كتب وفنون
التَّوَلُّدُ التِّلْقائِيّ: نشأة الحياة من منظور جديد
كتاب ستيوارت كوفمان المثير للجدل يشعل حماسة الكاتبة سارة إماري ووكر.
- Nature (2019)
- doi:10.1038/d41586-019-01318-z
- English article
- Published online:
عالَم ما وراء الفيزياء: نشوء الحياة، وتطوّرها
ستيورات إيه. كوفمان، دار نشر جامعة أكسفورد (2019)
مِن أكبر الألغاز العلمية في عصرنا لغز نشأة الحياة من مادة غير عضوية. وقد دأب العلماء على سبر أغوار هذا اللغز منذ عشرينيات القرن العشرين، عندما شرع عالما الكيمياء الحيوية أليكسندر أوبارين، وجاي. بي. إس. هولدين (كلٌّ على حدة) في تقصي خواص قطيرات غنية بالجزيئات العضوية، وُجدت في «حساء قبل حيوي»، كان موجودًا على الأرض البدائية (انظر: T. Hyman and C. Brangwynne Nature 491, 524–525; 2012). وافترض كل منهما أن المركبات العضوية مرت بتفاعلات، نتجت عنها جزيئات أكثر تعقيدًا، وظهور أول أشكال الحياة في نهاية الأمر.
أمّا ما كانوا يفتقرون إليه وقتها - مثلما هو الحال الآن - هو نظرية متماسكة، قابلة للاختبار بالتجربة، توضح السمات الفيزيائية لماهية الحياة، وهي النظرية التي ستكون - على الأرجح - أكثر شمولية من السمات الكيميائية للحياة على كوكب الأرض. وبعد عقود من تجارب أوبارين وهولدين، حاول كتاب «ما الحياة؟» What is life (انظر: P. Ball Nature 560, 548–550; 2018)، الذي سطره إرفين شرودنجر في عام 1944، إرساء أسس إدراكية لمثل هذه النظرية. ومع ذلك.. فبعد مرور أكثر من سبعين عامًا، ظهر خلالها جِيلان من علماء الفيزياء، لا يزال الباحثون يفكرون مليًّا فيما إذا كانت الإجابات تكمن في فيزياء غير معروفة، أم لا. ولم يضطلع أحد بتناول هذه الأسئلة بقدر ما فعل ستيوارت كوفمان.
في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وضع كوفمان - وهو باحث متخصص في الأنظمة المعقدة - نظرية بالغة التأثير؛ لتفسير نشأة الحياة، بناء على الجزيئات التي تتكاثر جماعيًّا فقط، وتُدعى المجموعات ذاتية التحفيز. وقد افترض أنه إذا اتسم حساء كيميائي ما من البوليمرات بتنوع كافٍ، فإن تلك المجموعات سوف تنشأ تلقائيًّا في صورة تغيّر في الطور، بمعنى حدوث تغيير مهم في الحالة أو الوظيفة، أقرب ما يكون إلى التحول من الحالة الصلبة إلى السائلة. تؤدي المجموعات وظائفها بشكل كُليّ، فتحفز تَشَكُّل جميع عناصرها الجزيئية على نحو تبادلي. وقد (استوحى كوفمان فرضيته من التطورات في رياضيات الشبكات، التي حققها بول إيردوش، وألفريد ريني، اللذان بَيَّنا كيف يحدث التغير الطوري في الشبكات العشوائية مع زيادة الارتباط). والآن، يتناول كوفمان هذا الأمر بالتفصيل في كتابه «عالم ما وراء الفيزياء» A World Beyond Physics.
تستند رؤية كوفمان المحورية إلى ما يُطلِق عليه «العالَم غير الاحتمالي» the nonergodicworld، المتعلق بأجسام أعقد من الذرات. ومعظم الذرات بسيط التكوين، ومن ثم يمكن لجميع حالاتها الممكنة الاستمرار لفترة زمنية معقولة. وبمجرد أن تبدأ الذرات في التفاعل لتكوين جزيئات، فإن عدد الحالات الممكنة يصبح هائلًا، لدرجة يعجز العقل عن استيعابها. لم ينشأ سوى عدد ضئيل من البروتينات متوسطة التعقيد - ولنَقُل بطول 200 حمض أميني مثلًا - عبر مجمل تاريخ الكون. إنّ توليد 20020 من البروتينات الممكنة سوف يستغرق دهورًا. وبالنظر إلى كل تلك المعوقات، ينشأ بالتالي سؤال بديهي، هو: كيف إذًا وُجِد كل ما هو موجود؟
من هذا المنطلق، يوسّع كوفمان نظريته حول المجموعات ذاتية التحفيز، طارحًا مفاهيم معينة، مثل الانغلاق، إذ ترتبط العمليات فيه بحيث تحفِّز كل واحدة منها العملية التي تليها، وذلك في دائرة مغلقة. كما يفترض أن المجموعات ذاتية التحفيز (من الحمض النووي الريبي، أو الببتيدات، أو كليهما) المُحاطة بكُرَة من الجزيئات الدهنية، قد تكوّن خلايا أوّلية ذاتية التكاثر. ويخمّن أن تلك الخلايا الأوّلية قد تتطور. وهكذا، فإن كل استحداث بيولوجي جديد يولِّد بيئة وظيفية ملائمة جديدة، ترعى بدورها مزيدًا من الأمور المستحدَثة. ولا يمكننا التنبؤ بما سيوجد، حسبما يقول، لأن وظيفة كل شيء تنتجه الطبيعة سوف تعتمد على ما جاء في السابق، وكذلك على الأشياء الأخرى الموجودة الآن، في ظل مجموعة دائمة التمدد مما هو ممكن في المرحلة القادمة.
لهذا.. يطرح كوفمان استنتاجًا مثيرًا للجدل، يقضي بعدم وجود قانون رياضياتي قادر على وصف التنوع الآخِذ في التطور، والمجال الحيوي المفعم بالحياة، حيث يقول في كتابه: «نحن لا نعرف المتغيرات ذات الصلة قبل ظهورها في عملية التطور». وهو يرى أنّ - في أحسن الأحوال - أيًّا من «قوانين الحياة» القائمة بالفعل سوف يصف التوزيعات الإحصائية لنواحي ذلك التطور؛ فعلى سبيل المثال.. قد تتنبأ هذه القوانين بتوزيع حوادث الانقراض، وربما يعتمد بزوغ الحياة على أسس الفيزياء، «لكنه غير قابل لأنْ يُستمد منها»، على حد قوله.
وإذا كان من غير الممكن اختزال الحياة إلى الفيزياء، فهل الحياة «تتجاوز الفيزياء»، حسبما يزعم كوفمان؟ إن هذا العصر رائع للعمل على استكشاف نشأة الحياة؛ فثمة جدل حامي الوطيس حول ما إذا كانت الفيزياء الحالية تفي بالغرض، أم أن هناك ضرورة لوجود مبادئ جديدة. هل سيؤدي استيعاب كيفية ظهور الشكل والوظيفة من تدفق المعلومات إلى فهم أعمق للحياة؟ أم سيقتصر فهْمنا للحياة على أنها عملية تمتد على نطاق الكوكب، وأنها مرتبطة جذريًّا بعلوم الكواكب الخارجية؟ وهل سيؤدي اندماج النظرية والتطبيق إلى ظهور مناهج جديدة تهدف إلى خلق حياة صناعية؟ هذه المناهج يجري تطويرها من خلال مجهود دولي، تُوج في عام 2015 بمؤتمر، عنوانه «نحو تصورات جديدة لأصول الحياة» Re-conceptualizing the Origins of Life، اجتذب باحثين من مؤسسات معينة، منها معهد سانتا فيّ بنيو مكسيكو، ومعهد علم الحياة على الأرض، التابع لـمعهد طوكيو للتكنولوجيا، وجامعة ولاية أريزونا في تمبي.
في نطاق قوانين الفيزياء، وليس فيما وراءها
أتفِقُ مع كوفمان في أن الحياة لا يمكن تفسيرها في ضوء قوانين الفيزياء الحالية التي بين أيدينا، لكنني أختلِفُ مع زَعْمه بأن التفسير «يتجاوز» حدود الفيزياء. ربما يكّمن التمييز في دلالات الألفاظ، لكنه مهم.
بلغت الفيزياء بالفعل مبلغًا من التطور يتجاوز كثيرًا مجرد وصف جوانب الواقع، سواء تلك الضخمة للغاية (الفلك، وعلم الكون)، أَم الصغيرة للغاية (الأنظمة الكمّية، وفيزياء الجزيئات)، أَم ذات الحجم البشري (الميكانيكا، كما درسها جاليليو جاليلي وإسحاق نيوتن). وقد تمخضت دراسة النواحي المتطورة في مجالات معينة، مثل علم الاقتصاد، وعلم الإليكترونيات، وفيزياء المناخ، وعلم المجتمعات، والديناميكا الحرارية للأنظمة غير المتوازنة، عن ظهور عدد من الأبحاث المثيرة للاهتمام.
تلك التطورات التي شملت مجالات متعددة تشير إلى أن الفيزياء ذاتها لا ينبغي اختزالها في الأنظمة التي وصفتها في الماضي، وإنما هي طريقة لرؤية العالم، تُقَدِّر أكثر الأوصاف تجريدًا وجوهرية، وتوحيدًا للواقع، بداية من الذرات، ووصولًا إلى الكون.
ضمن ذلك المدى يَكْمن تطور بيولوجي وتكنولوجي في ظواهر تتنوع من البشر، حتى المدن. وحتى الآن، ظل هذا المجال هو الأصعب، من حيث تلقِّي الزخم من المناهج المعتمِدة على المبادئ الأولى، نظرًا إلى كثافة التفاعلات عبر المكونات والنطاقات. إن السؤال الذي يبحث في وجود مبادئ فيزيائية تفسر الحياة يتطلب منا اعتبار أن جميع الأمثلة على الحياة قد تكون في صميمها جزءًا من الظاهرة الأساسية ذاتها، وإلا فلن تصبح «الحياة» خاصية موضوعية، وإنما مجموعة من الحالات الخاصة. هذه الرؤية الموحدة تبدو متناغمة مع مسعى كوفمان، لكنها تشير إلى أن التفسير قد يتطلب مبادئ فيزيائية جديدة.
قوة إحصائية
قد يكون الخيط الناظم الذي يفسر الحياة ذا طبيعة إحصائية، حسبما يرى كوفمان، وربما لا يزال يتمتع بخواص «أشبه بالقانون». فعلى أي حال، بعض القوانين الفيزيائية إحصائي بطبيعته، كما هو الحال في القانون الثاني من الديناميكا الحرارية.
بيد أن المناهج التقليدية لدراسة نشأة الحياة - مثل «فرضية عالَم الحمض النووي الريبي»، وغيرها من النماذج التي تعطي أولوية للجينات - لا يمكن حتى الآن صياغتها على هذا النحو. ويرجع هذا إلى أنها تطرح كثيرًا من الافتراضات، بناءً على خواص قد تتفرد بها كيمياء الحياة على الأرض، مثل فرضية أن الحمض النووي الريبي ضروري لنشأة الحياة.
تنطلق المجالات البازغة المتعلقة بـ«الكيمياء الفوضوية»، ومناهج أبحاث نشأة الحياة المعتمِدة على الحياة الاصطناعية، من خلائط كيميائية تصاعدية، بحد أدنى من الافتراضات حول الشكل المحتمل للحياة البازغة. وعلى سبيل المثال.. (يُجْرِي الكيميائي لي كرونين تجارب على التجميع الذاتي والتنظيم الذاتي في الجزيئات الكبيرة، مثل أكاسيد الفلزات). وهكذا، يحاول هذا المجال اعتماد منهج توفيقي، وقد يطرح سبلًا جديدة لوضع نظريات حول المبادئ الكونية التي تصل بين المادة غير العضوية، والحياة. ولعل هذا يتمخض عن نقلة مفاهيمية جديدة.
لقد طرح كوفمان بأسلوبه الفريد الأسئلة التي نحتاج إلى حلها حول لغز الحياة، ونشأتها، لكنْ لا يزال أمام الجيل القادم عمل كثير؛ كي يتوصّلوا إلى إجابات تلك الأسئلة.
سارة إماري ووكر أستاذ مساعد في كلية الأرض واستكشاف الفضاء، ونائبة مدير مركز بيوند للمفاهيم الأولية في العلوم بجامعة ولاية أريزونا في تمبي.
البريد الإلكتروني: sara.i.walker@asu.edu