كتب وفنون

التوحد: تواطؤ هانز أسبرجر مع النازية

سايمون بارون-كوين يحلل النتائج الخطيرة التي كشفت عنها دراسة تتناول طبيب أطفال، حُفر اسمه في تاريخ التوحد.

سايمون بارون-كوين
  • Published online:
جناح في عيادة «أَم شبيجلجروند» في فيينا في أربعينيات القرن العشرين.

جناح في عيادة «أَم شبيجلجروند» في فيينا في أربعينيات القرن العشرين.

COURTESY OF THE DOCUMENTATION CENTRE OF AUSTRIAN RESISTANCE.

لطالما اشتهر طبيب الأطفال النمساوي هانز أسبرجر بوصفه أحد رواد دراسة التوحد، بل إنه اعتُبر بطلًا؛ إذ أنقد الأطفال الذين يعانون من هذه الحالة من برنامج القتل النازي، عن طريق تأكيده على ذكائهم، إلا أنه قد ثبت الآن بما لا يدع مجالًا للشك أن أسبرجر ساعد في قتل الأطفال المعاقين تحت حُكم الرايخ الثالث.

وقد وثَّق المؤرخ هيرفيج تشيك ذلك توثيقًا كاملًا في عدد شهر إبريل 2018 من دورية «موليكيولار أوتيزم» Molecular Autism (وهي مجلة علمية، أشارك في تحريرها؛ انظر: H. Czech Mol. Autism 9, 29; 2018). وفي الوقت الراهن، يستند الكتاب المميز للمؤرخة إيديث شيفر، الذي يحمل عنوان «أطفال أسبرجر»  Asperger’s Children إلى دراسة تشيك، مضيفة إليها عملها البحثي الجديد. تثبت شيفر بالحجة أن الأفكار الأساسية للتوحد ظهرت في مجتمع سعى إلى إيجاد نسخة مناقِضة من التنوع العصبي.

تلقي هذه النتائج بظلالها على تاريخ التوحد، الذي شهد بالفعل صراعًا طويلًا نحو التشخيص الدقيق، والقبول المجتمعي، والدعم. كذلك تثير هذه النتائج الكثير من الجدل في أوساط المصابين بالتوحد، وأُسَرهم، والباحثين، والمعالجين الإكلينيكيين، حول ما إذا كان يجب التخلي عن المسمى التشخيصي لـ«متلازمة أسبرجر»، أم لا.

في عام 1981، نشرت الطبيبة النفسية لورنا وينج ورقة بحثية في مجلة «سايكولوجيكال ميديسين» Psychological Medicine، لفتت فيها - للمرة الأولى - انتباه العالَم الطبي الناطق بالإنجليزية إلى ملاحظات أسبرجر الإكلينيكية، وصكت مصطلح «متلازمة أسبرجر»، (L. Wing Psychol. Med. 11, 115–129; 1981). وبعد مرور عقد من الزمان، وفي كتاب «التوحد، ومتلازمة أسبرجر» Autism and Asperger (1991) Syndrome، ترجمت عالمة النفس التطورية يوتا فريث إلى الإنجليزية بحثًا كَتَبه أسبرجر في عام 1944، زعم فيه اكتشافه مرض التوحد.

وأخيرًا، في عام 1994، أقرّت «الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين» APA تشخيص متلازمة أسبرجر في النسخة الرابعة من «الدليل التشخيصي والإحصائي» DSM الذي تصدره الجمعية. تتسم المتلازمة بنقاط قوة، مثل الاهتمامات العميقة والمركّزة على نحو غير عادي، إضافة إلى تحديات التواصل الاجتماعي والتفاعل لدى الأشخاص ذوي مستوى الذكاء المتوسط، أو فوق المتوسط، والذين ليس لديهم تاريخ من التأخر اللغوي. (في نسخة عام 2013 من الدليل، حذفت الجمعية متلازمة أسبرجر، واستبدلت بها فئة واحدة، هي «اضطراب طيف التوحد»).

«أطفال أسبرجر: أصول التوحد في فيينا النازية» Asperger’s Children: The Origins of Autism in Nazi Viennaإإديث شيفردار نشر «دبليو. دبليو. نورتون»، 2018

«أطفال أسبرجر: أصول التوحد في فيينا النازية» Asperger’s Children: The Origins of Autism in Nazi Viennaإإديث شيفردار نشر «دبليو. دبليو. نورتون»، 2018

وفي خضم التنقيب الحديث في السياق التاريخي الأعمق لأعمال أسبرجر، تكمل شيفر بعض أجزاء القصة التي توقّعها جون دونفان، وكارين زوكر في سردهما لتاريخ التوحد في كتاب «في أساس مختلف» In a Different (2016) Key، انظر B. Kiser Nature 530, 159; 2016، الذي أشار إلى نتائج تشيك المبكرة. وتكشف شيفر أن الهدف النازي المتمثل في بناء مجتمع «نقي» - عن طريق قتل الأشخاص الذين رأوا أنهم لا يستحقون الحياة – أدى بصورة مباشرة إلى «الهولوكوست».

وتكشف شيفر، بفضل بصيرتها النافذة، وما أَجْرَته من بحث تاريخي دقيق، كيف أن الطب النفسي – الذي كان قائمًا فيما سبق على الرحمة والتعاطف – تحوَّل في ظل نظام هتلر إلى جزء من الجهود الرامية إلى تصنيف سكان ألمانيا، والنمسا، وغيرهما إلى فئتين، هما: لائق، وغير لائق «جينيًّا». وفي سياق برامج «القتل الرحيم»، تحتم على الأطباء النفسيين والأطباء الآخرين تحديد مَن سيعيش، ومن سيُقتَل. وفي هذا السياق ابتُكرَت أوصاف تشخيصية، مثل مصطلح «السيكوباتية التوحدية»، الذي (صَكَّه أسبرجر).

تعرض شيفر الأدلة المستمدة من مصادر مثل السجلات الطبية، وخطابات الإحالة، التي توضح أن أسبرجر كان مشاركًا مع آلة القتل النازية. لقد حمى الأطفال الذين اعتبرهم أذكياء، لكنه أحال أيضًا العديد من الأطفال إلى عيادة «أَم شبيجلجروند» في فيينا، التي كان يعلم - دون شك - أنها مركز للقتل الرحيم للأطفال، في إطار ما أطلق عليه لاحقًا اسم «العملية تي4» Aktion T4.

في ذلك المكان، كان الأطفال الذين صنّفهم الأطباء النازيون على أنهم «أدنى جينيًّا» يتعرضون للقتل، لأنهم كانوا يُعتَبرون غير قادرين على الانسجام الاجتماعي، أو يعانون من حالات بدنية أو نفسية تُعَد غير مرغوبة. كان البعض منهم يُجَوَّعون، في حين يُحقَن البعض الآخر على بحُقَن قاتلة. وكانت حالات وفاتهم تُسجَّل على أنها ناتجة عن عوامل بعينها، مثل الالتهاب الرئوي.

وترى شيفر أن أسبرجر دعَّم الهدف النازي المتمثل في القضاء على الأطفال الذين اعتُبروا غير لائقين للعيش مع «الجماعة»؛ ذلك التصور الفاشي الذي ينادي بمجتمع آرِيّ متجانس.

أورد كل من تشيك وشيفر تفاصيل عن طفلتين، لا تربطهما صلة قرابة؛ وهما: هيرتا شرايبر، وإليزابيث شرايبر، مع خطابَي إحالة، وقّع عليهما أسبرجر بنفسه. وفي الخطابين، برَّر طبيب الأطفال إحالة هيرتا إلى عيادة «أَم شبيجلجروند» بأنها "حتمًا تمثل عبئًا لا تطيقه أمها"، بينما أحال إليزابيث لأنها "تمثل عبئًا لا يمكن أن تتحمله أُسْرتها". وهذان الخطابان يعدان دليلًا يكافئ التوقيع بنفسه على أمر إعدامهما.

تعرَّض ما يقرب من 800 طفل للقتل في عيادة «أَم شبيجلجروند»، وواصل أسبرجر تمتُّعه بمسيرة أكاديمية طويلة، حتى وفاته في عام 1980.

يتفق كتاب «أطفال أسبرجر»، وبحث تشيك على الاستنتاج ذاته. وأنا شخصيًّا لم أعد أشعر بالارتياح تجاه تسمية التشخيص على اسم هانز أسبرجر. وعلى أي حال.. تحولت هذه الفئة إلى فئة «غير ذات أهمية» في أحدث إصدار من «الدليل التشخيصي والإحصائي»، (المستخدم في الولايات المتحدة). وسوف تسير الدول الأوروبية على نفس الخطى في العام الجاري (2019) في النسخة الحادية عشرة من «التصنيف الدولي للأمراض».

وبالطبع، يجب أن يخضع الاستخدام المستقبلي للمصطلح إلى نِقاش يشارك فيه المصابون بالتوحد. فالكثير منهم يفخر بمصطلح «متلازمة أسبرجر»، بوصفه جزءًا من هويتهم؛ إذ يشعر الكثير منهم بأنه يشير إلى شخصيتهم، وأسلوبهم الإدراكي، الذي لن يتغير ببساطة بالطبع، بسبب بعض النتائج التاريخية التي كُشف عنها مؤخرًا. لذا.. فهم ربما لا يرغبون في التغيير. وقد كتب البعض الآخر عن تحولهم إلى استخدام مصطلح «التوحد»، (أو «اضطراب الطيف التوحدي»، أو «حالة الطيف التوحدي») لوصف حالاتهم.

ومراعاةً للإيجاز والحيادية، أفضِّل استخدام مصطلح «التوحد» فحسب، لكنْ بسبب التباين الكبير وسط مَن يعانون من التوحد، أعتقد أنه قد يكون مفيدًا لهم ولأُسَرهم – إلى جانب باحثي التوحد، والمعالجين الإكلينيكيين، والمهنيين ذوي الصلة – أن يناقشوا ما إذا كان يتعين استحداث فئات فرعية، أم لا.

حين صكّت وينج مصطلح «متلازمة أسبرجر»، لم يكن أحد منا على دراية بدعم هانز أسبرجر النشط للبرنامج النازي. ونتيجة للأبحاث التاريخية التي أجرتها شيفر وتشيك، نحن بحاجة الآن إلى مراجعة وجهات نظرنا، وربما لغتنا أيضًا. وينبغي أن يقرأ كتاب «أطفال أسبرجر» طلاب علم النفس، والطب النفسي، والطب، كي نتعلم من التاريخ؛ ولا نكرر أخطاءه الشنيعة. وما يكشفه هذا الكتاب من حقائق يذكِّرنا بقوة بأن الرحمة يجب أن تكون الأولوية القصوى لكل من البحوث والممارسات الإكلينيكية.

سايمون بارون-كوين مدير مركز أبحاث التوحد في جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، ورئيس الجمعية الدولية لأبحاث التوحد.

البريد الإلكتروني: sb205@cam.ac.uk