انظر الشكل "القوى الميكانيكية المؤثرة في سرطان الجلد").
وقد اكتشفت إلين فوكس، وفِنسنت فيوري، اختصاصيا أحياء الخلايا الجذعية، في إطار دراساتهما لجلود الفئران، أن الأورام السرطانية الحميدة كونت غشاءً قاعديًّا أكثر سُمْكًا وليونة من نظيرتها الخبيثة. وقد شابه هذا الغشاء القفاز في احتوائه لخلايا الورم عندما كانت تضغط على ما أسفلها. أما الورم الأكثر شراسة، فكان يحفز نشأة غشاء قاعدي أقل سُمْكًا.
وقد تبين أن قوة ضاغطة علوية قد ساعدت على هروب الخلايا الغَزوِيّة؛ فسرطانات الخلايا الحرشفية تكوِّن طبقة صلبة من خلايا الجلد المتمايزة، يُطلَق عليها "لؤلؤة الكيراتين". وبالضغط على أعلى الورم السرطاني، تساعد هذه اللؤلؤة الورم في اختراق الغشاء القاعدي الرقيق، كقبضةٍ تهشِّم زجاجًا9.
وتقول فوكس إنه قبل هذه الدراسة كان الباحثون يفترضون أن خلايا الجلد المتمايزة، التي تحمل هويات ثابتة، لا يمكنها توليد قوى ميكانيكية. وتضيف قائلة: "أعتقد أن هذه كانت المفاجأة الكبرى".
وتخطط فوكس وفيوري لاحقًا لدراسة الكيفية التي تستشعر بها الخلايا تلك القوى الميكانيكية، وكيف تحوّلها إلى برنامج تعبير جيني، من شأنه إما إنتاج غشاء قاعدي آخر، أو تعزيز التمايز.
ويقول ألان رودريجِز، اختصاصي البيولوجيا التطوّرية من جامعة روكفلر، إن العلاقة بين قوى التأثير في الجسم والجينات هي مسألة محورية، وليست قضية ذات صلة بسرطانات الجلد فحسب. ويضيف قائلًا: "يبحث علم الميكانيكا في أسئلة أكثر عمقًا، تتمثل -في حقيقة الأمر- في علاقة ذلك بالجزيئات".
ويدرس باحثون آخرون أيضًا هذه العلاقة. فعلى سبيل المثال، يقول لوكوِي: "ليست الجينات وحدها هي المسؤولة عن كل شيء، كما تعلمون، ولا القوى الميكانيكية أيضًا. وسيكون الحوار بين المجالين مثيرًا للاهتمام".
References
- Schliffka, M. F. et al. Preprint at bioRxiv https://doi.org/10.1101/2020.09.10.291997 (2020).
- Dumortier, J. G. et al. Science 365, 465–468 (2019). | article
- Serwane, F. et al. Nature Methods 14, 181–186 (2017). | article
- Mongera, A. et al. Nature 561, 401–405 (2018). | article
- Zhang, S., Teng, X., Toyama, Y. & Saunders, T. E. Curr. Biol. 30, 3364–3377 (2020). | article
- Koser D. E. et al. Nature Neurosci. 19, 1592–1598 (2016). | article
- Thompson, A. J. et al. eLife 8, e39356 (2019). | article
- Aragona, M. et al. Nature 584, 268–273 (2020). | article
- Fiore, V. F. et al. Nature 585, 433–439 (2020). | article
آمبر دانس
صحفية علمية مقيمة في لوس أنجيليس بولاية كاليفورنيا الأمريكية.