كتب وفنون

فيزياء: عن الأسلحة والفيزياء الفلكية

شارون واينبرجر تشيد بدراسةٍ عن العلاقة المتوترة بين العِلْم والحرب.

  • Published online:
الولايات المتحدة تختبر صاروخًا أمكن الاستيلاء عليه من ألمانيا من طراز «فاو-2» في عام 1946؛ وتلك هي التكنولوجيا التي مكّنت الولايات المتحدة من الهبوط على سطح القمر

الولايات المتحدة تختبر صاروخًا أمكن الاستيلاء عليه من ألمانيا من طراز «فاو-2» في عام 1946؛ وتلك هي التكنولوجيا التي مكّنت الولايات المتحدة من الهبوط على سطح القمر

UHA/UIG/Bridgeman Images

تمهِّد لحظةٌ فارقة من لحظات مراجعة النفس في السياق المهني للمشهد الذي رسمه عالِم الفيزياء الفلكية الأمريكي نيل ديجراس تايسون في أحدث كتبه، الذي يحمل عنوان «شريك في الحرب» Accessory to War. ففي عام 2003، كان تايسون ضمن الحاضرين في المؤتمر السنوى التاسع عشر لمؤسسة الفضاء في كولورادو سبرينجز بولاية كولورادو؛ وهو تجمُّع يجتذب مزيجًا من العلماء والعاملين في المجالين الصناعي، والعسكري من أصحاب الاهتمام المشترك بالكون. وحتى تلك اللحظة، كان تايسون يعتقد أن المؤتمر يركز فقط على الدراسة السلمية للفضاء، على الرغم من احتوائه على "القليل من تجارة السلاح على الهامش"، ولكنْ في تلك السنة تَزامَن المؤتمر مع بداية غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وفجأة، أدرك تايسون أن المؤتمر يمثل حقيقة أكبر، هي: الاصطدام والتواطؤ بين العلوم المدنية، والفضاء العسكري.

في هذا الكتاب – الذي ألّفه تايسون بالمشاركة مع الكاتب والباحث آفيس لانج – يبحث تايسون في العلاقة بين الجيش، وعلماء الفيزياء الفلكية – وكذلك علماء الفضاء، ومهندسي الفضاء الجوي، وآخرين في مجالات ذات صلة – بحثًا متعمقًا. ويُعَد تايسون الشخص المناسب لاستكشاف هذا الميدان، بوصفه عالِمًا بارزًا، وأحد رواد تبسيط العلوم الذين خدموا في هيئات تابعة للحكومة الأمريكية؛ ومن بينها هيئة تعمل على تعزيز صناعة الفضاء.

يتتبع كتاب «شريك في الحرب» المسيرة الملحمية المظفرة للدراسة العلمية للكون، بدءًا من علماء الفلك الأوائل في بلاد الرافدين القديمة، وعبر قرون من الاستكشاف والتقدم التكنولوجي. ويكشف لنا تايسون ولانج – بصدق صارم – كيف أن النظر إلى النجوم كان دومًا عِلْمًا «محضًا» من ناحية، وشريكًا في شن الحروب من ناحية أخرى. فبدايةً من خرائط النجوم وأدوات قياس الوقت (الكرونوجراف) إلى التليسكوبات والأقمار الصناعية، استخدمت الجيوشُ الآلات والاختراعات الفلكية لمئات السنين؛ وفي المقابل، نال علماء الفيزياء الفلكية التمويل والدعم الاستراتيجي. وقد كتب المؤلفان يقولان: "كل فريق من الفريقين يُعتبر مكملًا لاحتياجات الفريق الآخر، ومصالحه، وموارده".

تليسكوب جاليليو جاليلي.

تليسكوب جاليليو جاليلي.

Fine Art Images/Getty

عصر الاستكشاف

أصبح هذا النمط سائدًا في أوروبا في بدايات العصر الحديث، حين كان النهم الشديد إلى القوة، والاكتشافات، والتوسعات الجغرافية، دافعًا إلى التطور في مجال الفيزياء الفلكية. ففي القرنين الخامس عشر، والسادس عشر، أصبح مجال علم الفلك البازغ أداةً للهيمنة، تزامنًا مع استخدام الدول لمعارفها المتزايدة بالكون، والأدوات المستخدَمة لاكتشافه، مثل الأسطرلاب، لمساعدتها على الملاحة، واستكشاف البحار. كانت «الرحلات الاستكشافية» التي بدأها كريستوفر كولومبوس، وفرديناند ماجلان تغذي المعرفة، ولكنها تضمنت أيضًا أعمال عنف وقرصنة؛ فبحلول القرن السابع عشر، كانت سفن ضخمة "محملة بالبضائع والمَدافع" تملأ جنبات الممرات البحرية. وكما كتب تايسون ولانج، فقد كانت "أجندة الهيمنة التي وضعها بناة الإمبراطورية البريطانية" هي التي دفعت بعثة عام 1769 إلى رصد عبور كوكب الزهرة أمام الشمس على يد القبطان جيمس كوك، وعالِم النبات المؤيِّد للمذهب الطبيعي، جوزيف بانكس، وآخرين.ويرى المؤلفان أن التوق إلى الهيمنة لم يكن وحده المسؤول عن جعل الفيزياء الفلكية "الخادمة التاريخية" للحرب. فقد أدى ارتفاع أسعار المعدات إلى تعزيز العلاقة بينهما، ليصبح علم الفيزياء الفلكية معتمِدًا على هبات الدولة؛ فحتى جاليليو جاليلي سعى لنيل رعاية الدولة لاختراعه «المنظار»، أو «عدسة التجسس» spyglass، وذلك من خلال التوصية بفائدته في ميادين القتال. وقد استمر ذلك التعاون بين الفيزياء الفلكية، والجيوش عبر القرون. ففي أوج اشتعال الحرب العالمية الثانية، أنفق جيش ألمانيا النازية مبالغ طائلة من المال على تطوير الصواريخ «فاو-2» V-2، التي أُطلِقَت على بريطانيا، وعلى أهداف أخرى للمرة الأولى في عام 1944. وبعد أكثر من عقدين من هذا التاريخ، ساعدت التكنولوجيا ذاتها رواد الفضاء الأمريكيين في الهبوط على القمر. وكذلك أُطلقَت الأقمار الصناعية الخاصة بتصوير الأرض – والمستخدَمة حاليًّا في تحديد مدى إزالة الغابات، وفهْم التغير المناخي – للمرة الأولى في عام 1959 كجزء من برنامج «كورونا» السري للولايات المتحدة، الذي كان يهدف إلى مراقبة الاتحاد السوفيتّي عن كثب.

حَسَّن فيرنر فون براون (يمين الصورة) تكنولوجيا الصاروخ «فاو-2» إلى حد مذهل أثناء الحرب العالمية الثانية.

حَسَّن فيرنر فون براون (يمين الصورة) تكنولوجيا الصاروخ «فاو-2» إلى حد مذهل أثناء الحرب العالمية الثانية.

Ann Ronan Pictures/Getty

الحافز التنافسي

يعبِّر تايسون عن استعداده لتحدي بعض المعتقَدات الراسخة في مجال الفيزياء الفلكية، ولا سيما الافتراض القائل إنّ السعي إلى المعرفة هو ما يجب أن يدفع إلى الاستكشاف السلمي للعلوم. إنّ الواقع يختلف عن ذلك.. فالتنافس العسكري لم يؤد إلى استكتشاف الفضاء فحسب، بل إن غياب أي دافع عسكري من شأنه أن يقضي على مثل هذه الجهود. يقول تايسون ولانج: "في مواجهة خصم يستكشف الفضاء خلال سنوات الحرب الباردة، استطاعت الولايات المتحدة إرسال اثنى عشر رائد فضاء إلى سطح القمر". أما في وقت السلم، فالدولة ترسل رواد الفضاء "ليذهبوا بشجاعة إلى حيث ذهب المئات من قبلهم"؛ إلى محطة الفضاء الدولية في المدار المنخفض للأرض. وربما كانت هذه الفائدة الجانبية للمنافسة هي ما دعت تايسون إلى التحدث بشيء من القبول عن الفرع الجديد الذي يعتزم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استحداثه في الجيش (فرع قوات الفضاء).ويمضي المؤلفان إلى الزعم بأنّ علماء الفيزياء الفلكية هم "ضحايا السِّلْم المجهولون"؛ فانتهاء الحرب الباردة لم يبشر بعصر ذهبي للمساعي العلمية المزدهرة، بل على العكس من ذلك، أدى انتهاؤها إلى إلغاء عدة مشروعات أمريكية أساسية، مثل مشروع «المصادِم الخارق فائق التوصيل»؛ وهو مسرِّع الجسيمات الذي كان من المزمع إنشاؤه بالقرب من وكساهاتشي بولاية تكساس، والذي تم التخلي عنه في عام 1993. وإذا صيغ الأمر بهذه الطريقة، فهل يمكن القول إن علماء الفيزياء الفلكية لعلهم يتمنون نشوب الحرب، على الأقل إذا كانت ستجلب لهم منشأة علمية جديدة ورائعة؟

صَمْت صارخ

على الرغم من أن الكتاب مثير للتفكير والتأمل، إلا أنه يعتريه نقْص يدعو إلى الدهشة؛ إذ تغيب آراء «خادمات» اليوم بصورة كبيرة. فنتيجة لعدم إعطاء الفرصة للاستماع إلى آراء المزيد من العلماء، لا سيما أولئك الذين يتعاونون مع الجيش، غفل تايسون ولانج عن بعض الخفايا الدقيقة في التفاعلات بين الباحثين وصناع الحروب. فعلى سبيل المثال.. يصف تايسون ولانج قصة تليسكوب «أريسيبو» الراديوي، الذي مَوَّلَته وكالة الابتكار التقني، التابعة للبنتاجون – التي تسمَّى حاليًّا باسم «وكالة مشروعات الأبحاث الدفاعية المتقدمة»، «داربا» DARPA – في بورتوريكو؛ بهدف تعزيز الدفاعات المضادة للصواريخ. وقد كتبا يقولان إنه من الممكن استخدام هذا التليسكوب لقياس إشارات الرادار المنبعثة من الرؤوس الحربية، بحيث يساعد الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ على إسقاطها. وأردفا يقولان: "ويمكن أن يُستخدَم التليسكوب لأغراض خاصة بالفيزياء الفلكية على هامش ذلك". وفي الحقيقة.. كان العكس هو الصحيح. فقد أقر علماء البنتاجون - الأكثر ارتباطًا بالتليسكوب «أريسيبو» منذ زمن طويل - بأن التليسكوب ليس له استخدام حقيقي في مجال الدفاعات المضادة للصواريخ؛ ويدل ذلك على أن قيمته العسكرية كانت مجرد ذريعة صورية لإنشاء التليسكوب الذي كان الباحثون يعتقدون أنه سيكون مفيدًا للعلم. وبالتالي، كانت للأهداف العسكرية أهمية ثانوية. لقد قام العلماء بخداع رؤسائهم العسكريين.والأهم من ذلك.. أن إغفال الكتاب عرْض وجهة نظر علماء الفيزياء الفلكية الحاليين يترك لدى القارئ سؤالًا رئيسًا، هو: ما هي الصراعات الأخلاقية التي يواجهها العلماء، وكيف يبررون تعاونهم مع الجيش؟ هل يشعر هؤلاء العلماء بأي تأنيب ضمير عند استخدامهم تليسكوب «هابل» الفضائي، وهم يعلمون جيدًا أنه جرى تطويره كجزء من منظومة استخباراتية للتجسس؟ واللمحة الوحيدة التي يقدمها الكتاب عما يعتمل في نفس أحد علماء الفيزياء الفلكية هي معضلة تايسون الأخلاقية أثناء حضوره مؤتمر عام 2003 للفضاء، بينما كانت القنابل تنهال على بغداد.

ورغم شعور تايسون بالصدمة، إلا أنه لم يغادر المؤتمر، وهو يقول في كتابه إنه بدون الحرب "لن يكون هناك علم فلك، أو فيزياء فلكية، أو رواد فضاء، أو استكشاف للمجموعة الشمسية، أو أي فهْم للكون". وما نعرفه منه إذَن هو أن ارتباط الخادمة بسَيِّدتها – أيًّا كانت مثالب تلك السيدة – هو ارتباط لا تنفصم عراه، حتى بالنسبة إلى عالِم فيزياء فلكية يشعر بالغضب لأسباب أخلاقية.

شارون واينبرجر مؤلفة كتاب «متخيلو الحروب: القصة غير المروية لـ«داربا»، الوكالة التابعة للبنتاجون، التي غيرت وجه العالم» The Imagineers of War: The Untold Story of DARPA, the Pentagon Agency That Changed the World.

البريد الإلكتروني: sharonweinberger@gmail.com