كتب وفنون

الآثار المدمرة للبعوض الفتاك

تقدم كارين ماسترسون تقييمًا لدور هذه الحشرات الناقلة للأمراض في التاريخ العلمي، والعسكري. 

كارين ماسترسون
  • Published online:
صورة ملتقَطة بتقنية التعرض المتعدد لبعوضة من نوع Anopheles punctipennis، معروضة في متحف التاريخ الطبيعي، التابع لمعهد سميثسونيان في واشنطن العاصمة.

صورة ملتقَطة بتقنية التعرض المتعدد لبعوضة من نوع Anopheles punctipennis، معروضة في متحف التاريخ الطبيعي، التابع لمعهد سميثسونيان في واشنطن العاصمة.

SARAH L. VOISIN/WASHINGTON POST/GETTY

الوَحْش الأكثر فتكًا على الإطلاق على سطح هذا الكوكب يضاهي وزنه وزن ريشة، ألا وهو البعوض. فمِن بين الأمراض العديدة التي تنقلها هذه الحشرات؛ مثل داء الخيطيات، والحُمَّى الصفراء، وحمى الدنك، وفيروس زيكا، وحمى غرب النيل، حصد مرض الملاريا وحده أرواح 435 ألف شخص في عام 2017؛ فكان من المحتَّم أن يستمد الكثيرون من مؤلفي الكتب الإلهامَ من هذه الحشرات. فما الذي قد يضيفه كتاب «البعوضة» The Mosquito الضخم، البسيط في عنوانه إلى هذه المدونة؟ الإجابة هي: الكثير.

عبر هذا الكتاب، يصطحب المؤرخ العسكري، تيموثي واينجارد، القراء في مغامرة مثيرة، يوثِّق فيها الدور الهائل الذي لعبه البعوض في الحروب والنزاعات منذ القِدم. فبداية من الإمبراطوريات الكبرى، ووصولًا إلى مناطق الحروب المعاصرة، يوضح الكتاب كيف كانت الغلبة للجيوش المدافِعة، التي تمكنت من إيقاف الغزاة، ومحاصرتهم في مستنقعات تعج بالبعوض، حيث استُنزفت قواهم بفعل أنواع الحمى، وبالدرجة الأولى الملاريا، والحمى الصفراء، وحمى الدنك. ومن خلال هذا المنظور، يشرح الكاتب - بتفاصيل دقيقة إلى حدّ مذهل - قصص صعود القوى العظمى، وسقوطها.

نتعلم من الكتاب أحداث انهيار القوات الفارسية في اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما أجبرها تحالُف من الأثينيين والإسبرطيين على دخول المستنقعات، قبل اندلاع معركة «بلاتيا» Plataea، حيث فتك مرض الملاريا (الذي ينقله بعوض الأنوفيليس Anopheles) بجانب مرض الزحار بـ40% من قوام الجيش الفارسي. وبهذه الطريقة.. حرر «الجنرال أنوفيليس» – كما يكتب واينجارد كنايةً عن البعوض – اليونانيين من الحكم الفارسي، وأتاح ازدهار الفلسفة والعلوم والفنون اليونانية، فيما يُعرف بـ«العصر الذهبي»، الذي مهد الطريق جزئيًّا لنشأة الحضارة الغربية.

ويروي واينجارد أيضًا دور البعوض في سقوط روما. فعلى مدى مئات السنين، حتى القرن الخامس الميلادي، شكلت "مستنقعات بونتين" الزاخرة بطفيل الملاريا حول روما حائط صد منيعًا ضد هجمات القرطاجيين، والقبائل الجرمانية، وشعب الهون، لكنها أضعفت المواطنين الرومان. وعلى مدى الثلاثمائة عام التالية، ساعدت الملاريا أيضًا على ترسيخ أقدام الإمبراطورية الرومانية المقدسة، إذ استقبلت المستشفيات التابعة للكنائس المسيحية حشود المصابين بعدوى الملاريا؛ وهو ما ساعد على التبشير بمذهب رعاية، نجح في استمالة عقول الوثنيين وقلوبهم، ومهّد الطريق - في نهاية المطاف - لمطالبة الإمبراطور شارلمان بحكم أوروبا. وامتد هذا التأثير عبر التاريخ حتى حرب فيتنام، عندما جعلت الأمراض التي ينقلها البعوض الاحتلال الأمريكي للغابات الشمالية الواقعة تحت سيطرة الفيتناميين ضربًا من المستحيل.

ورغم أن أسلوب واينجارد يبدو - في بعض الأحيان - فضفاضًا وغير علمي، فهو جذاب. كما أنه يتناول بعض البحوث بشكل جيد؛ مثل أسباب انتقائية البعوض في لدغ البشر. (فرغم عدم وجود دليل علمي دامغ حتى الآن، فإن الأدلة تشير إلى أن 20% من الأشخاص يتعرضون لـ80% من لدغات البعوض؛ انظر:T. A. Perkins et al. PloS Comput. Biol.9, e1003327; 2013). ورغم ذلك، ففي النهاية، يبقى واينجارد أقوى المؤلفين في عرض تأثيرات الملاريا التي غيرت العالَم؛ ليس فقط على مستوى ازدهار الإمبراطوريات وسقوطها، لكنْ أيضًا في مجالات بعينها؛ مثل العلاقة التي تربط بين علم الوراثة، والمجتمع، والسياسة.

وعلى سبيل المثال، يناقش واينجارد العلاقة بين تجارة العبيد عبر الأطلسي، والمقاومة الجينية للمسبب المرضي للملاريا، ألا وهو طُفيل «المتصورة النشيطة» Plasmodium vivax. فالمستضد «دافي» Duffy الموجود على خلايا الدم الحمراء هو المستقبِل الخاص بالعامل المسبِّب للمرض؛ طفيل «المتصورة النشيطة»، وبالتالي فهو يساعد على بداية الإصابة بالعدوى. ومن ثم، فإن كل مَن لا يوجد لديه هذا المستضد يكون مقاوِمًا لعدوى الملاريا، ويشمل هذا 95% ممن ينحدرون من أصول غرب أفريقية. وقد جاء أغلب من رزحوا تحت وطأة العبودية في الأمريكتين من هذه المنطقة. وفي مفارقة مروعة، أدّت مقاومتهم للمرض – التي لاحظها أصحاب المَزارع – إلى تزايد الطلب على عِمالتهم، وغدت محركًا قويًّا لتجارة الرقيق.

يفيض أسلوب واينجارد بالحماس لموضوعه. ورغم ذلك، تأتي أحيانًا انتقاداته لوجهات النظر التي يريد منا أن نلفظها بثمن، ألا وهو إغفال بعض الفروق البسيطة، والدقة. وخير مثال على ذلك هو سرده لفصل مروع من الحرب العالمية الثانية، عندما قامت كل من ألمانيا النازية والولايات المتحدة بإجراء تجارب على البشر؛ للتوصل إلى علاج للملاريا.

ويستشهد واينجارد بكتابي («مشروع الملاريا» The Malaria Project، 2014)، الذي يروي بالتفصيل كيف قام اختصاصي الملاريا الألماني كلاوس شيلينج بنقل عدوى الملاريا عمدًا إلى ألف سجين تقريبًا في معسكر الاعتقال «داخاو» Dachau. ويزعم واينجارد أن 400 من هؤلاء السجناء قد لقوا حتفهم نتيجةً لذلك. وقد أظهر بحثي أن 38 شخصًا قد توفوا في جناح المستشفى الخاص بشيلينج؛ بسبب آثار دواءين شديدَي السُّمِّيَّة. وربما قتلت حُمّى التّيفُوس، والزحار آخرين، بمجرد خروجهم من المستشفى، وإعادتهم إلى الثكنات.

وفي الوقت ذاته، يهوِّن واينجارد من حقيقة قيام أكثر من 100 طبيب أمريكي بالشيء نفسه في الوقت نفسه، وعلى نطاق أوسع بكثير، إذ أجروا التجارب على 10 آلاف مجند وسجين في ستة مستشفيات حكومية وثلاثة سجون، بما فيها إصلاحية «ستاتفيل» Stateville سيئة السمعة، التي تقع خارج مدينة شيكاغو بولاية إلينوي. ويُقَدَّر أن عدد القتلى كان بين 10%، و30%. وعن طريق التغاضي عن ذِكر هذه القصة الصادمة من التاريخ الطبي الأمريكي، يُغفِل واينجارد نموذجًا تطبيقيًّا مهمًا للإطار الموضوعي لكتابه، وهو أن هذه الحشرة - على وجه التحديد - قد دفعت أعدادًا كبيرة من الأطباء إلى إجراء تجارب وحشية، وميئوس منها طبيًّا.

مرة أخرى، لا يتحرى واينجارد الدقة عندما يؤكد أن التقنيات الحديثة ستقضي عن قريب على البعوض نهائيًّا. وبعض الطرق العلمية واعد بالفعل؛ فعلى سبيل المثال، يبين بحث منشور في دورية Nature، في شهر أغسطس، كيف استُخدم التعرض للأشعة، والعدوى البكتيرية؛ لإبادة بعوض النمر (Aedes albopictus) بصورة شبه نهائية من جزيرتين نهريتين في الصين (X. Zheng et al. Nature 572, 56 – 61; 2019). ورغم ذلك، شَكَّك اختصاصي البعوض، بيتر أرمبروستر، في إمكان توسيع نطاق هذا العمل، وفي أثره على استدامة البيئة (P. A. Armbruster Nature 572, 39 – 40; 2019)، لكن الأكثر تعقيدًا هو استخدام تقنية «كريسبر» CRISPR، وتقنيات الإجبار الجيني، حيث يوَرِّث البعوض المُربَّى في المختبرات جينًا معدلًا إلى أجيال من البعوض البري، وهي فكرة لا تزال نظرية.

وأخيرًا، تأتي قضية رأي واينجارد في هذه الحشرات. فهو يراها من منظور بشري صِرف، ويعتبرها عدوًّا للبشر، ليس له أي دور آخر في الطبيعة، فزَعْم وجود حوالي 3 آلاف نوع من البعوض بلا هدف، سوى أن يقوم بدور "المفترس الذي يعتلي قمة الهرم الغذائي" هو ادعاء جريء، لكنه يستند إلى أسس علمية غير موثوقة.

هذا، وتبقى وجهات نظر واينجارد الأهم قيمةً في كتابه «البعوضة»، وقائمة على أعمال موثوقة لعلماء وباحثين. فمنذ أن هجر «الإنسان العاقل» Homo Sapiens أعمال الصيد وجمع الثمار، دفعنا ثمنًا فادحًا من جرّاء التصادم مع الطبيعة. ومع قيامنا بتدمير الغابات، وزراعة الحقول، وتغيير شكل بيئتنا، أنشأنا موائل مثالية لتكاثر البعوض وانتشاره. والأهم من ذلك، بناءً على منظور واينجارد، أنه في الوقت الذي ندمر فيه الأرض بالأسلحة، ونُنْزِل جيوشًا كبيرة في المستنقعات، نهيئ ظروفًا مثالية للبعوض لنشر الأمراض. ويوضح واينجارد - بناءً على وجهة نظر سديدة - أن الإنسان يساعد أنواع البعوض على التنوع، والتكيف، والنمو، في الوقت الذي نعيد فيه تشكيل الكوكب.

وعندما يستهدفنا البعوضُ؛ بحثًا عن الدم، فإنه ينقل جميع الميكروبات التي تطور ليحملها. ولم يعد لدينا خيار سوى المقاومة. إننا – بهذا المعنى – نخوض حربًا ضد البعوض؛ بدءًا من حملات الصحة العالمية، التي تتكلف عدة مليارات من الدولارات ضد الأمراض التي ينقلها البعوض، والتي يأتي معظم تمويلها من الدول الغنية، من خلال عقد اتفاقات دولية، ومن جهات متبرعة؛ مثل مؤسسة «بيل آند ميليندا جيتس» Bill & Melinda Gates، وصولًا إلى المبيدات التي يرشها كثيرون في أفنية منازلهم. ويتحكم البعوض في سلوكنا، لأننا لم نسيطر عليه بعد. وتَحمِلنا نبرة واينجارد الجادة في هذا الشأن إلى الشعور بالدرجة المطلوبة بأهمية إجراء أبحاث، واتخاذ تدابير؛ لمجابهة خطر البعوض. 

 كارين ماسترسون أستاذة الصحافة العلمية في جامعة ستوني بروك، ومؤلفة كتاب «مشروع الملاريا» The Malaria Project، وهو سرد تاريخي لحملة الحكومة الأمريكية لكبح جماح الملاريا في أثناء الحرب العالمية الثانية.