أنباء وآراء
كيف تتفاعل البروتونات مع شقيقاتها الغريبة؟
حتى وقت قريب، كان من الصعب دراسة القوى النووية التي تؤثر في الجسيمات دون الذرية قصيرة العمر, بيد أن هذه المشكلة حُلَّت الآن عبر صدم بروتوناتٍ عالية الطاقة ببعضها بعضًا بسرعةٍ وقوةٍ هائلتين، ثم قياس زخم الجسيمات غير المستقرة الناتجة.
- Nature (2020)
- doi:10.1038/d41586-020-03393-z
- English article
- Published online:
في بحثٍ نشرته دورية Nature مؤخرًا، أفاد "مشروع تعاوُن تجربة مُصادِم الأيونات الكبير"، الذي يسمَّى (اختصارًا ALICE1)، بأنَّ البيانات الناتجة من التصادمات عالية الطاقة فيما بين البروتونات يمكن استخدامها لدراسة القوى النووية المُبهَمة بين هذه البروتونات والجسيمات دون الذرية المُسمَّاة بالهايبرونات. وتُعَد القياسات التي تتحقق عن طريق هذه العملية مكافئة في دِقّتها لأحدث الحسابات الرقمية لهذه القوى. وبهذا، تتيح لنا عقد مقارناتٍ كمِّية حاسمة بين البيانات التجريبية والنظرية. وامتلاك معلوماتٍ دقيقة عن هذه القوى ضروري لجوانب مختلفة من أبحاث الفيزياء، من بينها -على سبيل المثال- الجهود المبذولة لفهم طبيعة استقرار النجوم النيوترونية.
تُمثِّل القوة النووية الناشئة بين النيوترونات والبروتونات (النيوكليونات) أثرًا يتخلف عن التفاعل القوي الذي يجري ين مكوناتهما الأولية (الكواركات، والجلوونات). وقد كان من الصعب حساب تلك القوة النووية اعتمادًا على الفرضيات النظرية الأساسية، بسبب الخصائص الاستثنائية لهذا التفاعل القوي. ومن ثَم، فإنَّ معرفتنا بهذه القوة تستند إلى حد كبير إلى نماذج ونظرياتٍ مُبسَّطة2، تسترشد بالبيانات التجريبية3. لذا، فإنَّ التفاعل القوي فيما بين الهدرونات (وهي جسيمات دون ذرية، مثل النيوكليونات، تتكون من كواركيْن أو أكثر، وهذه الكواركات مرتبطة ببعضها بهذا التفاعل القوي) عند الطاقات المنخفضة يُشار إليه غالبًا بأنَّه أقصى ما بلغه علمنا في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.
صحيحٌ أنَّ التفاعل فيما بين النيوكليونات قد قِيسَ بدقةٍ عالية3، لكنَّ التفاعل بينها وبين شقيقاتها الأثقل، أي الهايبرونات، لم يُقدَّر بالدقة نفسها. وتتكون الهايبرونات من ثلاثة كواركات، يجب أن يكون أحدها على الأقل من النوعية المعروفة باسم الكواركات الغريبة، بينما يمكن أن يكون الآخران من الكواركات العلوية أو السفلية، وهما أخف نوعيتين من الكواركات. وصحيحٌ أنَّ الهايبرونات لا توجد في المادة الشائعة التي تحيط بنا على كوكب الأرض، لكنَّها -حسب تفاعلاتها مع النيوكليونات- قد تؤثر في قابلية المواد النووية للانضغاط عند الكثافات العالية. وهذا يعني أنَّها قد تكون مرتبطةً باستقرار النجوم النيوترونية4. لذا، فالمعرفة الدقيقة بالتفاعلات بين الهايبرونات والنيوكليونات مهمة جدًّا، ليس لمجال الفيزياء النووية فقط، بل لمجال الفيزياء الفلكية أيضًا، غير أنه من الصعب قياس هذه التفاعلات في التجارب التقليدية التي تتضمَّن تصادماتٍ مباشِرة فيما بين الجسيمات في المُسرِّعات، لأنَّ الهايبرونات قصيرة العمر (يبلغ متوسط عمرها حوالي 10-10 من الثانية، المرجع 55) ولا تتحرك سوى بضعة سنتيمترات في المتوسط، قبل أن تتحلَّل.
والآن، يفيد "مشروع تعاوُن تجربة مُصادِم الأيونات الكبير" بأنَّه يمكن دراسة التفاعلات بين البروتونات والهايبرونات باستخدام تصادمات عالية الطاقة فيما بين البروتونات في مُصادِم الهدرونات الكبير (LHC)، التابع لمختبر المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN) المعنِيّ بفيزياء الجسيمات، الذي يقع بالقرب من مدينة جنيف في سويسرا. وتَعتمِد هذه التقنية على قياسات الارتباطات بين زخم كل من البروتونات والهايبرونات الناتجة في تلك التصادمات.
وتتضمَّن العملية التي تدرسها هذه التجارب ثلاث خطوات (الشكل 1). أولًا، تصطدم البروتونات ببعضها البعض عند طاقاتٍ عالية للغاية، بالاستفادة من إنتاج مصادم الهدرونات الكبير لطاقات تصادُم أعلى ممَّا ينتجه أي مُسرِّعٍ آخر. وثانيًا، تنبعث الهدرونات من "مصدر" يَنتُج من هذا التصادم، يتمثل في حيزٍ من الفراغ، تتفاعل فيه الكواركات والجلوونات التي انبثقت في الأصل من البروتونات، وتصبح محصورةً داخل هدروناتٍ جديدة. ويبعث هذا المصدر أنواعًا مختلفة من الهدرونات، تشمل البروتونات والهايبرونات، التي يُشكِّل بعضها أزواجًا مؤلَّفة من النوعين. وأخيرًا، يتفاعل البروتون والهايبرون في كلّ زوجٍ مع بعضهما البعض بطرقٍ تُغيِّر زخم منظومة الزوج الذي يجمعهما. ويُقاس هذا الزخم بكاشف، ويُستخدَم لتحديد علاقات الارتباط في هذا الزخم.
شكل 1 | دراسة تفاعل بين بروتون وهايبرون. أ، صادَمَ "مشروع تعاوُن تجربة مصادم الأيونات الكبير" بروتوناتٍ عالية الطاقة ببعضها البعض بسرعةٍ وقوةٍ هائلتين في مُصادم الهدرونات الكبير، التابع للمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (اختصارًا CERN). ب، تولِّد هذه التصادمات "مصدر جسيمات"، وهو حيز من الفراغ، تتفاعل فيه مكونات البروتونات المتصادمة، وتصبح محصورةً داخل جسيمات جديدة. تنبعث هذه الجسيمات الجديدة من المصدر، وتشمل بروتوناتٍ تقترن بجسيماتٍ أثقل، تُعرَف بالهايبرونات. ج، تتفاعل البروتونات والهايبرونات المُقترِنة في أزواج مع بعضها البعض بطريقةٍ تُغيِّر الزخم النسبي لمنظومتها، ويُقاس هذا الزخم لاحقًا بكاشف. بعد ذلك تُستخدَم هذه القياسات لتحديد القوة النووية بين البروتون والهايبرون في الزوج المؤلَّف منهما.
كبر الصورةوتعكس علاقات الارتباط هذه في الزخم حجم مصدر الهدرونات، وخصائص التفاعل بين الأزواج الناتجة المؤلَّفة من البروتونات والهايبرونات. وقد كانت تحليلات الارتباط هذه تُستخدم أصلًا لتحديد حجم المصدر في تصادمات الأيونات الثقيلة6، لكنَّها استُخدِمَت -بدلًا من ذلك- في هذا العمل البحثي الجديد لدراسة التفاعل فيما بين الجسيمات محل الاهتمام. وأول مشروعٍ طبَّق هذا النهج لدراسة تفاعلات الجسيمات كان المشروع التعاوني "المطياف ثنائي الإلكترون عالي القدرة على الرصد"، الذي يُطلَق عليه اختصارًا (HADES)، في مركز "جي إس آي هيلمهولتز" لأبحاث الأيونات الثقيلة بمدينة دارمشتات الألمانية. وقد أدخل عليه "مشروع تعاوُن تجربة مُصادِم الأيونات الكبير"""8، التي أُجريت في هذا المصادِم، مزيدًا من التحسينات. ويَعتمِد البحث الحالي على أن التصادمات عالية الطاقة فيما بين البروتونات في مُصادم الهدرونات الكبير تنتِج وفرةً كبيرة من الهايبرونات من مصادر صغيرة الحجم للهدرونات. وقد استخدم الباحثون هذه الطريقة لقياس قوة التفاعل الهائلة بين البروتونات والهايبرونات من نوع Ω– (التي تتكون من ثلاثة كواركات غريبة)، وبين البروتونات والهايبرونات من نوع "كِسي" Ξ (التي تتكون من كواركيْن غريبين، وثالث علوي أو سفلي).
وتُتِيح النتائج التي توصَّل إليها "مشروع تعاوُن تجربة مُصادِم الأيونات الكبير"مساحةً تجريبية جديدة لدراسة تفاعلات أخرى بين النيوكليونات والهايبرونات، مثل التفاعلات التي لم تُدرس إلا بصورة محدودة بين النيوكليونات والهايبرونات، التي تحوي كواركيْن غريبين، أو ثلاثة. وسيساعدنا هذا على فهم الحالات شبه المستقرة لأزواج الهايبرونات، أو قابلية المواد النووية للانضغاط عند الكثافات العالية. وهذه القابلية ليست ذات صلة باستقرار النجوم النيوترونية فحسب، بل باندماجها، وبتصادمات الأيونات الثقيلة أيضًا.
ومن حسن الحظ أنَّ التطورات الأخيرة في الفيزياء النظرية10،9 تتيح حساب القوى النووية اعتمادًا على الفرضيات النظرية الأساسية، كي تتسنَّى لنا مقارنة نتائج هذه الفرضيات بما توصلت إليه التجارب. وصحيح أنَّ الدقة التي يمكن بها قياس التفاعلات فيما بين النيوكليونات باستخدام البيانات التجريبية ما زالت أفضل من دقة نتائج هذه الحسابات النظرية، لكنَّ قياسات "مشروع تعاوُن تجربة مُصادِم الأيونات الكبير" للتفاعلات بين البروتونات والهايبرونات تكاد تُطابِق النتائج النظرية تمامًا.
ومن المتوقع أن يوفِّر لنا مُصادم الهدرونات الكبير في العقد القادم ثروةً من القياسات عالية الدقة للتفاعلات بين البروتونات والهايبرونات، وذلك بعد تحديثه الأخير. وفضلًا عن ذلك، من المنتظر أن تشهد السنوات المقبلة بدء تشغيل جميع عمليات عدة منشآتٍ بحثية أخرى، معنية بدراسة تصادمات الجسيمات عند طاقاتٍ أقل من تلك الناتجة في مصادم الهدرونات الكبير. ومن بين تلك المنشآت، مُجمَّع "منشأة مصادم الأيونات النيوكلوتروني" (NICA) في روسيا، و"مُجمَّع البحوث الياباني لتسريع البروتونات" (اختصارًا J-PARC) في اليابان، و"منشأة أبحاث الأيونات والبروتونات المضادة"، التي تُسمَّى اختصارًا (Fair) في ألمانيا. ومع أنَّ التصادمات منخفضة الطاقة ينتج في كل منها عددٌ أقل من أزواج البروتونات والهايبرونات، فإنَّ نسبةً أكبر من هذه الأزواج ستنبعث عند قِيَم الزخم المنخفضة، وهو ما قد تتضح فائدته لاحقًا بسبب الحاجة إلى مزيدٍ من البيانات لتقليل الأخطاء الإحصائية في قياسات الأنظمة منخفضة الزخم. كما أنَّ زيادة القدرات الحوسبية من المفترض بها أن تقلل إلى حد كبير مدى عدم اليقين في صحة الحسابات المعتمِدة على الفرضيات النظرية الأساسية حول القوى النووية. وهذه التطورات مُجتمعةً تُعَد مبشرة للأبحاث المستقبلية المعنية بدراسة أقصى ما بلغه علمنا فيما يخص النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات.References
- ALICE Collaboration. Nature 588, 232–238 (2020). | article
- Epelbaum, E., Hammer, H.-W. & Meissner, U.-G. Rev. Mod. Phys. 81, 1773–1825 (2009). | article
- Stoks, V. & de Swart, J. Phys. Rev. C 47, 761–767 (1993). | article
- Weissenborn, S., Chatterjee, D. & Schaffner-Bielich, J. Phys. Rev. C 85, 065802 (2012). | article
- Tanabashi, M. et al. Phys. Rev. D 98, 030001 (2018). | article
- Lisa, M. A., Pratt, S., Soltz, R. & Wiedemann, U. Annu. Rev. Nucl. Part. Sci. 55, 357–402 (2005). | article
- Adamczewski-Musch, J. et al. Phys. Rev. C 94, 025201 (2016). | article
- Acharya, S. et al. Phys. Rev. C 99, 024001 (2019). | article
- Sasaki, K. et al. Nucl. Phys. A 998, 121737 (2020). | article
- Iritani, T. et al. Phys. Lett. B 792, 284–289 (2019). | article
مانويل لورينز
يعمل في معهد الفيزياء النووية بجامعة جوته في مدينة فرانكفورت، 60438، ألمانيا.
البريد الإلكتروني: m.lorenz@gsi.de