كتب وفنون

حروب التبغ.. الصناعة والسياسة

تستعرض فيليسيتي لورانس تاريخ عادة التدخين، التي تودي بحياة ثمانية ملايين شخص كل عام.

فيليسيتي لورانس
  • Published online:
إعلانٌ ظهر في مجلةٍ أمريكية قرابة عام 1950.

إعلانٌ ظهر في مجلةٍ أمريكية قرابة عام 1950.

Granger Historical Picture Archive/Alamy

قد يبدو أنَّ تاريخ صناعة التبغ قد تم سَبْره بالكامل، وكذلك حملتها المُشينة لتأجيل إصدار تشريعاتٍ تنظِّمها، رغم وفاة الملايين بسبب منتجاتها. لكنَّ المؤرخة ساره ميلوف تَسُوق - بنجاح - في كتابها التأريخي «السيجارة» The Cigarette رؤيةٍ جديدة عن الطريقة التي تمكنت بها صناعة التبغ - من خلال نفوذها - مِن كسب تأييد الخزائن الحكومية، وشركات الإعلانات، والعلماء المأجورين، لتواصل إفساد قطاع الصحة العامة لسنواتٍ طويلة. فقد أودى التبغ بحياة ما يُقدَّر بحوالي 100 مليون شخص في القرن العشرين. وإنْ لم تُتخذ إجراءاتٌ جذرية، فيُتوقع أن يودي بحياة ما يقارب مليار شخص في القرن الواحد والعشرين.

وقد تناول الكثيرون من قبل هذا الموضوع البغيض. ومن بين هؤلاء الصحفي ريتشارد كلوجر، الذي كشف النقاب في كتابه «من الرماد إلى الرماد» Ashes to Ashes (1996) عن آلة الإنكار، التابعة لصناعة التبغ، من خلال مئات المقابلات مع المُدافِعين عن الصناعة، ونُقّادها. وهناك أيضًا المؤرخ الطبي آلان براندت، الذي تقصّى في كتابه «قرن السيجارة» The Cigarette Century (2007)، الأدلة الثقافية، والعلمية، والقانونية، والسياسية، ليوضح كيف تسببت صناعة التبغ في تفشي وباءٍ عالمي. أما كتاب «الهولوكوست الذهبي» The Golden Holocaust (2011)، للمؤرخ العلمي روبرت بروكتور، فينقب في الملايين من وثائق صناعة التبغ، التي كُشف عنها أثناء دعوى قضائية، وذلك بهدف إصدار لائحة اتهامٍ نارية تشمل شركات التبغ الخمس الكبرى، ومؤامراتها، والمتعاونين معها. وهذه الكتب، التي تتناول تلك المؤامرات بالتفصيل، تُسهم مجتمعةً بدورٍ كبير في توضيح أسباب استمرار عادة التدخين، رغم مرور عشرات السنين على إثبات تأثيرها المميت المحتمَل في أوائل ستينيات القرن الماضي.

وما تضيفه ميلوف في كتابها هو سردٌ دقيق للعلاقة المتبادلة بين مكائد الشركات، والدعم الحكومي لصناعة التبغ، وهي علاقة تمتد منذ ثلاثينيات القرن الماضي إلى الآونة الأخيرة. وتقدِّم الكاتبة كلًّا من الهيئات البيروقراطية الحكومية في مناطق زراعة التبغ، والمنظمات التي تمثل مزارعي التبغ في تلك الولايات، مثل منظمة «مكتب المَزارع»، على أنَّهم شركاء في المؤامرة. ورغم أنها تركز في كتابها على الولايات المتحدة، فالحجج التي تطرحها تنطبق على صناعة التبغ العالمية. وهناك تشابهات واضحة أيضًا بين القضية التي تتناولها، وقضايا أخرى؛ ومن ذلك - على سبيل المثال - انتشار الأطعمة السريعة غير الصحية، التي ثبت ارتباطها بالسمنة منذ زمنٍ طويل، إذ تنتهج شركات تلك الصناعة الاستراتيجيات نفسها، بل وتستعين بمجموعات الضغط ذاتها.

شركات متآمرة

كُتب الكثير عن إخفاء صناعة التبغ عمدًا لأضرار التدخين، أبرزه ما كتبته نايومي أوريسكس، وإريك كونواي في كتابهما «تجار الشك» Merchants of Doubt (2010)، بيد أنه من الجدير بالذكر أنَّه خلال الحرب العالمية الأولى أصبحت الحكومة الفيدرالية الأمريكية نفسها من تجار التبغ، إذ كانت الحكومة تعتبرها صناعةً ضرورية، فسمحَتْ بأنْ تشتمل حصصُ إعاشة الجنود على أوراق لف السجائر والتبغ. وحين تسببت الحرب العالمية الثانية في أزمةٍ صناعية أخرى، تدخّلت الحكومة من جديد، إذ كانت بريطانيا قد توقفت عن استيراد السجائر الأمريكية، لادخار العملة الأجنبية لجهودها الحربية؛ فاشترت حكومة الولايات المتحدة الكميات التي كانت تستوردها بريطانيا؛ لتحمي مزارعيها.

ويُذكر أنّ الحكومة تتدخّل لإنقاذ مزارعي التبغ من أي ضائقةٍ مالية منذ الثلاثينيات. فمع صدور قانون التعديل الزراعي لعام 1933، بدأ النظام الفيدرالي لدعم أسعار التبغ، الذي كان جزءًا من سياسات «الصفقة الجديدة»، التي انتهجها الرئيس فرانكلين دي. روزفلت؛ لمجابهة الكساد العظيم. وفي عام 1964، أصدر طبيب الأمة الأمريكي، لوثر تيري، تقريرًا بعنوان «التدخين والصحة»، خلص فيه إلى أنَّ التدخين يؤدي إلى الموت المبكر، لتَسَبُّبه في الإصابة بسرطان الرئة، والانتفاخ الرئوي، والتهاب الشُّعَب الهوائية، ومرض شريان القلب التاجي. ومع ذلك.. لم يُلغَ النظام الفيدرالي لدعم أسعار التبغ، إلا في عام 2004، على الرغم من استمرار التبغ في حصاد أرواح ما يقارب نصف مليون مواطن أمريكي سنويًّا. (واستمرت دفعات الحكومة لمزارعي التبغ حتى عام 2014، لتخفيف تبعات قرار إلغاء النظام).

الحجج المبتذلة التي ابتكرتها صناعة التبغ تظهر مجددًا في الجدل الدائر حول تدخين السجائر الإلكترونية.

الحجج المبتذلة التي ابتكرتها صناعة التبغ تظهر مجددًا في الجدل الدائر حول تدخين السجائر الإلكترونية. 

Sergio Flores/Bloomberg via Getty

التلاعب بالسوق

وتروي ميلوف أنَّه في أثناء الحرب الباردة، روَّجت صناعة الإعلانات المزدهرة للاستهلاك واسع النطاق للسجائر. وأصبح التدخين يرمز إلى انتصار الوفرة السلعية التي تحققها الرأسمالية الاستهلاكية على ثقافة شح السلع الكئيبة التي تسببت فيها الاشتراكية السوفيتية. وفي تلك الظروف، تأسست منظمة «شركاء صناعة التبغ» Tobacco Associates في عام 1947. وإضافة إلى كونها مجلسًا تسويقيًّا، مهمته الترويج لبيع فائض السجائر الأمريكية خارج البلاد، كانت منظمةً خاصة، فوّضتها الحكومة لتحصيل ضريبةٍ من صناعة التبغ؛ لتمويل جهودها.

وكان لهذه المساعي المشتركة بين السياسات الخاصة والعامة - أو «المشتركة»، حسب الاصطلاح الذي يستخدمه باحثو الاقتصاد السياسي - دورٌ رئيس في تفشي الأوبئة العالمية الناتجة عن التدخين . وبحلول عام 1955، كان أكثر من نصف رجال الولايات المتحدة يدخنون السجائر، بالإضافة إلى ربع نسائها تقريبًا. وأصبح العثور على مدخنين جُدد في الدول الأخرى ضروريًّا لاستمرار نمو الصناعة. وما زال الوضع كذلك في الوقت الحالي.

وتضمنت خطة «مارشال» الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا المُدمَّرة عقب الحرب العالمية الثانية تخصيص قروضٍ للدول الأوروبية، لشراء التبغ الأمريكي، والمواد الغذائية. وابتداءً من عام 1954، تطورت الخطة إلى برنامج لإعانة الحلفاء، تحت اسم «القانون العام رقم 480»، وتركزت هذه الإعانات بصورةٍ أكبر في جنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط. ومَنَح هذا البرنامج - الذي يُعرف على نطاقٍ أوسع باسم برنامج «الأغذية من أجل السلام» - وضعًا مميزًا للتبغ إلى جانب المواد الغذائية. وكانت النتيجة تحقيق الهدف المنشود، وهو فتح أسواق تصدير دائمة للسلع الأمريكية، وإرساء الهيمنة الجيوسياسية الأمريكية.

وقد بدأت الجهود المناهضة للتدخين فعليًّا في أواخر الستينيات. وحين أراد مناهضو التدخين مواجهة شبكة المصالح المترابطة لصناعة التبغ، والمنتجين، والدولة، وجدوا وسيلتين رئيستين للنجاح في ذلك، أولًا: أدرك النشطاء كيفية تسخير حركات الحقوق المدنية وحقوق المستهلك، التي نشطت في الستينيات والسبعينيات، لتغيير التصور العام عن التدخين، وتحويله إلى سلوكٍ غير مقبول اجتماعيًّا. وتوصّل المحامي الشاب جون بانزهاف - الذي أسَّس في عام 1967 مجموعة الضغط «العمل على التدخين والصحة»Action on Smoking and Health ، المعروفة اختصارًا باسم (ASH) - إلى عدة طرقٍ لمقاضاة صناعة التبغ. وفي مواجهة انحياز المجلس التشريعي الفيدرالي إلى جماعات الضغط التابعة للصناعة والمزارعين، انتقل النشطاء المناهضون لصناعة التبغ بمعركتهم إلى ساحة الحكومات المحلية، حيث تضعف سطوة مجموعات الضغط الخاصة بالشركات؛ فتعاونوا مع إدارات المدن والجهات التنظيمية المتخصصة، ونجحوا في فرْض حظرٍ على بث إعلانات السجائر في أمريكا في عام 1971، وفي فرض قيودٍ على التدخين على متن الطائرات في عام 1973 عن طريق مجلس الطيران المدني.

حراكٌ على المستوى الشعبي

عمل إلى جانب هؤلاء نشطاء محليون، جَمَّع ميلوف تفاصيل مذهلة عنهم، ومنهم كلارا جوين، وهي امرأة من ولاية ميريلاند، كان لديها طفلٌ مصاب بالحساسية تجاه دخان السجائر، وأسست في غرفة معيشتها في عام 1971 منظمة «الجماعة المناهِضة لتلويث المدخنين للبيئة»، أو اختصارًا (GASP). وصاغت مع آخرين مفهوم «غير المدخن»، الذي لا تقل حقوقه في الأماكن العامة أهميةً عن حقوق المدخن.

أما الجبهة الثانية في المعركة، فكانت الضغط لإثبات الأثر الضار للتدخين على الاقتصاد، وليس فقط فيما يتعلق بفواتير العلاج التي تتحملها الحكومات، إذ إنَّ التدخين كان يؤثر كذلك على الإنتاجية. ففي عام 1976، رفعت امرأةٌ أخرى، تُدعى دونا شيمب، أول دعوى قضائية ضد صاحب عمل، لتَسَبُّب المدخنين في مكان عملها في تدهور صحتها. واستمرت في جهودها؛ للبرهنة على الجدوى الاقتصادية لحظر تدخين التبغ في أماكن العمل.

وكما هو معتاد... ما زالت اللامبالاة التي يتصف بها مناصرو صناعة التبغ صادمةً. ومما يثير السخط حتمًا.. جهود «لجنة أبحاث صناعة التبغ»، التي هي مؤامرةٌ رسمية حاكها مُصنِّعو السجائر في غرفةٍ بأحد الفنادق في شهر ديسمبر عام 1953، إذ أنفقت تلك المجموعة أكثر من 300 مليون دولار أمريكي بين عامي 1954، و1997، لإثارة الشكوك حول الأبحاث العلمية المتعلقة بالتدخين والصحة.

وتُقدِّر منظمة الصحة العالمية أنَّ التدخين ما زال يودي بحياة أكثر من ثمانية ملايين شخص سنويًّا. ويحدث هذا في الوقت الذي تُطرح فيه الحجج القديمة المبتذلة نفسها في الجدال الدائر حول تدخين السجائر الإلكترونية، بعد وقوع وفياتٍ بين مدخنيها. وحسب تعبير ميلوف، من الصعب القضاء على الحشائش الضارة. ومن ناحيةٍ أخرى، جرِّب  استبدال قضية الوقود الأحفوري وتغيُّر المناخ بقضية التبغ والموت المبكر، وستجد أنَّ الصناعة تبذل الجهود الشنيعة نفسها لتقويض العلم، وستجد بصيص الأمل نفسه في نشوء حركةٍ مناهِضة.

فيليسيتي لورانس مراسلة خاصة تعمل لدى صحيفة «ذا جارديان» The Guardian في لندن، ومؤلفة كتابَي «ما لا يذكره الملصَق»  Not on the Label ، و«الأثر المدمر لصناعة الغذاء على القلب» Eat Your Heart Out.

 البريد الإلكتروني: felicity.lawrence@theguardian.com