كتب وفنون

200 عام على ميلاد ماريا ميتشيل

ريتشارد هولمز يحتفي بالولع التربوي والآراء المثيرة لعالمة الفلك الرائدة ومناصرة حقوق المرأة في الذكرى المئوية الثانية لمولدها. 

ريتشارد هولمز
  • Published online:
ماريا ميتشيل (إلى اليسار) وماري ويتني في مرصد كلية فاسار

ماريا ميتشيل (إلى اليسار) وماري ويتني في مرصد كلية فاسار

ID 08.07.07, Archives & Special Coll., Vassar College Lib.

هي أول سيدة أمريكية تشتغل بعلم الفلك، ومناصرة جريئة لحق المرأة في تعلم العلوم. إنها ماريا ميتشيل، المناضلة العلمية الثائرة، التي سيُحتفى في شهر أغسطس المقبل بذكرى مرور 200 عام على مولدها. تتجلى شخصية ميتشيل في خطابها المُلهَم الذي حمل عنوان «الحاجة إلى النساء في مجال العلوم»، الذي ألقته عام 1876 أمام المؤتمر الرابع لجمعية النهوض بالمرأة، في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا. وقد طرحت ميتشيل تحديًا تاريخيًا معلنة أن قوانين الطبيعة لا تُكتَشف عبر "العجلة والقلق المصاحبين للكد اليومي، وإنما تحتاج إلى بحث دؤوب، وإلى أن تكرس السيدات المستطيعات حياتهن للبحث، فإنه من العبث مناقشة مسألة قدرتهن على إنتاج عمل مبدع"، أو كما قالت في مذكراتها: "إني لأؤثر إمعان النظر في المطياف على أن أتأمل قالبًا لفستان".

تضفي عقلية ميتشيل الألمعية، وشغفها التربوي، وآراؤها المثيرة حيوية استثنائية على مجموعة أعمالها المتنوعة التي تتراوح بين الأبحاث العلمية والمقالات والملاحظات والمذكرات. نُشِر بعض هذه الأعمال لأوّل مرة على يد شقيقتها فيبي ميتشيل كيندال في عام 1896 بعد مرور سبع سنوات على وفاتها في كتاب «ماريا ميتشيل: حياتها، ورسائلها ومذكراتها» Maria Mitchell: Life, Letters, and Journals. وثمة إصدارات حديثة تتضمّن سيرتها منها الكتاب الذي حرّره هنري ألبرز ويحمل عنوان «ماريا ميتشيل: سيرة حياة في مذكرات ورسائل» Maria Mitchell: A Life in Journals and Letters (2001)، وكتاب رينيه بيرجلاند «ماريا ميتشيل وجنسنة العلوم» Maria Mitchell and the Sexing of Science Scientific Americanفي يوليو 1889 واصفًة إياها بأنها "تتألق مثل نجمة لامعة في السماء، وأحبّت دراستها حبًا جمًا".

وُلِدَت ميتشيل في عام 1818 لعائلة كبيرة تنتمي لجمعية الأصدقاء («الكويكرز») في محطة صيد الحيتان بجزيرة نانتوكيت قبالة سواحل ماساتشوستس. اشتهرت هذه البقعة بالمتأملين في الآفاق والبحّارة وحرّاس المنارات، حيث يعمل رجالها بعيدًا في كثير من الأحيان، كما احتفى الكويكرز بالمساواة بين الجنسين. لاقت ميتشيل منذ طفولتها المبكرة تشجيعًا من والدها على السعي لطلب العلم، وكان والدها يشغل منصب مدير البنك المحلي، كما كان فلكيًا هاويًا، وكانت لديه علاقات بشخصيات في مرصد جامعة هارفارد في كامبريدج بولاية ماساتشوستس. اعتاد الوالد وابنته أن يتأملا معًا السماء باستخدام تليسكوب دولوند من على سطح منزلهما، وقد كشفت ميتشيل في وقت مبكر من حياتها عن قدرات استثنائية على الرصد، وملكات رياضية فطرية، وحساسية غير عادية حيال حركات النجوم وألوانها.

حين بلغت ميتشيل من العمر 17 عامًا، افتتحت مدرستها الخاصة، وبعد عام عُينّت مشرفة على المكتبة المحلية، «نانتوكيت آثينيوم». كانت تصطحب معها دائمًا دفتر ملاحظات تحمله في جيب واسع. اتَّسم حديث ميتشيل بالصراحة وأفكارها بالطابع الثوري المتنامي. تقول في مذكراتها: "بعيدًا عن المعادلات الرياضية الأولى، لا يمكننا قبول أي شيء باعتباره من المسلّمات. علينا أن نشك في كل شيء آخر".

وكما فعلت عالمة الفلك الألمانية كارولين هيرشل (1750-1848)، لمع اسم ميتشيل بعد اكتشافها أحد المذنبات. ففي الأول من أكتوبر عام 1847، وعلى سطح مبنى بنك باسيفيك، رصدت ميتشيل «مذنبًا تليسكوبيًا» جديدًا يرتفع خمس درجات فوق النجم القطبي، فنشرت ملاحظة أولية عن اكتشافها في مجلة الجمعية الفلكية الملكية البريطانية في 12 من نوفمبر، مما جعلها جديرة بنيل الميدالية الذهبية التي خصصها الملك الدنماركي فريدريك السادس لمن يرصد أي مذنب جديد لا يمكن اكتشافه إلا عبر التليسكوب بأي مكان في العالم.

كان استحقاق ميتشيل للجائزة أصيلًا، لكن إنجازها كان يضاهيه علماء فلك آخرون، في إيطاليا وألمانيا وبريطانيا. ووجدت ميتشيل في إدوارد إيفرت -رئيس جامعة هارفرد- مناصرًا متحمسًا لقضيتها، إذ دافع عنها في عديد من المجلات العلمية، بل وكتب شخصيًا إلى القنصل الدنماركي في واشنطن العاصمة. كما كتب لأحد أصدقائه في أواخر عام 1847، قائلًا: "سيكون من المبهج أن تنتزع فتاة نانتوكيت الجائزة من جميع كهول أوروبا ومراصدها".

دافعت ماريا ميتشيل عن حق النساء في التعليم.

دافعت ماريا ميتشيل عن حق النساء في التعليم.

Bettman/Getty

وبالفعل فازت ميتشيل بالجائزة وصار المذنّب يعرف باسم مذنب الآنسة ميتشيل، وسرعان ما توالت التقديرات لجهودها. فحين بلغت من العمر 32 عامًا، صارت أوَّل سيدة تُنتخب عضوًا في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وأول سيدة تنال عضوية الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم. انتقلت ماريا في عام 1849 مع والدها إلى بوسطن بولاية ماساتشوستس، وعُينت "حاسبة" رسمية لإعداد الجداول الحسابية لدورية التقويم البحري الأمريكية (انظر S. Nelson Nature 539, 491–492; 2016)

كان هذا المدار مقيدًا للغاية لطاقاتها. لذا، انطلقت عام 1857 بمفردها لزيارة المراصد الأوروبية الكبرى، ابتداءً من جرينتش في المملكة المتحدة حتى برلين، مصطحبًة معها واحدة من أقدم صور النجوم من جامعة هارفارد، وأحد دواوين شعر لورد بايرون. وسجلت في مذكراتها لقاءاتها مع جورج إيري، الفلكي الملكي البريطاني (والملقب باسم "دب بلاكهيث")؛ وويليام هيويل، الأستاذ بكلية ترينيتي في كامبريدج، وواضع مصطلح «عالم» Scientist")؛ والمستكشف الكبير ألكسندر فون هومبولت.

لم تمض كل هذه المقابلات بسلاسة؛ إذ كانت قد "غضبت" من الاستفزازات ذات الطابع الشوفيني التي صدرت من هيويل في أثناء تناولها الغداء معه في كلية ترينيتي؛ إذ كان يسخر من قصائد إليزابيث باريت براونينج ويراها "مقززة"، ويحتقر فكرة وجود عوالم ذكية خارج عالمنا، بحجة أنها تخالف إرادة الخالق الخيِّر. وفي مذكرات سفرها، علقت ميتشيل على كتاب هيويل «تعدد العوالم» The Plurality of Worlds هيويل!"

أما لقاؤها في فلورنسا مع عالمة الرياضيات والكاتبة البريطانية ماري سمرفيل فكان تلاقيًا حقيقيًا بين العقول. كان عمر سمرفيل حينئذ 77 عامًا وقد "دخلت الغرفة بخطى رشيقة متسارعة، وبدأت على الفور الحديث بحيوية الشباب". وانبهرت ميتشيل باهتماماتها الموسوعية، التي شملت الاكتشافات الحديثة "في الكيمياء واكتشاف الذهب في كاليفورنيا، والسديم.. والكواكب". وفوق كل ذلك، أسهمت كتب سمرفيل -لا سيَّما كتابها الصادر في عام 1834 بعنوان «عن اتصال العلوم الطبيعية» On the Connexion of the Physical Sciences (انظر R. Holmes Nature 514, 432–433; 2014)- في توسيع رؤية ميتشيل لعالم العلوم، ورسخت رفضها لاستخدام نوع الجنس معيارًا لتعريف العلوم. واكتشفت ميتشيل في روما -ما اكتشفته سمرفيل قبل ذلك بسنوات- أن أبواب مرصد الفاتيكان كانت مغلقة أمام النساء. وفي نهاية المطاف، حصلت ميتشيل على إذن بالزيارة، ولكن خلال النهار فقط.

كتبت ميتشيل فيما بعد دراسة عن الصداقة التي توطدت بين عالم الفلك جاليليو جاليلي والشاعر الإنجليزي جون ميلتون في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وأحبَّت حديث ميلتون في ملحمته «الفردوس المفقود» Paradise Lost

وفي عام 1865، عينت ميتشيل أستاذًا لعلم الفلك في كلية فاسار، التي تأسست حديثًا في بوكيبسي بولاية نيويورك -لتصير واحدة من أقدم معاهد التعليم العالي المخصصة للنساء فقط في الولايات المتحدة- وكان راتبها السنوي يبلغ 800 دولار أمريكي، وهو المبلغ الذي رفضته ميتشيل بقوة بعد أن اكتشفت أنه لا يمثل إلا جزءًا ضئيلًا من الراتب الذي يحصل عليه الأساتذة الذكور. كان مرصد فاسار -الذي صممه عالم الرياضيات تشارلز فارار، بقبة قطرها 8.4 متر تديرها 16 بكرة مصنوعة من الحديد الزهر، إلى جانب غرف تحتوي على أجهزة العبور الزوالي وأجهزة الكرونوجراف- أفضل المراصد تجهيزًا في الولايات المتحدة بعد مرصد هارفارد. عملت ميتشيل في المرصد بعد ذلك لمدة 23 سنة، وحصلت على تليسكوب عاكس يبلغ قطر عدسته 30 سنتيمترًا، صمَّمه خصيصًا لأجلها صانع أجهزة الرصد هنري فيتز.

وتحت ظلال تمثال نصفي لسمرفيل، احتضنت ميتشيل مجموعة متميزة من الطالبات المتفانيات وعكفت على رعايتهن وتعليمهن. ضمَّت الدفعة الأولى من طالباتها ماري ويتني، التي صارت فيما بعد عالمة فلك ومدافعة عن حقوق المرأة وأستاذًا في كلية فاسار وعضوًا في مجموعة أصغر من طالبات علم الفلك ضمَّت ستًا من الشابات اللامعات، وعرفت هذه الزمرة باسم «المجموعة السداسية». ووفاءً منهن لتقدير ميتشيل للفنون، دشَّنت المجموعة «حفلات القبة» السنوية التي مزجن فيها بين الشعر، والفلك، وتناول الفراولة والقشدة. كانت ميتشيل تؤكد أن الخيال جزء لا يتجزّأ من العلم، فالعلم "ليس كله رياضيات أو منطقًا، بل يتضمن قدرًا من الجمال والشعر".

وفي أثناء عملها محاضرة، اشتُهرت ميتشيل بأقوالها البليغة، ومن ذلك مقولتها: "اطلب العلم كما لو كنت ستعيش أبدًا، وعش كما لو كنت ستموت غدًا"، وقالت واصفًة عبقرية إسحاق نيوتن: "لقد لفَّ نيوتن غلاف كتاب، واضعًا قنينة صغيرة على أحد طرفيه وعقلًا كبيرًا على الطرف الآخر – وكان هذا كافيًا". وهي مَن شرحت استخدام التحليل الطيفي بعبارتها: "إن عالم الفلك يكسر ضوء النجوم كما يكسر الجيولوجي الصخرة بمطرقته، فيحصل على نتائج مشابهة؛ إذ يجد النحاس والصوديوم والعناصر الأخرى في الشمس والنجوم".

كانت ميتشيل تشعر أن النساء يتمتعن بموهبة الرصد الفلكي: "فالعين التي توجه إبرة عبر خيوط التطريز الدقيقة تستطيع أن تقيس بدقة أبعاد النجوم باستخدام الميكرومتر". وانتقدت ميتشيل ما شاع في عصرها من انشغال النساء بالأعمال المنزلية الشاقة، وكانت تحضّ طالباتها على تكريس حياتهن للعلم. بل كانت ترى أن التعليم العالي وحده هو الذي سيمنح النساء استقلالية العقل والطموح: "إلى أن تتخلّص النساء من هذا الخضوع للسلطة [الذكورية]، لن يتطوَّرن. فإذا فعلن ذلك، إذا توصّلن للحقيقة عبر الدراسة والبحث.. ستعمل عقولهن بلا توقف ودون قيود".

تميَّزت ميتشيل بالجرأة في عملها الميداني؛ ففي عام 1873، سافرت إلى مرصد في روسيا على مشارف مدينة سانت بطرسبرج؛ وفي عام 1878، قادت حملة استطلاعية نسوية ضمت أفضل طالباتها لمراقبة كسوف الشمس من دنفر بولاية كولورادو (انظر J. Pasachoff Nature 545, 409–410; 2017لسلسلة ملاحظاتها الدقيقة لظاهرة الكسوف الحلقي عبر فترة زمنية تمتد لأكثر من 50 عامًا. بدأت المسيرة عام 1831، حين كانت ترقب النجوم مع والدها من على أحد الأسطح في نانتوكيت؛ وفي عام 1885، صارت محاطة بطلابها داخل مرصد رائع. قالت ميتشيل معلقًة على هذين اليومين: "كلا اليومين كان باردًا وصافيًا تمامًا". بيد أن تقاعدها عام 1888 لم يرق لها، ففارقت الحياة في غضون عام واحد، والتليسكوب لا يزال منصوبًا على نافذتها.

لا شك أن إرث ميتشيل يستحق الاهتمام. وأعمالها مصونة في فاسار، وثمة متحف وجمعية يحملان اسمها في نانتوكيت. كما أن تليسكوب هنري فيتز الجميل الخاص بها يحتل موضعًا متميزًا في المتحف الوطني للتاريخ الأمريكي في واشنطن العاصمة. والأهم من كل ما سبق أن تحيا ذكراها باعتبارها ذات طريقة ملهمة في تعليم العلوم، وعضوًا سابقًا شغوفًا في طائفة الكويكرز، ومن أولى المدافعات الجريئات عن حقوق المرأة. تقول إحدى طالباتها متذكرًة: "لقد كان اللقاء العابر بالآنسة ميتشيل.. يُشعر المرء دائمًا وكأنه تعرّض لصدمة كهربائية. عند أقل تواصل معها، كانت ثمة ومضة تبرق". ولا يزال بإمكاننا أن نقتبس من سَنا هذه الومضة.

ريتشارد هولمز مؤلف كتابي «زمن العجائب» The Age of Wonder و«هذا المسعي الحثيث» This Long Pursuit.

بريد إلكتروني: Richard.holmes.biog@gmail.com