كتب وفنون

الفيزياء: حروب نظرية الكَمّ

يستكشف رامين سكيبا تاريخًا من الأسئلة غير المجاب عنها وراء تفسير كوبنهاجن.

رامين سكيبا
  • Published online:
نيلز بور (على اليسار) مع ألبرت أينشتاين في أواخر العشرينيات، عندما كانت ميكانيكا الكَمّ لا تزال في مهدها.

نيلز بور (على اليسار) مع ألبرت أينشتاين في أواخر العشرينيات، عندما كانت ميكانيكا الكَمّ لا تزال في مهدها.

EMILIO SEGRE VISUAL ARCHIVES/AIP/SPL

"ما الحقيقي؟: المسعى غير المكتمل، لمعرفة معنى فيزياء الكَمّ"

آدم بيكر، دار نشر "بيزك"، 2018

انقلبت الفيزياء رأسًا على عقب قبل 90 عامًا من الآن؛ إذ ظهرت نظرية الكَمّ، ورجع ظهورها جزئيًّا إلى صدامات حامية بين ألبرت أينشتاين، ونيلز بور. فرضت هذه النظرية، ولا تزال تفرض، تحديًا لطبيعة العلم في حد ذاته، من خلال إحداث توتر حاد في العلاقة بين النظرية، وطبيعة الواقع. يستكشف آدم بيكر­­ – الكاتب العلمي، وعالِم الفيزياء الفلكية – هذه القصة المتشابكة في كتابه «ما الحقيقي؟» ?What is Real.

يتحدى بيكر هيمنة تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم. فهذه النظرية التي طرحها بور وفيرنر هايزنبيرج في عشرينيات القرن الماضي تقول إن الأنظمة الفيزيائية لها احتمالات فحسب، وليس خصائص محددة، حتى تُقاس. ويزعم بيكر أن محاولة تحليل كيف يعكس هذا التفسير العالَم الذي نعيش فيه يكتنفها الغموض. وفي معرض إظهاره أن تطوّر العِلم يتأثر بالأحداث التاريخية، ومن بينها العوامل الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، يستكشف بيكر تفسيرات بديلة، ويؤكد أنه لو كانت الأحداث قد وقعت بشكل مختلف في عشرينيات القرن الماضي؛ لربما اختلفت نظرتنا إلى الفيزياء كليةً.

يركز بيكر على مؤتمر سولفاي، الذي عُقِد عام 1927 في بروكسل، حيث اجتمع 29 عالِمًا نابغًا لمناقشة نظرية الكَمّ الوليدة. ففي هذا المؤتمر، بلغ الخلاف ذروته بين بور، وأينشتاين، وغيرهما من العلماء، مثل إيروين شرودنجر، ولوي دي بروي. فبينما اقترح بور أن الكيانات (مثل الإلكترونات) يظل لها احتمالات فقط في حالة عدم رصدها، جادل أينشتاين بأنها ذات واقع مستقل، طارحًا في هذا السياق زعمه الشهير: "الإله لا يلعب النرد". وبعد أعوام، أضاف توضيحًا وجيزًا: "ما ندعوه بالعلم له هدف واحد، هو تحديد ما هو قائم". وفجأة، أصبحت فكرة الواقعية العلمية – وهي فكرة أن النظريات العلمية المثبتة تعكس الواقع بوجه عام – في خطر.

أثارت الظواهر الكمية حيرة هائلة لدى الكثير من الناس. وكان أول هذا الظواهر ازدواجية الموجة والجسيم، حيث يمكن للضوء أن يقوم بدور الجسيمات.ويمكن للجسيمات، كالإلكترونات، أن تتداخل مثل موجات الضوء. وفقًا لبور، فإن النظام يتصرف كموجة أو كجسيم على حسب السياق، ولا يمكن التنبؤ بنوع المسار الذي سيتخذه.

ثانيًا، أظهر هايزنبيرج أن الشك، مثل الشك بشأن موضع الجسيم وقوة دفعه، هو أمر متأصل في الفيزياء. ثالثًا، زعم بور أنه يمكن أن تكون لدينا معرفة احتمالية فقط بنظام ما؛ ففي تجربة شرودنجر الفكرية، تكون القطة الموجودة في الصندوق حية وميتة على حدٍ سواء، إلى أن تُرَى. رابعًا، يمكن أن تصبح الجسيمات متشابكة. على سبيل المثال.. قد يكون لجسيمين دورنان متعاكسان، بغض النظر عن بعدهما عن بعضهما البعض؛ فإذا قِسْتَ أن دوران أحدهما متجه لأعلى، تعرف تلقائيًّا أن دوران الآخر متجه لأسفل. وقد (أسمى آينشتاين هذه الظاهرة "التأثير الشبحي عن بُعد").

ويشرح بيكر كيف أن هذه الملاحظات تتحدى الموضعية، والسببية، والحتمية. وهي  المبادئ الثلاث التي لم تمثل أبدًا مشكلات في عالم الفيزياء الكلاسيكية ونظرياته حول كرات البلياردو، والمقذوفات، والتفاح المتساقط من الشجر.

ومن خلال تصفُّح التاريخ، يوضح بيكر كيف استمال بور - بوصفه معاديًا للواقعية - إلى جانبه العديد من علماء الفيزياء الصاعدين، ومن بينهم: هايزنبيرج، وفولفجانج باولي، وماكس بورن. أما أينشتاين، فقد أصر على قوله إنّ تفسير كوبنهاجن لم يكن كاملًا. ورأى أنه ربما تكون ثمة متغيرات أو عمليات خفية تقوم عليها الظواهر الكمية؛ أو ربما تتحكم "الموجات الدليلية"، التي اقترحها دي بروي، في سلوك الجسيمات. وفي عام 1932، توّصل عالِم الرياضيات جون فون نيومان إلى برهان يزعم أنه ربما لا توجد متغيرات خفية في ميكانيكا الكَمّ. وبالرغم من صحة هذا البرهان من الناحية الرياضية، فقد تَبيّن بعد عقود أن به أخطاء، لكنّ الضرر كان قد وقع بالفعل؛ فالبدائل القابلة للتطبيق، التي طرحها أينشتاين، ودي بروي، بقيت غير مستكشَفة نسبيًّا. وبحلول الثلاثينات، كان تفسير كوبنهاجن قد ساد. وتشير الكتب الدراسية اليوم إلى أن رؤية بور هي التي "ربحت".

لذا يمكن اعتبار مؤتمر سولفاي لحظة مواجهة بين نموذجين متعادلين رياضيًّا، لكنهما مختلفان جوهريًّا؛ هما: رؤية بور الذرائعية لفيزياء الكَمّ، ورؤية أينشتاين الواقعية. وفي العِلم، يحدد النموذج الفكري السائد أي التجارب ستُجرَى، وكيف ستُفسَر، وأي طريق سيسلكه البرنامج البحثي.

والسؤال الآن، ماذا يحدث إذا اختار أحد المجالات النموذج الخاطئ؟ يوضح بيكر كيف أنه في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين استطاعت مجموعة صغيرة من علماء الفيزياء نفض الغبار عن نظريات أينشتاين، ودي بروي، وتحويلها إلى تفسيرات كاملة، قادرة على إعادة تنظيم الوضع الراهن. إذ جادل ديفيد بوم بأن الجسيمات في الأنظمة الكمية موجودة، سواء رُصِدت، أم لم تُرصَد، وأن لها مواضع وحركات يمكن التنبؤ بها، وتحددها الموجات الدليلية. وبعد ذلك، أوضح جون بيل أن مخاوف أينشتاين بشأن الموضعية وعدم الاكتمال في تفسير كوبنهاجن كانت صحيحة، وكان هو مَن دحض برهان فون نيومان، إذ كشف أن البرهان  استبعد فئة صغيرة فقط من نظريات المتغيرات الخفية.

استقبل المجتمع العلمي أفكار بوم ببرود. وقال جيه روبرت أوبنهايمر، أستاذ بوم سابقًا: "إذا لم نستطع تفنيد مزاعم بوم، فعلينا أن نتفق على تجاهله". كذلك أدّت أفكار بوم اليسارية، حسبما يوضح بيكر، إلى مثوله أمام لجنة الأنشطة غير الأمريكية، التابعة لمجلس النواب، ما ترتب عليه نبذه من المجتمع العلمي.

وطرح عالِم الفيزياء هيو إفريت، المعاصر لبوم، تحدٍ آخر لتفسير كوبنهاجن. ففي عام 1957، عزم إفريت حلّ "مشكلة القياس" في نظرية الكَمّ، أي التعارض بين الطبيعة الاحتمالية للجسيمات على المستوى الكَمّي، و"انهيارها" عند قياسها إلى حالة واحدة على المستوى المجهري.

لم يفترض تفسير العوالم المتعددة الذي طرحه إفريت وجود أي انهيار، بل افترض تشعُّب الاحتمالات في لحظة القياس إلى أكوان متوازية؛ على سبيل المثال كون تكون فيه قطة شرودنجر حية، وكون آخر تكون فيه ميتة. ورغم أن وجود عدد لا نهائي من الأكوان غير القابلة للاختبار يبدو غير علمي للبعض، فإن كثيرين من علماء الفيزياء اليوم يَعتبِرون هذه النظرية مهمة.

يحتوي كتاب «ما الحقيقي» على بعض أوجه القصور البسيطة؛ إذ يفرد بيكر مساحة أكبر من اللازم للتطبيقات الحديثة المستندة إلى أبحاث بيل، ومساحة أقل من اللازم للتطورات الجديدة في فلسفة العلوم، لكنه، شأنه شأن عالِم الكونيات شين كارول في كتابه "الصورة الكبيرة" The Big Picture الصادر عام 2016 (انظر R. P. Crease Nature 533, 34; 2016)، يقيم الحجج الدامغة لبيان أهمية الفلسفة. وهذا أمر مهم في ظل وجود علماء مؤثرين، مثل نيل ديجراس تايسون، يرفضون هذا الفرع من المعرفة، باعتباره إهدارًا للوقت.

إن كِتاب «ما الحقيقي؟» هو نِقاش يهدف إلى الإبقاء على التفتح الذهني. ويذكّرنا بيكر بأننا يجب أن نتحلى بالتواضع عندما ندرس التفسيرات والسرديات الكثيرة التي تشرح البيانات نفسها.

 

رامين سكيبا عالِم فيزياء فلكية، تَحَوّل إلى الكتابة العلمية، وهو مقيم في سان دييجو بكاليفورنيا.

البريد الإلكتروني:  raminskibba@gmail.com