كتب وفنون

فيزياء كمية: رحلة طويلة شاقة عبر العالم الاحتمالي

تستمع ناتالي وولتشوڤر بتصدي فيليب بول للأسئلة المراوِغة حول الثورة الكمية.

ناتالي وولتشوڤر
  • Published online:
شريحة حاسب آلي، ابتكرتها «جوجل ريسيرش» Google Research؛ لمعالجة البيانات باستخدام البِتّات الكَمّية (qubits).

شريحة حاسب آلي، ابتكرتها «جوجل ريسيرش» Google Research؛ لمعالجة البيانات باستخدام البِتّات الكَمّية (qubits).

 Greg Kendall-Ball/Nature

يتطلب الأمر عناية بالغة، كي تتعامل مع التناقض الذي يكتنف وصف شيء لا يستوعبه أحد في الواقع، إلا أن فيليب بول - كاتب العلوم، الذي يتوخى الدقة والبساطة، والمحرر السابق في Nature – تمكّن - إلى حد بعيد - من بلوغ هذا المطمح في كتابه الثالث والعشرين «ما يفوق الغرابة» Beyond Weird، الذي يُعتبر تقريرًا واضحًا ومتعمق البحث عما هو معروف عن القوانين الكميّة للطبيعة، وكيفية التفكير فيما قد تعنيه حقًّا.

إنّ النظرية الكمية، الناشئة في أوائل القرن العشرين على أيدي ماكس بلانك، وألبرت أينشتاين، ونيلز بور، وغيرهم من الشخصيات الملهِمة، تسلب "الواقع" معناه المعتاد، حيث تفيد بأنه لا يوجد شيء مُؤكَّد عن الذرات أو الجسيمات الأساسية، حتى تخضع للقياس. فموقع الجسيم - على سبيل المثال - هو مسألة احتمالية، ويتحدد من خلال «دالة موجية» منتشرة وتجريدية، إلى أن تتسبب عملية البحث عن الجسيم بطريقة أو بأخرى في تراجع الدالة الموجية لنقطة واحدة، مما ينتج عنه تكوُّن حقيقة وحيدة. وكما قال عالِم الفيزياء النظرية جون ويلر، فإننا نسكن "كونًا تشاركيًّا"؛ ومن هنا ينبع الالتباس. ويخبرنا بول بأن النظرية الكميّة "مبهمة معرفيًّا". ومع ذلك.. يجادل بإقناع أن الأسئلة المطروحة حولها صارت أكثر تحديدًا، وتغيرت أيضًا عن ذي قبل عبر الزمن. إنه حدوث التقدم، بدلًا من الوصول إلى الإجابات.

إلى جانب الاكتشافات التاريخية، يلفت بول انتباه القراء إلى زيادة سرعة "النهضة الكمية" المعاصرة. فهذه الحقبة الفكرية النشطة مدفوعة بأبحاث الحوسبة الكميّة، ونشأة نظرية المعلومات الكميّة، التي كان من ضمن روّادها باحثون مثل ديفيد دويتش، وبيتر شور، وتشارلز بينيت. والآن، تبدو ميكانيكا الكَمّ وكأنها - أكثر من أي شيء - مجموعة من القواعد حول الكيفية التي يمكن بها مشاركة المعلومات، ومعالجتها. ويقول بول إنّ هذا هو السبب الذي أثبت أن الحوسبة الكمية مثيرة للاهتمام؛ فما يمكن حسابه، وما لا يمكن حسابه "يتبعان القواعد نفسها التي تحكم ما هو معلوم، وما هو غير معلوم". وبالإضافة إلى ذلك.. فإن الفيزيائيين، بدءًا من ديتر زيه في سبعينيات القرن العشرين، وفويتشخ زوريك في الثمانينيات، استوعبوا الانقسام الكمّي الكلاسيكي استيعابًا مقبولًا: إنه السبب في أن الجسيمات يمكن أن تُوجَد في متراكبات ذات حالات كثيرة ممكنة، ولكن القطط تكون إما على قيد الحياة، أو ميتة فحسب. وتبدو الآن الفيزياء الكلاسيكية وكأنها تنشأ من قوانين كميّة تقوم عليها، بسبب «فقدان التماسك»؛ أي أن الاحتكاكات بالبيئة تتسبب في فقدان تماسك المتراكبات الكميّة، لأن معلوماتها تتسرب، وكلما كبر حجم النظام؛ تسارَع حدوث ذلك.

كشفت الدراسات النظرية الحديثة، والتجارب المنضبطة بإحكام، عن الدور المهم الجديد للمبادئ، مثل سببية المعلومات التي تضع حدًّا صارمًا على كمية المعلومات التي يمكن استنتاجها عن نظام كَمّي، بعد قياسه. يتبنّى الباحثون في إعادة بناء الحالة الكميّة الرؤى الجديدة، ويعودون إلى الأساسيات؛ بحثًا عن أقل مجموعة من المسَلّمات، التي ينشأ عنها المدى الكامل للسلوكيات الكميّة.

في خضم هذه الرحلة، يبدو بول مرشدًا متقد الذكاء. ومع ذلك.. فالغرابة مسبِّبة للارتباك أحيانًا، وقد تضيع الاكتشافات الفارقة في جولته المضنية لاستكشاف الظواهر المبهمة، وآثارها، فيعطي وصفًا مُيَسَّرًا لتجربة الشق المزدوج، ولكنْ لعله أكثر الشروح إيضاحًا للغرابة الكمية: جسيم يسلك مسلَك موجة تمرّ عبر كلا الشقين في حاجز، ويتداخل مع نفسه على الجانب الآخر من الحاجز، لِتَنْتُج عنه قمم من الاحتمالية في الأماكن التي قد يُوجَد بها حينها. وبالإضافة إلى ذلك.. يفتقر وصف نظرية بيل إلى الجاذبية، حيث كانت نقطة التحوُّل في عام 1964، التي أتاحت للفيزيائيين الإثبات بالتجربة أن الجسيمات الكمية المتشابكة تُبدي «عدم المحلية». وقد غيَّر هذا الاكتشاف مسار الاعتقاد الكلاسيكي بأنّ الأشياء لا بد أنْ تُوجَد في أماكن محددة.

وثمة فقرات أخرى تشد الانتباه، كشرح بول المفصل للجدل المثير للاهتمام حول معنى الدالة الموجية. فحسبما كَتَبَ، دفعت الجهود المبذولة لفك شفرة ميكانيكا الكَمّ العلماء إلى تحري التساؤلات الفلسفية العتيقة حول طبيعة الواقع، والمعرفة، والوجود. هل توجد دوال موجية كميّة، مثلًا، أم هل تعبِّر هذه الأوصاف الاحتمالية للعالم عن جهْلنا؟

يستشهد بول بتفسير كوبنهاجن، وهو الموقف المتشدد الذي تبنّاه الفيزيائي الدنماركي عميق التفكير نيلز بور، الذي قال: "لا يوجد عالَم كَمّي. هناك فقط وصف فيزيائي كَمّي تجريدي". لاحظ بور أيضًا أن الفيزياء لا تُعنى فقط بما تبدو عليه الطبيعة، ولكن "بما يمكننا قوله عن الطبيعة". (عَرَّف عالِم الحاسوب النظري سكوت آرونسون تفسير كوبنهاجن بأنه "توقف عن الكلام، وابدأ في الحسابات. وحينها.. لا تتوقف أبدًا عن التحدث عنها". ويرى بول أن منظور بور صعب الفهم بشكل يدفع إلى الغضب.

لم يصل المتنافسون في الإجابة على هذه الأسئلة إلى نتائج أفضل. فتفسير دي بروي–بوم، الذي يتصور أن الجسيمات تسترشد بموجات مرشدة غير مرئية، "عديم الجدوى"، على حد تعبير أينشتاين. وتعمل نماذج الانهيار التصادفي على تزويد الدوال الموجية بمكونات إضافية، تختار حالاتها بشكل عشوائي في لحظة القياس. وهذه "محاولة ترقيع غير متقَنة"، كما يصفها بول، ويرى أنه من المفيد تفسير الأحداث السابقة التي تسير على المنوال نفسه، أيْ أن أيّ شيء يحدث لا بد أنْ يكون متسقًا مع ما أتى قبله، على الرغم من أنه يقول أيضًا إن ذلك يفشل في تقديم "صورة مقبولة فيزيائيًّا". أما النظرية المعروفة باسم QBism )«البايزنية» الكَمّية، أو «كبيزم»، اختصارًا) فتتخذ موقفًا أكثر تتشددًا من تفسير كوبنهاجن، حيث تفسّر الدوال الموجية بأنها معتقدات شخصية، ولكنها تزعم - بشكل مقنع - أن الواقع يبدي إبداعًا، أو ابتكارًا، وأنه ليس جامدًا وحتميًّا، أي "حالة من انعدام القوانين تقريبًا، يمكن أن تنشأ عنها القوانين".

يتألق بول عندما ينتقد – ببصيرة - تفسير العوالم المتعددة. وهذه الفرضية الشائعة تفيد بأن كل قياس يرسل الكون في مسارات متفرعة، مما يؤدي إلى تكاثر عدد الوقائع المتوازية. ويواصل حجته قائلًا إن المشكلات المنطقية تنشأ عندما تفترض أن كل احتمالية كميّة تنتهي.. بما يشمل أن الاحتمالية ذاتها بلا معنى.

لا تبدو أي زاوية من الزوايا التي ننظر منها إلى العالم الكمّي كافية، ولكن الكثير منها يضيف رؤية إلى الأمر. فهناك مغزى ينشأ من منظور متنامٍ وسط البلبلة. ويتفرد كتاب «ما يفوق الغرابة» من خلال إضفائه حياة على الأفكار، بدلًا من إعطائها لأينشتاين، وبور، وإرفين شرودنجر، ورائدي الكَمّ اللامعين الآخرين وحدهم. فاكتشافاتهم ومآزقهم التي تدور حول فعل غامض على مسافة بعيدة والمتراكبات المراوغة بلغت من الإرباك مبلغًا، حتى إنّ المؤلفين الآخرين لم يتوقفوا عن إعادة استخدامها بلا نهاية. وقد جمعهم بول كلهم بأسلوبه السردي، ولكنْ لخدمة العلم، قائلًا: "للنظرية الكمية أغرب منشأ، فقد وضعها رائدوها وهُم يتعاقبون عليها في مسيرتهم. فماذا كان بإمكانهم فعله بخلاف ذلك؟".

ناتالي وولتشوڤر محررة فيزيائية، وكاتبة أولى لمجلة «كوانتا» Quanta Magazine. وهي تعيش في بروكلين، نيويورك.

nwolchover@quantamagazine.org