كتب وفنون

الصحة: الحياة بعد سن اليأس

تُجْرِي جوليا براج تحقيقًا عن كتاب يستند إلى نظريات تطورية؛ بغرض إعادة النظر في مفهوم سن اليأس. 

  • Published online:
رغم الصور النمطية، نادرًا ما تُصَرِّح النساء اللاتي في مرحلة انقطاع الطمث وما بعدها عن شعورهن بــ«النقص»، أو عدم التمكين.

  رغم الصور النمطية، نادرًا ما تُصَرِّح النساء اللاتي في مرحلة انقطاع الطمث وما بعدها عن شعورهن بــ«النقص»، أو عدم التمكين.

Jeff Pachoud/AFP/Getty

صاغ الطبيب الفرنسي شارل بيير لويس دي جاردان مصطلح «انقطاع الطمث» menopause في عشرينيات القرن التاسع عشر. وبحلول عام 1899، كانت شركة «ميرك» Merck الأمريكية للمستحضرات الدوائية تبيع عقار «أوفاريين» Ovariin، وهو علاج مستخلَص من مبايض الأبقار المجفَّفة والمطحونة. وعلى مدار قرن وأكثر من التجارب والعلاجات، تَعَزَّز فهم العلماء لانقطاع الطمث من منظور طبي بدرجة ملحوظة (رغم أن هذا لا يزال غير كافٍ)، حتى مع تغيُّر التوجهات الثقافية تجاه انقطاع الطمث. والآن، تسعى المؤرخة سوزان ماترن في كتابها «إطلالة القمر البطيء» The Slow Moon Climbs إلى تغيير تَصَوُّرنا عن انقطاع الطمث، مُشدِّدةً على الميزة المرتبطة بالانتقاء الطبيعي، التي يقدمها العيش لسنوات طويلة بعد سنوات الخصوبة.

يحدث انقطاع الطمث عندما تنخفض تركيزات هرمون «الإستروجين» في الدم، وينقطع الحيض، ويصبح الحمل الطبيعي غير ممكن، نتيجة لعدم تبَقِّي سوى عدد قليل جدًّا من الحويصلات المبيضية. وتعاني نساء كثيرات (حوالي 70% في المجتمعات الغربية) مجموعة من الأعراض المرتبطة بهذه المرحلة، أكثرها شيوعًا هبات الحرارة، وصعوبات النوم. وربما تعاني نساء منهن جفافًا في المهبل، وانخفاضًا في الرغبة الجنسية، إلى جانب أعراض أخرى.

تطرح ماترن فكرة أن التعريف الطبي الحديث لمرحلة انقطاع الطمث (الذي ظهر قبل تسمية دي جاردان بأكثر من قرن من الزمان) يضعها في إطار الاضطراب، بل وحتى في إطار المحنة المؤلمة. وتستند إلى علم الآثار، وعلم الأوبئة، والأنثروبولوجيا، والتكاثر الحيواني، وعلم الشيخوخة؛ كي تشرح وجهة نظرها بوضوح.

ومن خلال إعادة تأطير ماترن لمرحلة انقطاع الطمث، تسعى لإقناع القراء بالنظر إلى هذه المرحلة على أنها فترة انتقالية نحو مرحلة حيوية من الحياة. يَستعرِض كتاب «إطلالة القمر البطيء» دراسات حالة لمجموعات سكانية ريفية في مراحل مختلفة من التاريخ، ومن مختلف أنحاء العالم، من منغوليا القرون الوسطى إلى جامبيا القرن العشرين. وعبر كل هذا.. تختبر نظريات تطورية وأنثروبولوجية، وفي الوقت نفسه تسلط الضوء على اختلافات التجربة الثقافية بين هذه المجموعات.

وتَبْنِي ماترن جزءًا كبيرًا من أطروحتها على فرضية تُدعى «فرضية الجدّات»، التي طرحها جورج وليامز - عالِم البيولوجيا التطورية الأمريكي - لأول مرة في عام 1957. وخلاصة هذه الفرضية هو أن انقطاع الطمث يطيل المدى العمري في مرحلة ما بعد الخصوبة. وهذه ميزة انتقائية، لأنها تتيح للسيدات المتقدمات في العمر المساعَدة في تربية ذُرِّية أولادهن ومعارفهن في إطار بِنْية مجتمعية قائمة على التربية التعاونية. ويشير استعراض ماترن للبحوث على الحيوانات إلى أن هذا الانتقاء قاصر على البشر، رغم وجوده على نطاق أضيق في بعض الرئيسيات غير البشرية، وكذلك في الحيتان. ومع انخفاض معدل الوفيات بمرور الوقت، فقد وَازَن انقطاعُ الطمث فعليًّا تعداد السكان أيضًا. وتفترض النظرية أن هذه المميزات أتاحت للبشر الانتشار في أرجاء الأرض.

وعلى الرغم من تلك الجوانب المثيرة للاهتمام في الكتاب، التي تستحق النقاش، فإنني غير مقتنع بجانب مهم من وجهة نظر ماترن؛ ألا وهو أن الطب الغربي، والثقافة الحديثة كان لهما تأثير سلبي تمامًا على مفهوم انقطاع الطمث، إذ تقول إنّ أحد «التعبيرات الاصطلاحية للمحنة» يشكِّل إطارًا مفاهيمي للنظرة المعاصِرة لمرحلة انقطاع الطمث، ألا وهو أن أحد العناصر المهمة لانقطاع الطمث هو القلق، الذي تحفزه مخاوف بشأن نقص هرمون الإستروجين، أو تَراجُع المكانة الاجتماعية.

في البحوث التي أجريتُها عن النساء أثناء مرحلة انقطاع الطمث في بريطانيا، وجدتُ أن العكس هو الصحيح، إذ لم تشعر ولا واحدة منهن تقريبًا أنها كانت تعاني «نقصًا» ما، بل كن سعيدات بتحررهن من عبء الدورة الشهرية. فقد شعرن بالتمّكن وهن يحققن كل ما ترى ماترن أنه ينبغي عليهن تحقيقه. وكن يلعبن دورًا أساسيًّا في دعم أُسَرهن وأصدقائهن، وفي هذا الوقت، غالبًا ما يكنَّ قد وصلن إلى ذروة حياتهن المهنية، وكل ذلك أثناء المعاناة من هبات سخونة، وصعوبة النوم. في الواقع، تماثلت تجربتهن مع تجربة النساء المنتميات إلى ثقافات السكان الأصليين - التي من بينها مجتمعات حضارة المايا في تشيتشيميلا بالمكسيك - اللاتي تستشهد بهن ماترن في بحثها.

جذور مادية

تزعم ماترن - على ما يبدو - أنه ما لم تَخْتَبِر النساء جميعهن حالةً ما بالطريقة نفسها، فلا بد أن السبب في ذلك هو البِنْية الثقافية. وأنا أختلف معها في نقطتين؛ الأولى هي أن أي اختلاف في الطريقة التي تشعر بها النساء في مجتمعات مختلفة بأعراض معينة قد يعود إلى عدد من العوامل، التي قد تتنوع ما بين الاختلافات الجينية، أو الاختلاف في العادات الغذائية، أو المناخ، وصولًا إلى العوائق أمام منهجيات البحث، عبر اللغات والثقافات والفترات الزمنية المختلفة. والثانية هي أنه وردت هبات سخونة في دراسات كثيرة عن مرحلة انقطاع الطمث، منها دراسات أُجريت في ثقافات تقليدية، وهو ما استبعدته ماترن عندما أشارت – على سبيل المثال - إلى أن هذا العَرَض قد "استُقدِم" إلى بلدان، من بينها بنجلاديش.

تُغْفِل ماترن كذلك مجموعة الأدلة المتزايدة التي تشير إلى دور بِبْتيد عَصَبِيّ معين في حدوث هبات سخونة في مرحلة انقطاع الطمث (هو النيوروكينين B، ومستقبِله NK3R، الذي يربط الجهاز التناسلي المركزي بجهاز ضبط الحرارة، وهما جهازان يلعبان دورًا أساسيًّا في الخصوبة). وتلخص ماترن بالفعل الفرضية القائلة إن النساء في مرحلة انقطاع الطمث يملكن نطاقًا «حراريًّا محايدًا» متقلصًا، هو نطاق درجات الحرارة، الذي لا يحفز الشعور بالتعرق، ولا الارتجاف من البرد، إلا أن هذه الفرضية لا تزال محل جدل.

وتخلص ماترن إلى أن هبات سخونة هي غالبًا عرَض "نفسي جسدي"، لأن العقاقير الزائفة - أي «الدواء الوهمي» - يمكن أن تخفف من حدتها، غير أن تأثير الدواء الوهمي أُثبت في عدة دراسات بحثية، بمعزل عن الحالات محل الدراسة. ويبدو حجم هذا التأثير متشابهًا في العديد من الدراسات (وصلت نسبة التحسن في أعراض هبات السخونة حوالي 25%)، رغم اختلاف منهجيات البحث، والقطاعات السكانية التي يتناولها  للبحث.

وبالإضافة إلى ذلك.. أحيانًا ما تستعين الثقافات التقليدية والنساء الغربيات بالعلاجات العشبية؛ لعلاج هبات السخونة. وعند اختبار هذه العلاجات في التجارب الإكلينيكية الحديثة، لم يثبت بالأدلة القاطعة أنها أكثر فعالية من الأدوية الوهمية.

يقلل العلاج الهرموني التعويضي (HRT) الحديث حدة هبات السخونة بنسبة 80% تقريبًا. وترى ماترن أن المشورة الطبية بخصوص انقطاع الطمث يدفعها توافر العلاجات المربحة، إلا أن التوصيات تتغير مع ظهور معلومات جديدة، والوصول إلى المزيد من الفهْم بشأن مرحلة انقطاع الطمث. فعلى سبيل المثال.. جرى إيقاف تجربة مبادرة الصحة النسائية الأمريكية في أوائل عام 2002، بسبب المخاوف مِن تَزايُد خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان، منها سرطان الثدي. ظهر بعد ذلك اتجاهٌ ينادي بالابتعاد عن العلاج الهرموني التعويضي طويل المدى، الذي يعمل على منع الآثار السلبية الناتجة عن نقص هرمون الإستروجين، على العظام والقلب. وبدلًا من ذلك.. يوصف العلاج الهرموني التعويضي - في الغالب - لعلاج أعراض انقطاع الطمث (على وجه الخصوص لعلاج هبات السخونة)، ولمدة خمس سنوات فقط (انظر أيضًا: J. Marjoribanks et al. Cochrane Database Syst. Rev. http://doi.org/ f9vrsg; 2017).

يطرح كتاب «إطلالة القمر البطيء» فكرة جديرة بالتأمل بشأن الدور التطوري لفترة الحياة ما بعد سن الخصوبة، إلا أنني أرى أن تبَنِّي وجهة نظر هذا الكتاب عن انقطاع الطمث، بوصفه ظاهرة ثقافية تنشأ من الطب الحديث لهو أمر يخاطر بتشتيت الموارد المحدودة، بعيدًا عن إجراء المزيد من الأبحاث، بل قد يؤجج التهاون مع التطورات المَرَضِيّة للحالة، باعتبارها «مجرد انقطاع للطمث»، بدلًا من تسليط الضوء على حقيقة أن غالبية النساء يعانين من أعراض مزعجة. وهذا بدوره قد يمنع ملايين النساء من الحصول على العلاج والدعم، مما يحرمهن من فائدة مباشرة، لا علاقة لها بأي ميزة على المستوى التطوري.

جوليا براج طبيبة غدد صماء بريطانية، تعمل في الوسطين الإكلينيكي والأكاديمي، ومهتمة بعلاجات هبات سخونة، المرتبطة بانقطاع الطمث.

تويتر: julia_prague@

البريد الإلكتروني: juliaprague@doctors.org.uk