أخبار
باحثو الإيبولا يفتشون عن علاجٍ في منطقة حرب
استمرار التجارب الإكلينيكية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، رغم أعمال العنف.
- Nature (2019)
- doi:10.1038/d41586-019-02258-4
- English article
- Published online:
إحدى العاملات في مجال الصحة بمدينة كاتوا تُطَعِّم رجلًا ضد فيروس الإيبولا.
JOHN WESSELS FOR NATURE
في أحد مراكز علاج المصابين بفيروس الإيبولا، أخذت شاشات مراقبة القلب والمؤشرات الكيميائية الحيوية تومض بجوار امرأةٍ متقوقعة على سريرٍ قابل للطيّ. كان سريرها محاطًا بمكعبٍ من البلاستيك الشفاف لاحتواء الفيروس، فيما يجري في أوردتها عقارٌ تجريبي.
تَسارَع سباق تصنيع علاجاتٍ فيروس الإيبولا، منذ أن اجتاح الوباء - الأضخم في التاريخ - غرب أفريقيا بين عامي 2014، و2016، إذ ألحق العلماء الذين يحاولون التصدي للتفشي المستمر للفيروس في جمهورية الكونغو الديمقراطية (DRC) أكثر من 500 مشارِك بدراسةٍ غير مسبوقة على مجموعةٍ من العقاقير التجريبية، وطعَّموا حوالي 170 ألف شخصٍ تقريبًا، ووضعوا تسلسل جينومات أكثر من 270 عينة من فيروس الإيبولا.
يقول ديفيد هيمان، عالِم الوبائيات في كلية لندن للصحة العامة وطب المناطق الاستوائية: "تُعَد التجارب والتدابير التي اتُخذت إبان هذا التفشي إنجازًا مهمًّا في مجال الأبحاث العلمية الدقيقة القيِّمة، وسنتوصل إلى إجاباتٍ حاسمة".
والوضع في حاجة ماسَّة بالفعل إلى إحراز أي تقدُّم.. فالوباء الذي ضرب جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ عام هو ثاني أكبر وباء مُسجَّل حتى الآن، وأول وباء يضرب منطقة حرب. وقد أعاقت أعمال العنف جهود احتواء الفيروس، مما دفع منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى إعلان الوضع "حالة طوارئ صحية عامة ذات مخاوف دولية"، وذلك في يوم 17 يوليو، إذ أصيب أكثر من 2600 شخص في جمهورية الكونغو الديمقراطية بفيروس الإيبولا، وتوفي 1700 شخص تقريبًا.
أجبر العمل في منطقة نزاع كهذه الباحثين على التكيف، والتحلي بمثابرةٍ مذهلة؛ فقد تعلموا كيف يُجْرُون دراساتٍ دقيقة وسط مناطق يشيع فيها القتل، والاختطاف، وإشعال الحرائق، ويتعرض فيها المسعفون لهجماتٍ متكررة. ورغم أنَّ إحراز التقدم في مجال الطب الحيوي وحده غير كافٍ لهزيمة الإيبولا، فإن العلماء الذين يدرسون هذا الوباء ما زالوا يأملون في أنْ تساعدهم معرفتهم المتزايدة بالمرض في القضاء عليه، والحد من تفشيه في المستقبل.
يقول جون جاك مويمبي تامفوم، وهو متخصص في الأحياء الدقيقة، ساعد في اكتشاف فيروس الإيبولا، ويدير حاليًّا المعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية (INRB) في كينشاسا: "الأمر ليس سهلًا، فأنت تقوم بهذا العمل، بينما الناس يطلقون النار".
يعمل مويمبي مع باحثين كونغوليين آخرين على ضمان الاستفادة من أي تقدُّمٍ علمي متعلق بالإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي شهدت حالات تفشٍ للفيروس أكثر من أي دولةٍ أخرى. ويعلق سابوي مولانجو - الباحث المتخصص في الأمراض المُعدية بالمعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية - قائلًا: "مِن المهم للغاية أن تُجرى الأبحاث هنا، لأنَّ الإيبولا هي مشكلتنا نحن في نهاية المطاف".
واجه مويمبي فيروس الإيبولا للمرة الأولى في عام 1976، عندما كان يفحص عددًا هائلًا من الوفيات في يامبوكو، وهي قرية تقع شمال جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفيما كان يجمع عيناتٍ من دماء المرضى، لاحظ أنَّ الجروح لا تلتئم؛ لعدم تجلط الدم. ويقول عن ذلك: "كانت أصابعي تُغطَّى بالدماء". أُرسِلَت العينات إلى مختبراتٍ في مدينة أنتويرب ببلجيكا، وفي مدينة أتلانتا بولاية جورجيا الأمريكية، حيث تمكّن علماء الفيروسات من عزل فيروس "الإيبولا"، وسمَّوه كذلك نسبةً إلى النهر الذي يغذي قرية يامبوكو.
لم يعرف العلماءُ إلا القليل عن الفيروس حتى عام 1995، عندما أدّى وباءٌ اجتاح قرية كيكويت بجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى مقتل 245 شخصًا في ستة أشهر. ووَثَّق مويمبي، وهيمان، وباحثون آخرون كيف يسبب الفيروس للمريض نزيفًا داخليًّا يستمر إلى أن تتوقف أعضاؤه عن تأدية وظائفها. ولما كان مويمبي في حاجة ماسة إلى العثور على علاج، نقل دمًا ممن تمكّنوا من مقاومة فيروس الإيبولا إلى ثمانية أشخاصٍ ينازعون المرض، ظنًا منه أنَّ دماءهم غنية بأجسامٍ مضادة للفيروس. وبالفعل نجا منهم سبعة أشخاص.
فشلت دراسات لاحقة أُجريت على القردة في المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية (NIAID) في بيثيسدا بولاية ميريلاند في تكرار النتائج، إلا أن مويمبي رفض الاستسلام. ويسترجع الأمر قائلًا: "كنتُ أقول في نفسي إنَّه لا بد من وجود حقيقةٍ ما هنا".
وفي عام 2006، أرسل مويمبي اثنين من الناجين من قرية كيكويت إلى ذلك المعهد، حيث عمل باحثون - من بينهم مولانجو - على عزل الأجسام المضادة في دماء المتطوعَين، وفحْصها. وطُوِّرَ بناءً على هذه الدراسة أحدُ العقاقير التي جرى اختبارها في التفشي الأخير، وهو عقار mAb114.
كان هذا العقار واحدًا من عدة عقاقير تجريبية، أجازت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية استخدامها كعقاقير رحيمة، (وهي تلك النوعية من العلاجات غير المصرح بها، ولكنها تُستخدَم في الحالات الميؤوس منها)، وذلك قبل وقتٍ قصير من الإعلان عن تفشي الوباء في أغسطس 2018. كان مِن ضمن العقاقير التي أُجيزت أيضًا عقاران آخران معتمدان على الأجسام المضادة، وهما: ZMapp، وREGN-EB3، بالإضافة إلى عقارٍ مضاد للفيروسات، يُسمَّى «ريمديسيفير» Remdesivir.
أصَرّ الباحثون على إجراء تجربةٍ إكلينيكية، بغية تحديد أيٍّ من هذه العلاجات أكثر فاعلية. وبرَّر هذا أنتوني فاوتشي - مدير المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية - قائلًا إنَّه "سيكون من المُحبِط أن تَستخدم هذه التدخُّلات العلاجية، لكنْ عند دَحْر الوباء، تكتشف أنَّ معرفتك لم تزدد عمَّا كانت عليه في البداية".
وضع فاوتشي وعلماء آخرون مخططًا لتجربة إكلينيكية عشوائية تُقارِن بين العقاقير الأربعة، وتضمن أنْ يحصل كل شخصٍ من المشاركين في التجربة على واحدٍ منها. وكان مخطَّطهم المبتكر يسمح بإيقاف التجربة، ثم استئنافها حسب الحاجة. وتبيَّنت مع الوقت أهمية هذه المرونة وسط العنف المتواصل في منطقة جراند نورد، التي ينتشر فيها فيروس الإيبولا.
"الناس يريدون قتلِي"
يتأثر كل وجه من أوجه التفشي بالتاريخ الطويل للصراعات والأزمات في المنطقة. فقد عانى السكان على مدى أكثر من عقدين من إرهاب الجماعات المسلحة، ناهيك عن استغلال موارد المنطقة، وانعدام الاستقرار السياسي. وقد تمخض ذلك عن حالةٍ من الارتياب في السلطات – ومن بينها العاملون الأجانب في مجال الصحة - وشيوع نظريات مؤامرة حول أسباب انتشار فيروس الإيبولا. وإحدى الشائعات المنتشرة هي أنَّ مسعفي الإيبولا يحقنون الناس بمادةٍ قاتلة في مراكز العلاج ومواقع التطعيم.
تسببت هذه الأفكار المغلوطة في شن مائتي هجوم تقريبًا حتى الآن على مسعفي الإيبولا ومراكز العلاج خلال هذا العام، وذلك حسب ما ذكرته منظمة الصحة العالمية. وأسفرت تلك الهجمات عن مقتل سبعة أشخاص، وإصابة 58 آخرين.
جندي يحرس مركزًا يُطَعِّم فيه العاملون في مجال الصحة الناسَ ضد فيروس الإيبولا.
JOHN WESSELS FOR NATURE
وللتكيف مع حالة الصراع هذه، يعطي الباحثون الإكلينيكيون في مركزٍ لعلاج الإيبولا بمدينة بيني - تقوم على تشغيله المؤسسة الخيرية الفرنسية الطبية «أليما» ALIMA - هواتف محمولة للمرضى الذين يغادرون المركز. يتيح ذلك لهم التواصل مع المركز في حالة استمرار أي أعراض، حتى إذا تسبب العنف في الحيلولة دون ذهابهم إلى المركز؛ لمتابعة حالاتهم في المواعيد المقررة. يستخدم كثيرٌ من الأشخاص هذه الخدمة كخطّ هاتفي للاستغاثة في حالات الطوارئ، حسبما قالت إيميلي جودا، مسؤولة الدعم في مؤسسة «أليما». وأوضحت إيميلي قائلة: "يتصل بنا أحد المرضى أحيانًا قائلًا: "الناس يريدون قتلي"، أو "أريد أن أقتل نفسي"".
ورغم هذه الأجواء الصعبة، تقترب تجربة العقاقير من بلوغ هدفها في دراسة آثار العقاقير على 545 مشارِكًا، وهو ما يُفترض أن يُمَكِّن الباحثين من التوصل إلى استنتاجاتٍ حاسمة بشأن فاعلية العقاقير. ويُذكر أن هناك بالفعل مؤشرات على فاعلية تلك العلاجات؛ إذ انخفض معدل الوفيات في مراكز علاج الإيبولا (حيث يتلقى كل مريض واحدًا من العقاقير التجريبية) إلى نسبة 35-40%، مقارنةً بالمعدل العام الذي يبلغ 67% لهذا الوباء. ويمثل هذا الرقم الأخير العدد الكبير من الأشخاص الذين توفوا في منازلهم، أو في المنشآت غير المجهَّزة لعلاج الفيروس.
أعاق العنفُ أيضًا جهود التطعيم.. فقبل بضعة أشهرٍ، سمع ديالو عبد الرحمن - منسق جهود نشر اللقاح بمنظمة الصحة العالمية - عن رجلٍ في مدينة كاتوا، كان فريقه قد طَعَّمَه بلقاحٍ تجريبي لفيروس الإيبولا من إنتاج شركة «ميرك» Merck للأدوية. وكان الرجل قد أخبر المتشككين ممن كانوا يشاهدونه من أهل المنطقة وهو يتلقّى اللقاح أنَّه سيَقِيه من المرض. ويتابع عبد الرحمن رواية ما حدث قائلًا: "لكنْ بعد مغادرة الفريق، أتى جيران المريض، وأحاطوا به ليلًا، وقالوا له: "أنت الشخص الذي يساعد على جلب فيروس الإيبولا إلى منطقتنا"، ثم قتلوه".
دفعت هذه الواقعة المأساوية عبد الرحمن وزملاءه إلى تغيير طريقة التطعيم.. فبدلًا من إنشاء موقع للتطعيم بالقرب من منازل مَعارِف المريض، أتاح هؤلاء العلماء لهم خيار تلقِّي التطعيم في بلداتٍ مجاورة، وأطلقوا على تلك المراكز «مراكز التطعيم المؤقتة».
ابتكر الفريق أيضًا استراتيجيةً للتطعيم عندما تزيد أعمال العنف من خطورة تتبُّع مَعارِف المريض. ظهرت تلك الاستراتيجية عندما بدأ فيروس الإيبولا ينتشر وسط الميليشيات في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. ويقول عبد الرحمن عن ذلك الأمر: "إذا وافقوا على الحصول على اللقاح، لا يريدوننا عادةً أن نذهب إليهم بصحبة رجال الأمن"، أي ضباط الجيش والشرطة. ويضيف قائلًا: "لذلك.. نذهب دون حمايةٍ أمنية، لكنَّنا لا نرغب حينها في البقاء طويلًا".
وجدير بالذكر أنَّ الهجمات التي تستهدف مسعفي وباء الإيبولا أحبطت الخطط الرامية إلى وضع تسلسل جينومات الفيروس في كاتوا، إذ أُضرمت النيران في أحد مراكز العلاج هناك في شهر فبراير، وأُطلق عليه النار في شهر مارس، وفي إبريل قُتل عالِم وبائيات - تابِع لمنظمة الصحة العالمية - في مدينة بوتمبو القريبة. وفي الوقت الحالي، يرسل المعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية معظم عينات الدم المأخوذة من مرضى الإيبولا في جميع أنحاء الدولة إلى كينشاسا، وذلك لإجراء التحليل الجينومي عليها.
في غروب أحد أيام منتصف يونيو الماضي، فيما كان البعوض يملأ حرم المعهد، والماعز تجول في المرج، كان عالِم الأحياء الدقيقة ستيف أهوكا يستريح قليلًا للمرة الأولى في ذلك اليوم، حيث كان هو وزملاؤه مثقلين بالعمل منذ بدء تفشَّى الوباء، إذ أكدت التحليلات الجينية الأولى التي أجراها العلماء على عينات فيروس الإيبولا أنَّ اللقاح الذي أنتجته شركة «ميرك»، المسمى rVSV-ZEBOV، يمكنه أن يستحث استجابةً مناعية فعّالة. والآن، يهرع العلماء لوضع تسلسل جينومات عينات فيروسية مأخوذة من مناطق طالها فيروس الإيبولا للتو. وبمقارنة هذه البيانات بالتركيب الوراثي لعينات فيروس الإيبولا التي جُمعت من أماكن أخرى، يمكنهم تحديد المكان الذي أُصيبَ فيه المرضى بالفيروس. يَستخدم العاملون في مجال الصحة هذه البيانات لتعَقُّب الأشخاص الآخرين الذين ربما يكونون قد تعرضوا للفيروس.
ويستخدم المعهد الوطني للبحوث الطبية الحيوية التمويل الذي وفّرته الحكومة اليابانية لإنشاء بنكٍ حيوي لحفظ عينات الدم المحتوية على فيروس الإيبولا. وسيصبح بمقدور العلماء من خارج جمهورية الكونغو الديمقراطية أن يتقدموا بطلباتٍ لدراسة العينات المحفوظة في كينشاسا، لكنَّ الحكومة لن ترسل العينات خارج البلاد. ويعلق أهوكا - الذي سبق له العمل في معملٍ للأحياء الجزيئية في غينيا خلال تفشي الوباء من عام 2014 إلى عام 2016 – على ذلك قائلًا: "لا نريد تكرار ما حدث في غرب أفريقيا. فقد عالجنا عيناتٍ كثيرة، مفترِضين أنَّها ملكٌ للدولة، وفي النهاية أُرسِلَت جميعها إلى الخارج".
كثيرٌ من الأوراق البحثية وبراءات الاختراع، المستندة إلى عينات الدم التي جُمعت أثناء وباء غرب أفريقيا، نشرها علماءٌ تابعون لمؤسساتٍ في الولايات المتحدة وأوروبا. وقد سبَّبَ ذلك إحباطًا للباحثين في الدول التي اجتاحها الفيروس، الذين كانوا يأملون في أن تُعزِّز دراسة الوباء من قدرتهم على التصدي لحالات التفشِّي القادمة.
يتفهم هيمان - الذي سبق له التعاون مع مويمبي في كيكويت قبل خمسة وعشرين عامًا - موقف الباحثين الكونغوليين، ويوضح قائلًا: "حريّ بنا أن نسعى لِأَنْ يصبحوا قادرين على فعل ذلك بأنفسهم، لأنَّهم أفضل مَن يعرف ثقافتهم".