كتب وفنون

الرعاية الصحية: رؤية للشيخوخة عمرها 2000 عام 

ستانلي إم. برستين، وكاليب إيه. فينش يكشفان كيف كان لعمل كلاسيكي للطبيب اليوناني جالينوس السَّبْق في مفهوم "المدى الصحي"

  • Published online:

Credit: Peter Paul Rubens/Wellcome/CC BY

كيف نظر القدماء إلى الشيخوخة؟ اعتبر الكثيرون في الغرب الكلاسيكي الشيخوخة مرضًا، إلا أن الطبيب اليوناني البارع جالينوس كانت له رؤية مختلفة؛ إذ قام في رسالته التي تحمل عنوان «علم الصحة» Hygiene – التي كُتِبَت في حوالي عام 175م، والتي ما زالت تمثل الدراسة الكلاسيكية الوحيدة المتبقية عن علم الشيخوخة – بتصوير الشيخوخة على أنها عملية طبيعية، يمكن التخفيف من آثارها، بل وحتى تأخيرها عبر اتباع إجراءات وقائية، مثل النظام الغذائي. لذا.. فإن هذه الرسالة – المعروفة أيضًا باسم «عن الوقاية الصحية» De sanitate tuenda – تتوافق إلى درجة مذهلة مع الأفكار المعاصرة، فيما يتعلق برعاية المسنين (gerokomica باليونانية القديمة)، وكذلك بنماذج الشيخوخة.

تمثل ترجمة إيان جونستون المتميزة لرسالة «علم الصحة» أفضل تقدير حتى الآن لهذا العمل الكلاسيكي؛ لا سيما مع ما أضافه من مقدمة ثرية بالمعلومات الطبية (إذ إن جونستون جراح أعصاب سابق). وألحقت الرسالة بأرشيف كتابات جالينوس الطبية المذهل، التي تمثل قرابة 10% مما تبقى من الأدبيات اليونانية القديمة.

وحسبما يوضح جونستون، فقد نظر جالينوس إلى الشيخوخة نظرة شاملة، معتبِرًا إياها عملية تمتد طوال العمر، وتمر بعدة مراحل، منها ثلاث مراحل حاسمة: مرحلة السنوات السبع الأولى من الحياة، ومرحلة النضج، ومرحلة الشيخوخة الفعلية. وقد أدرك جالينوس أن "مسار" الشيخوخة لدى الإنسان هو مسار فردي للغاية، يتضمن مجموعة واسعة من النتائج الصحية المحتملة في كل مرحلة. وكذلك أدرك أهمية الصحة في فترة الشباب كأساس لشيخوخة سليمة.

لم يصل جالينوس إلى ما تميز به من إبداع ورؤية ثاقبة إلا بالكد والتعب، على حد وصف المؤرخة سوزان ماتيرن في ترجمة حياته التي صدرت في عام 2013 بعنوان «أمير الطب» The Prince of Medicine. لقد كتب رسالته «علم الصحة» وهو في ذروة حياته المهنية، كطبيب للإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس، غير أن طريقه إلى هذه المكانة الرفيعة حتّمت عليه الترحال من مدينة بيرجامون اليونانية (تركيا المعاصرة) إلى مدينة الإسكندرية في مصر، حيث أتقن فنون سابقيه، مثل: أبقراط، وهيروفيلوس. ولما صار طبيبًا وفيلسوفًا مرموقًا، اسُتدعيَ إلى روما.

اعتنق جالينوس عددًا من النظريات الطبية السائدة، منها مفهوم الأخلاط – القائم على سوائل الجسم، مثل الدم - والخصائص العلاجية للأحلام المستنِدة إلى الوحي الإلهي، لكنه كان رائدًا أيضًا في مجال الدراسة التجريبية لوظائف الجسم البشري وأمراضه.

طوَّر جالينوس علاجات باستخدام الأعشاب والتوابل، وكان يعطيها إلى زملائه الأطباء؛ للتحقق من جدواها. وفي وقتٍ كان تشريح الجثث فيه من المحظورات الدينية، توصّل جالينوس إلى طرق مبتكرة لدراسة التشريح؛ فدرس الهياكل العظمية المكشوفة في المقابر التي غمرتها الفيضانات. وأثناء معالجته للجروح المروعة التي كانت تصيب المصارعين، كان يفحص عضلاتهم، وأوعيتهم الدموية المكشوفة. وبدافع من شخصية طموحة تجيد الترويج لأعمالها، كان يستمتع بإجراء العروض التشريحية على الحيوانات، ومنها عمليات التشريح العلنية المرعبة على قرود المكاك البربري الحية؛ لإظهار وظيفة الأعصاب.

وانطلاقًا من هذه السعة في العلم، والعمق في التفكير، فإنه لا يستغرب أن تبدو الكتب الستة التي تتكون منها رسالة «علم الصحة» وكأنها سلسلة من المحاضرات بالنسبة إلى طلاب الطب المتقدمين. ومن المثير للانتباه أن جالينوس يفترض أن قُرّاءه مطلعون على مجموعة الرسائل السابقة، إلا أن المفاجأة تكمن في مدى مخالفة جالينوس لسابقيه من المفكرين فيما ذهبوا إليه بشأن المدى العمري والشيخوخة. ففي القرن السادس قبل الميلاد، كان السياسي الآثيني سولون ينظر إلى الشيخوخة نظرة مختزلة، باعتبارها آخِر مرحلة من بين عشر مراحل حياتية، يبلغ طول كل مرحلة منها سبع سنوات. أما مفهوم جالينوس الأكثر دقة، فقد زاد في تقسيم المرحلة الأخيرة من نموذج المدى العمري إلى ثلاث مراحل فرعية غير محددة الطول، تبدأ من الشيخوخة النشطة، منتهية إلى الخرف. وقد ذهب إلى أن "أسباب التلف" متأصلة "بالفطرة منذ البداية".

رأى جالينوس أن رعاية المسنين جزء لا يتجزأ من عمل الطبيب الأريب، كما آمَن بأهمية تركيزها على مبدأ الوقاية، وأشار إلى أن العديد من أمراض الشيخوخة — مثل الدوار، والتهاب العين، وآلام الأذن — يمكن تأخيره أو احتواؤه؛ لتحقيق أقصى قدر من جودة الحياة.

ولعل أطباء اليوم يوصون مرضاهم باتباع نظام جالينوس «المضاد للشيخوخة»؛ فقد حث على المشي والركض المعتدل، وأشار إلى الفوائد الصحية لاتباع نظام غذائي بسيط، يشتمل على العصيدة، والعسل الخام، والخضراوات، والطيور. ومن المثير للاهتمام أنه يفصل باستفاضة أنواع النبيذ المناسِبة لكبار السن، وينصحهم بالاقتصار على النبيذ "الأصفر"، وتحرِّي اختيار القوام الأخف دائمًا. وشدد جالينوس على فوائد العلاجات المعتدلة، مع تجنب عمليات التطهير القوية ونزف الدماء، والسماح بالتدليك اللطيف لعلاج مشكلات الكلى والمثانة. وعلى الرغم من  أن رسالته «علم الصحة» لا تتطرق بالتحديد إلى أمراض الشيخوخة، إلا أنه في كتب أخرى، مثل كتاب «إلى ثراسيبولوس» To Thrasyboulos، ذكر علاجات متقدمة للغاية، مثل العمليات الجراحية لعلاج إعتام عدسة العين.

كان جالينوس قاسيًا في سخريته من فيلسوفٍ لم يذكر اسمه، ادّعى أنه يستطيع إطالة العمر إلى أجل غير مسمى؛ ذلك الحلم الذي لا زالت أصداؤه تتردد في عصرنا هذا (انظر: M. Baker Nature 517, 436–437; 2015). أكد جالينوس أن الموت أمر حتمي، لأن "الجسم يتدهور من تلقاء نفسه"، بيد أنه أشار إلى أنه يمكن إطالة الحياة. ففي زمنٍ كان الكثيرون يتوفون فيه قبل بلوغ سن السبعين بمدة طويلة، استشهد بحالتين عَمَّرَتا طويلًا: أنطيوخوس، وهو طبيب ظل يمارس مهنته وهو في الثمانينات من عمره، والنحوي تلفوس، الذي بلغ من العمر قرابة مائة سنة، وظل متمتعًا بسلامة حواسه. أشار جالينوس إلى أن نجاحهما في إطالة عمريهما يجسد نجاح المبادئ المنصوص عليها في رسالته «علم الصحة»؛ بل كان يَعتقِد أن الوسائل المذكورة في هذه الرسالة قد أسهمت في إطالة عمره هو ذاته (وقد قيل إنه عَمَّر حتى بلغ الثمانين).

عانت الآراء الرائدة الواردة في رسالة «علم الصحة» من مصير متباين بعد وفاة جالينوس في عام 210م تقريبًا؛ فقد أدرجت الرسالة ضمن المناهج الطبية الغربية بحلول سنة 500م، وترجمها حنين بن اسحاق إلى العربية في القرن التاسع، إلا أن مبادئ جالينوس الرئيسة حول رعاية المسنين حُذِفَت من مختصر رسالة «علم الصحة»، الذي ضَمَّنه العالِم الفارسي الموسوعي ابن سينا في عام 1025 في كتابه «القانون في الطب»، وفي الأعمال التي تبعته، مثل كتاب جون فلوير في عام 1724 بعنوان «الفن الجالينوسي في الحفاظ على صحة كبار السن» Medicina Gerocomica، ولم تتم إعادة اكتشاف نهج جالينوس الشامل في رعاية المسنين (Gerocomica)، باعتباره سبيلًا لتحسين "المدى الصحي" — أي المدى الزمني الذي يتمتع خلاله الشخص بصحة مثلى — إلا مؤخرًا نسبيًّا.