كتب وفنون

تاريخ: الخيانة والقنبلة

يستحوذ كتاب فرانك كلوز عن كلاوس فوكس - العالِم الذي أرسل أبحاث أسلحة نووية إلى السوفيت - على اهتمام آن فينكباينر؛ فتقدِّم عرضًا له في هذا المقال.

آن فينكباينر 
  • Published online:
كلاوس فوكس (أقصى اليسار) في عام 1984 بصحبة زملائه في مختبر الطاقة الذرية البريطاني في هارويل.

كلاوس فوكس (أقصى اليسار) في عام 1984 بصحبة زملائه في مختبر الطاقة الذرية البريطاني في هارويل. 

ULLSTEIN BILD/GETTY

يبدأ فرانك كلوز كتابه «ترينيتي» Trinity، الذي يحكي قصة الفيزيائي كلاوس فوكس – أحد جواسيس الحرب العالمية الثانية - بدايةً غير مباشرة، إذ لا يبدأ الكتاب بمهمة فوكس على مدار ثماني سنوات، التي تمثلت في إرسال تفاصيل بالغة السرية عن القنابل النووية الأمريكية والبريطانية إلى الاتحاد السوفيتي، بل يبدأ بالحديث عن رودولف بيرلز، مُعلّم فوكس، الذي اعترف له الأخير بخيانته في نهاية المطاف.

إنّ كلوز، أستاذ الفيزياء الفخري في جامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، ليس أول مَن قدَّم كتابًا عن سيرة فوكس، لكنّ كتابه بالتأكيد هو الأكثر استيفاءً لهذا الموضوع. ويوضح كلوز أن فوكس كان لاجئًا ألمانيًّا معاديًا للنازية، وطالبًا في جامعة بريستول بالمملكة المتحدة، عندما التقى ببيرلز، عالِم الفيزياء النووية الألمعي، الذي كان قد غادر ألمانيا في عام 1932، وأضحى في النهاية مواطنًا بريطانيًّا. وقد وجّه بيرلز إلى فوكس دعوة انضمامٍ إلى مجموعة من العلماء في وزارة تصنيع الطائرات بالمملكة المتحدة، يطلق عليهم «لجنة مود» MAUD committee، أُوكلت إليهم مهمة تحديد إمكانية بناء قنبلة ذَرّية في بريطانيا.

أقام فوكس مع عائلة بيرلز، واندمج في حياتهم الأسرية بسعادة، كما حظي بحب أطفال وكلاب العائلة. وحتى يوجينيا بيرلز، زوجة رودولف، التي وُهبت فراسة في معرفة خبايا الأنفس، رأت في فوكس رجلًا جديرًا بالاحترام، لكنْ عقب شهور من احتضان العائلة له، بدأ فوكس رحلة خيانته الطويلة. وكانت أولى الخطوات التي سلكها في هذا الاتجاه هي تسريب معلومات تخص مشروع لجنة »مود« MAUD إلى المخابرات الحربية السوفيتية. (فعلى الرغم من تحالف الاتحاد السوفيتي مع بريطانيا في ذلك الوقت، كان الاتحاد السوفيتي منسحبًا لتوّه من معاهدة عدم اعتداء، تستمر لعامين مع ألمانيا النازية، ولم يكن موضع ثقة بريطانيا، وبالقَطْع لم تكن درجة الثقة تسمح بمشاركته في مشروع بريطانيا لبناء قنبلة ذرية).

ساعد بيرلز في إيضاح فكرة النواة الذرية لفوكس، إذ لم تكن معرفة فوكس بالفيزياء على الدرجة نفسها من التميّز، وإنْ كان قد تمتع بقدرة فائقة على حل المعادلات. عمل فوكس في مشروع لجنة «مود» تحت إمرة بيرلز، مستكشفًا طرق تنقية اليورانيوم؛ لاستخدامه في القنبلة. وفي عام 1944، رافق بيرلز إلى قلب مشروع مانهاتن في لوس ألاموس بولاية نيو ميكسيكو. وقبل ستة أسابيع من إجراء اختبار «ترينيتي» Trinity، الذي شَكّل أول الانفجارات النووية، سرّب فوكس تفاصيل تتعلق بهذا الاختبار إلى السوفيت. وهكذا، عرف القائد السوفيتي جوزيف ستالين بأمر اختبار «ترينيتي»، قبل أن يعرف به الرئيس الأمريكي هاري ترومان نفسه، الذي كان قد أدى اليمين حديثًا آنذاك.

وفي عام 1945، في أثناء وجود فوكس في لوس ألاموس، عمل على الجيل الثاني من الأسلحة النووية؛ القنبلة الهيدروجينية. ومرة أخرى، نقل المعلومات عن هذه الأبحاث إلى الاتحاد السوفيتي، الذي استخدمها لإطلاق مشروع القنبلة الهيدروجينية الخاصة به، واختبارها بنجاح بعد ذلك بعدة سنوات. نُقل فوكس بعد ذلك من لوس ألاموس إلى مختبر الطاقة الذرية البريطاني - الواقع في هارويل - في عام 1946. وبحلول ذلك الوقت، حسبما يقول كلوز، أصبحت لفوكس مكانة فريدة في بريطانيا، بوصفه «موسوعة معرفية تمشي على قدمين» في مجالَي الفيزياء، وتصميم الأسلحة الذرية والنووية الحرارية، على حدٍّ سواء.

اكتشافات ما بعد الحرب

بعد استسلام ألمانيا، عاد بيرلز إلى بريطانيا، وإلى الأبحاث النووية الأكاديمية. وعلى الرغم من أنه ظل يقدم المشورة بشأن الأسلحة النووية، فقد سعى - مثل كثير من علماء مشروع مانهاتن - إلى وقْف انتشارها. أما فوكس، فقد بقى في هارويل. وبحلول عام 1949، كان قد تمكّن من تسريب قدْر من المعلومات إلى السوفيت، مكّنهم من تقدير مدى تقدُّم بريطانيا في مجال التسلّح النووي، إلى جانب حجم المخزون النووي الأمريكي.

انكشف أمر فوكس أخيرًا في صيف ذلك العام، عقب توقفه عن أعمال التجسس مباشرة، إذ تمكن «مكتب التحقيقات الفيدرالي» FBI من فك شفرة أجزاء من رسائل سوفيتية، فيما يُعرف باسم عمليات اعتراض «فينونا» VENONA. وبعد مشاركة هذه الرسائل مع «المكتب الخامس البريطاني» MI5 (المخابرات الحربية)، أشارت بوضوح إلى وجود جاسوس، اسمه الحركي تشارلز، يحتل مركزًا رفيعًا في مشروع مانهاتن، ويعمل في بريطانيا. وعندئذ، بدأ المكتب الخامس في التنصت بانتظام على فوكس، وهو ما أفضى إلى استجوابه، ثم إلى اعترافه في 27 يناير عام 1950، وإلقاء القبض عليه في أوائل شهر فبراير من العام نفسه.

عقب بضعة أيام، اعترف فوكس بفعلته لبيرلز في أثناء وجوده في السجن. وظن بيرلز للوهلة الأولى أن فوكس قد أصيب حتمًا بانهيار عصبي. وفي مكالمة هاتفية مُسجَّلة، قال بيرلز لزوجته إنه يشعر بأنه جرى "استغفاله تمامًا". وقد أدرك لاحقًّا أن فوكس - في حقيقة الأمر - تمتع بقدرة هائلة على ضبط النفس، مكّنته من خداع زملائه وأصدقائه طوال سنوات. فقد كاتبت يوجينا بيرلز فوكس قائلة: "لقد حظيت بأفضل ما في العالَم الذي كنتَ تسعى لتدميره. وليس هذا من الشرف في شيء". أما ردّ فوكس، فكان مزيجًا من لوم النفس، والتبرير. ويذكر أن رودولف بيرلز عرض تقديم كل ما يستطيعه من المساعدة لفوكس، بعدما تنتهي عقوبة الأخير، الذي لم يبدر منه ردّ على هذا العرض قط.

يبدو كتاب «ترينيتي» للقارئ كإحدى روايات الجاسوسية؛ ويسرد كلوز القصص الإنسانية به ببراعة، فيُورِد - على سبيل المثال - مساعدة كريستيل هاينمان - أخت فوكس - في تمرير الوثائق. ويتناول الكتاب أيضًا العملاء السوفيت المسؤولين عن فوكس، وعملاء المكتب الخامس البريطاني، ومكتب التحقيقات الفيدرالية الذين تتبّعوه. كما يَرِد ذكر جيه إدوارد هوفر، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، الفاسد أخلاقيًّا، الذي اشتبه الرئيس ترومان في أنه يرغب في إنشاء مؤسسة على غرار «الجستابو» في الولايات المتحدة الأمريكية. ويُضمِّن كلوز – الذي أتيح له الوصول إلى وثائق أمنية بريطانية – سياق الأحداث، الذي يُدْخِل فيه الاضطرابات التي شابت بطبيعة الحال عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية، والمناخ السياسي الذي عملت الاستخبارات في ظله، كما أنه يطرح توصيفات واضحة للمعلومات الفيزيائية التي سرّبها فوكس. ويسرد كلوز - بشكل مُفصّل، وعلى وجه الخصوص - هروب الجاسوس من افتضاح أمره، بشكل لا يُصدَّق، في أثناء الفحوص الأمنية التي أجريت في كل من هارويل، ومشروع مانهاتن، وكذلك إخفاقات المخابرات وسوء تقديرها على مدار سنوات، وهو ما سهّل هذا الهروب. بعد ذلك.. تبادلت المخابرات البريطانية، ومكتب التحقيقات الفيدرالي اللوم حول هذا الخطأ، ثم اتفق الطرفان - بمباركة من هوفر، وبيرسي سيليتو، مدير المكتب الخامس البريطاني – على أن يتستر كل منهما على الآخر.

تفكير ساذج

عبر عرض سيرة فوكس المهنية ضمن إطار قصة أستاذه العطوف، يكشف لنا كتاب »ترينيتي« حكاية رجل برع في الخيانة، بدوافع ظن أنها نبيلة. لم يتلق فوكس أيّ أجرٍ نظير خدماته، فقد آمَن إيمانًا عظيمًا بالشيوعية، وكان يأمل من خلال مساعدته الاتحاد السوفيتي في أن يُعِيد ألمانيا إلى المُثُل الاشتراكية العليا. وعقب اعتقاله، سأله بيرلز عما إذا كان يؤمن بتفوق النظام السوفيتي، أم لا؛ فكان رد فوكس أنه كان ينوي فَضْح أخطاء هذا النظام، بعد أن "يستولي السوفيت على كل شيء". ولم يدرك بيرلز من قبل أن فوكس بهذه السذاجة، فقد بدا وكأنه "يتوقع أن يفلت بكل ما فعله".  

وبصورة ما، أفلت فوكس بفعلته حقًّا، إذ خضع للمحاكمة، وحُكم عليه بالسجن لمدة 14 عامًا، قضى الفترة الأولى منها في سجن وورم وود سكرابس في لندن، وبعد ذلك انتقل إلى سجن وايك فيلد. ومن تبعات اعتقاله، إدانة بعض من رفقائه في التجسس على الولايات المتحدة؛ هم: ديفيد جرينجلاس، الذي حُكم عليه بالسجن، وجوليوس وإيثل روزنبيرج، اللذان أُعدما. ونجا فوكس من حكم الإعدام، لأن الاتحاد السوفيتي كان حليفًا، عندما بدء التجسس لصالحه. وقد أمضى تسع سنوات في السجن، وخرج منه إلى ألمانيا الشرقية، حيث عمل في المعهد المركزي للأبحاث النووية في دريسدن. وحظي هناك باستحسان الأوساط العلمية، وعاش لمدة ثلاثة عقود بعد ذلك.

يعطي كتاب «ترينيتي» انطباعًا بأن فوكس، الذي كان عالِم فيزياء نظرية بارعًا من ناحية، وجاسوسًا مخلصًا من ناحية أخرى، قد شعر بالاعتزاز بهاتين الناحيتين. ويُذكر أنه كان شخصًا مؤثِّرًا، بلا شك. ويستشهد كلوز بالمؤرخة البريطانية لورنا أرنولد، المتخصصة في تاريخ القنبلة النووية، التي ذكرت أن أصل القنبلة الهيدروجينية ظل محل شك في العديد من البلدان، لكنْ نظرًا إلى العمل الذي أسهم به فوكس في الولايات المتحدة، وبريطانيا، والمعلومات التي سرّبها، فإنها تظن أن «كلاوس فوكس كان صاحب الفضل الأول في ابتكار جميع هذه القنابل». إنّ فوكس الذي يظهر في كتاب كلوز هو شخص يمكننا أن نفهمه، لكننا لا يمكن أن نسامحه. 

آن فينكباينر كاتبة حرة  في مجال العلوم، تقيم في بالتيمور، ميريلاند، وصاحبة كتاب «آل جايسون» The Jasons. وتكتب في مدونة «www. lastwordonnothing.com».

البريد الإلكتروني: anniekf@gmail.com