تحقيق إخباري
مجابهة التحيز في دراسات الجينوم
علماء من مجموعات سكانية لا تحظى بتمثيل كافٍ يتزعمون جهودًا لجعل دراسات الجينوم أكثر شمولًا؛ بالعمل مع مجتمعات تعرَّضت للإهمال أو الاستغلال.
- Nature (2019)
- doi:10.1038/d41586-019-01166-x
- English article
- Published online:
عرضت صور لكريستيان وجينارو وإسيدرا (من اليسار إلى اليمين بالترتيب) ضمن مشروع تصوير فوتوغرافي يهدف للاحتفاء بثقافة المكسيكيين المنحدرين من أصل أفريقي في كويوليلو بالمكسيك، وهم أحفادُ أفراد من العبيد جُلبوا من إفريقيا في القرن السادس عشر.
KORAL CARBALLO
ظل نيستور رويز هيرينانديز يناضل لعقود من أجل الحصول على الاعتراف بمجموعته العرقية. فقد نشأ في بلدة قُرب ساحل المحيط الهادئ بجنوب المكسيك، حيث يعزو، ومعه آخرون كُثر، أصولهم إلى أنها تنحدر من مجموعة عبيد، جُلبوا من إفريقيا عبر المحيط الأطلنطي في القرن السادس عشر. وهم يعتبرون أنفسهم مكسيكيين من أصل إفريقي، لكن الحكومة المكسيكية لا تعترف رسميًّا بهم كأقلية عرقية. وإذا تحقق هذا الاعتراف، فربما يتلقَّى أعضاء هذه المجموعة تمويلًا حكوميًّا لتنظيم برامج ثقافية، وأخرى تخصّ الصحة العامة. لكن في الوضع الراهن، يتم تجاهلهم تمامًا.
وفي عام 2015، قابل رويز هيرينانديز ماريا أفيلا، عالمة الوراثيات السكانية من جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. وأرادت أفيلا تحليل الحمض النووي لمجموعات المكسيكيين المنحدرين من أصل إفريقي في ولايات فيراكروز وجيريرو وآواخاكا؛ سعيًّا وراء تحديد مدى انتمائهم إلى الأصل الإفريقي. لكن مشروعها واجه عددًا من الصعوبات. فعندما تواصلت مع أفراد هذه المجتمعات لاحظت أن كثيرًا منهم لا يعرف القراءة أو الكتابة، وأن بعضهم لا يعتبرون أنفسهم مكسيكيين من أصل إفريقي. ومن ثمَّ كان عليها التفكير مليًّا في طريقة عرض نتائج الدراسة عليهم.
واستعاضت أفيلا عن عرض النسب المئوية التي توضِّح مدى انتمائهم إلى الأصل الإفريقي واختارت تقديم النتائج في شكل رسومات للكروموسومات، يظهر فيها كل جزء مرمّز بلون معين وفقًا لتركيبه الوراثي، فالأخضر يشير إلى أصل إفريقي، والأحمر إلى مكسيكي أصلي، والأزرق إلى أوروبي. ويقول رويز هيرينانديز: "قرأ الباحثون النتائج لنا، وشرحوا معنى كل لون"، ثم أضاف: "اتّضح أن أمي مكسيكية من أصل إفريقي، بينما أبي ينحدر من نسل المكسيكيين الأصليين". لم يتوقع رويز هيرنانديز، الذي كان يعتبر نفسه "مكسيكيًا من أصل إفريقي بنسبة 100%" هذه النتيجة، لكنه أشار إلى رضائه عن الدراسة، وكذلك كان رد فعل آخرين من مجتمعه ممن شاركوا بها، ويصف هيرنانديز ذلك قائلًا: "لقد طرحوا أسئلة، وضحكوا، وأبدوا اهتمامًا بالنتائج".
وتعتبر أفيلا، التي تقود حاليًّا مجموعة متخصصة في أبحاث الجينوم بالجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك بولاية كويريتارو، واحدة ضمن عدد متزايد من الباحثين الذين يُحدِثون حركات تغيير في علم الجينوم البشري. إذ قدم هؤلاء العلماء الواعدون -الذين ينتمى كثير منهم إلى مجموعات لا تحظى بتمثيل كافٍ في قواعد الحمض النووي، وفي القوة العاملة البحثية على حدٍ سواء - استشارات ومشاركات مجتمعية بالغة الأهمية لأبحاثهم الذين يجرونها مع المجموعات السكانية الأصلية وغيرها من المجموعات المهمَّشة. وهم ينشرون توصيات أخلاقية 1،2، ويدشِّنون برامج تدريبية للسكان الأصليين، ويتصدَّرون مسيرة التعاون مع الأقليات في أبحاث الجينوم. ويقول كيلو فوكس -عالم الجينوم وأخصائي علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) من جامعة كاليفورنيا، في سان دييجو، وأحد سكان هاواي الأصليين- ثمة حاجة ماسة إلى ما يبذله هؤلاء العلماء من جهود، مضيفًا: "مستوى تمثيل المجموعات العرقية الأخرى حاليًّا منخفض جدًا، ويكاد يكون منعدمًا".
فليس من السهل بناء الثقة، وإرساء شراكات طويلة الأمد مع المجتمعات، وكثير من العاملين في هذا المجال لا يزالون يسعون إلى اكتشاف طريقة تُوازن بين تحقيق الأهداف العلمية، واحترام الاعتبارات الثقافية في آن واحد.
وينتاب فوكس القلق من أن بعض الأشخاص لا يزال ينظر إلى أفراد مجموعات السكان الأصليين للمجتمعات باعتبارهم فئران تجارب لا شركاء في البحث، ويصف فوكس هذا المنظور الشائن بأنه "استعماري بيولوجي". لكنه واثق من أن الجيل الجديد من باحثي الجينوم سيبلون بلاءً أفضل. فيضيف قائلًا: "يتمتع الباحثون الأصغر سنًا - على الأرجح - بحسٍ أعلى مما يُعبر عنه بلغة أهل هاواي بكلمة "Kuleana"، أي المسؤولية". ويقول فوكس إن بعض هؤلاء الباحثين الأصغر سنًا يطلق على هذا الاتجاه البحثي العلم "الواعي بالعنصرية والظلم".
تنوُّع غير كافٍ
على مدار الثلاثين عامًا الماضية، أحرزت دراسات الجينوم البشري تطورات مثيرة للحماس في مجال إعادة تصوُر تاريخ السكان وتحديد الجينات التي تجعل فردًا ما عرضةً للإصابة بمرض معين. ولكن معظم دراسات الجينوم ركزت على أفراد ينحدرون من أصل أوروبي. إذ كشف تحليل نُشر في شهر مارس من العالم الحاليّ (2019)، أنه منذ عام 2018، 22% فقط من الأفراد المشاركين في دراسات الترابطات في كامل نطاق الجينوم كانوا من أصل غير أوروبي3. وقد مثل الأفراد المنحدرون من أصول إفريقية ولاتينية أمريكية إلى جانب الشعوب الأصلية مجتمعين معًا أقل من 4% من المشاركين (انظر "التنوع المفقود").
Source: Ref. 3
وبُذلَت بعض الجهود لزيادة التنوّع في دراسات الجينوم. ففي عام 2010، أطلقتْ معاهد الصحة الوطنية (NIH) في الولايات المتحدة، بالتعاون مع صندوق «وِيلْكَم تراست» Wellcome Trust في لندن، مبادرة الوراثة والصحة البشرية في إفريقيا (H3Africa)، التي تدعم أبحاث الجينوم المدارة في القارة السمراء. وفي العام الماضي، فتحت معاهد الصحة الوطنية باب التسجيل في البرنامج البحثي المسمى «جميعنا» All of Us، والذي يستهدف جمع بيانات الحمض النووي، والبيانات المتعلقة بالصحة من مئات آلاف الأفراد المنتمين إلى أعراق مختلفة في الولايات المتحدة.
ويقول تشارلز روتيمي، النيجيري المؤسس لمبادرة الوراثة والصحة البشرية في إفريقيا، وأخصائي علم الوبائيات الوراثية في المعهد الوطني لأبحاث الجينوم البشري في بيثيسدا بولاية مريلاند، إن تلك البرامج تمثل "بداية جيدة جدًا". ويضيف روتيمي، الذي قاد أولى الجهود الساعية لإدراج الشعوب الإفريقية في المشروعات الجينومية واسعة النطاق في تسعينيات القرن العشرين، أنه آنذاك لم يوجد بين علماء الوراثة سوى قلة من أصل إفريقي ممن على شاكلته، ويتابع قائلًا إنه بعد مرور أكثر من عشرين عامًا "أخذنا نبلي بلاءً أفضل، لكن في وسعنا التحسن أكثر".
وتتعدّد الأسباب وراء نقص التنوع في أبحاث الجينوم. لكن من بينها ماضٍ مملوء بإساءات علماء الغرب. واشتملت قصة مشينة من هذا الماضي على باحثين من جامعة ولاية أريزونا جمعوا عينات من أفرد قبيلة «هافاسوباي» Havasupai في أريزونا في تسعينيات القرن الماضي لدراسة عن داء السكري، لكنهم استخدموا العينات لاحقًا، دون موافقة القبيلة، في دراسات عن مرض الشيزوفرينيا (فصام الشخصية)، وأنماط الاختلاط بين السكان، والهجرة. وفي عام 2010، حصلت قبيلة «هافاسوباي» على تسوية تبلغ قيمتها 700 ألف دولار أمريكي في دعوى قضائية، وأُجبرت الجامعة على إعادة جميع العينات التي جمعتها.
ودفعت المخاوف من إساءة استخدام الحمض النووي بعض المجتمعات إلى الإحجام عن المشاركة في دراسات الوراثة. كما قد يتردد العلماء في التواصل مع بعض المجموعات السكانية، حتى مع المجموعات الراغبة في المشاركة منها. وتقول جينفر راف، أخصائية علم الإنسان، وعالمة الوراثة، من جامعة كنساس في مدينة لورانس، إنه في ظل غياب تدريب رسمي على كيفية العمل مع مجموعات السكان الأصليين، أو المجموعات المهمشة الأخرى: "يشعر بعض الباحثين بالحيرة حيال ما يجب فعله، ولهذا يختارون التواصل مع مجموعة سكانية أسهل في التعامل معها".
وتحاول قلة من العلماء من السكان الأصليين، أو غير الأصليين، وضع حد لتلك الحلقة من عدم التواصل. ففي عام 2011، أطلق ريبان مالي، أخصائي علم الإنسان الجزيئي من جامعة إلينوي في إربانا-شامبين، برنامج تدريب صيفيًا للسكان الأصليين على علم الجينوم، ويعرف البرنامج اختصارًا بـ(SING). وهذا البرنامج التدريبي المنعقد سنويًّا، لمدة أسبوع، يدرسه أعضاء هيئة تدريس أغلبهم من السكان الأصليين، ويتيح لأفراد من المجتمعات الأصلية، بما في ذلك طلاب الكليات والجامعات الخاصة بالقبائل، التعرف على دراسات الجينوم، ومناقشة استخداماتها، وطرق إساءة استخدامها. وتلقت ورشة العمل في البداية تمويلًا من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية، وجامعة إلينوي، وتدعمها الآن معاهد الصحة الوطنية.
ومنذ بدايته، درّب برنامج SING ما يزيد على 150 مشاركًا وتوسع إلى نيوزيلاندا وكندا. وواصل بعض خريجي البرنامج دراستهم ليحصلوا على درجة الدكتوراه في علم الوراثة، وليشرعوا في إنشاء مختبراتهم الخاصة. وكانت كاترينا كلاو، التي تنحدر من قبيلة «دينيه» Diné/«نافاجو» Navajo، طالبة دراسات عليا في جامعة واشنطن في سياتل عندما حضرت أول ورشة عمل عقدها البرنامج، وهي الآن باحثة في مجال الجينوم ستنضم إلى حرم أنشوتز الطبي الجامعي بجامعة كولورادو في منصب أستاذ مساعد، في شهر أغسطس من عام 2019. وقد ساعد البرنامج، على حد قول كلاو، على تشكيل حياتها المهنية. فتقول كلاو: "لم أتواجد قطّ قبلًا في مكان يضم طلاب آخرين من السكان الأصليين يبدون اهتمامًا بدراسات الجينوم".
وبعدما حصلت كلاو على درجة الدكتوراه، ظلت في جامعة واشنطن، ودرست الأسباب التي تجعل عملية أيض النيكوتين لدى السكان الأصليين من الهنود الأمريكيين، وشعب ألاسكا أسرع، مقارنة بالأفراد الذين ينحدرون من أصول عرقية أخرى. وتعاونت كلاو أيضًا مع نانيبا جاريسون، عالمة الوراثة، وأخصائية أخلاقيات علم الأحياء في مستشفى سياتل للأطفال، وواحدة من أفراد مجتمع محمية «نافاجو». وقد هدف التعاوُن إلى عقد مقابلات مع الزعماء والمختصين بالعملية التعليمية وأفراد المجتمع من الأمريكيين الأصليين لمناقشة مخاوفهم، واستطلاع اقتراحاتهم بخصوص كيفية تحسين أبحاث علم الوراثة في المجتمعات القبلية.
ولم تُنشر بعد نتيجة استطلاع الرأي هذا. ولكن جاريسون - التي تساعد أفراد مجتمع محمية «نافاجو» على تطوير لوائح تنظيمية من شأنها السماح بإجراء أبحاث جينية على أراضي القبيلة بعد حظر دام 17 عامًا - صرّحت بأن النتائج سوف تسهم في إرشاد وضع السياسة العلمية لدى القبيلة. وتضيف: "إذا شعر أفراد القبائل بتمكينهم من اتخاذ القرارات نيابة عن أنفسهم، بدلًا من الاتكال على آخرين، فربما يؤدي ذلك إلى مشاركتهم بقدر أكبر في هذه الأبحاث".
أقليات لم تختفِ بعد
تدرك كريستال تسوسي، باعتبارها تنتمي إلى أحد أصغر الأقليات عددًا في الولايات المتحدة، ماهية الشعور بالتجاهل، وأن "تُنكر وجهة نظرك لأن الناس يعتقدون أن الأقلية التي تنتمي إليها قد اختفت"، على حد تعبيرها. ولهذا السبب تدافع تسوسي عن أحقية أفراد السكان الأصليين في أن يكونوا شركاء متساوين في الأبحاث الجينية، بدلًا من كونهم مجرد مشاركين.
وتسوسي هي عالمة وراثة من جامعة فانديربيلت في ناشفيل، بولاية تينيسي، تنحدر أصولها من قبيلة «دينيه»/«نافاجو»، وتعمل بالتعاون مع مجموعة من هنود قبيلة «تشيبيوا» Chippewaفي محمية «ترتل ماونتن» Turtle Mountain بداكوتا الشمالية من أجل استكشاف العوامل الجينية التي ربما تفسِّر سبب تعرض بعض النساء في هذا المجتمع لخطر الإصابة بمقدمات تسمم الحمل أكثر من غيرهن من النساء. إذ يسبب هذا المرض ارتفاعًا في ضغط الدم خلال الحمل، ويزيد من خطر إصابة الأم بالتشنجات، ومن خطر الولادة المبكرة.
يهدف كيلو فوكس، أخصائي علم الإنسان وأحد سكان هاواي الأصليين، إلي إنشاء شبكة من المراكز البحثية تقودها مجتمعات مختلفة من الشعوب الأصلية.
Ryan Lash/TED
بدأت هذه الدراسة قبل 15 عامًا على يد لايل بيست، ممارس طب العائلة في محمية «ترتل ماونتن». وفي عام 2017 كان لايل يبحث عمن يستكمل دراسة مقدمات تسمم الحمل بعدما ترك المحمية. آنذاك كانت تسوسي تبحث عن مشروع لرسالتها للدكتوراه، يركز على الأمريكيين الأصليين، وهكذا "جاءت الدراسة في الوقت المناسب"، على حد قولها.
وتشرف تسوسي حاليًّا على مختبر علم الوراثة في كلية ترتل ماونتن المجتمعية في بيلكورت، بداكوتا الشمالية، وتتعاون مع مجلس مراجعة الأبحاث المتعلقة بالقبيلة، الذي يتولى أعمال فحص بروتوكولات البحث، ويضمن أن القبيلة تحظى بالتمثيل المناسب في منشورات المشروع.
كذلك تحاول تسوسي إشراك نطاق أكبر من المجتمع في المشروع، بدعوة متدربي البحث مثلًا لعقد مقابلات على محطة إذاعة الراديو المحلية، وحتى الآن عمل أكثر من 40 طالبًا جامعيًا من القبائل في مشروع مقدمات تسمم الحمل، حسبما تقول تسوسي.
وتشير ستايسي بلو، أحد أفراد مجتمع «ترتل ماونتن»، ومدرسة متخصصة في الموارد الطبيعية بالكلية المجتمعية إلى أن الطلاب في صف الأحياء العامة الذين تُدرّس لهم، متحمسون لمشروع مقدمات تسمم الحمل، وتضيف: "إنهم يشاهدون باحثين من أصول قبلية يشاركون في العلم ويتولون قيادة المشروعات العلمية. وهذا مشجع. إنه حدث جلل".
وعلى الرغم من كون البحث القائم على المشاركة المجتمعية مفهومًا جديدًا نسبيًّا في دراسات الجينوم، فإنه يكتسب مزيدًا من الزخم. على سبيل المثال، تعمل راف في مشروع خرج من رحم مناقشة مع شيوخ شعب «الأنوبيات» Iñupiat القاطنين في منحدر القطب الشمالي في ألاسكا.
قبل بضع سنوات من انضمام راف إلى جامعة يوتا في مدينة سولت لايك سيتي، في مرحلة زمالة ما بعد الدكتوراة، طلب أفراد من شعب الأنوبيات دعمًا من المجتمع البحثي للتنقيب الأثري عن رُفَات أسلافهم التي كانت تنجرف إلى المحيط؛ نتيجة لتآكل الساحل. وأبدى مجتمع الأنوبيات كذلك اهتمامًا بإجراء تحليل الحمض النووي لرفات الأسلاف، ولذلك بدأوا في التعاون مع دينيس أورورك، أخصائي علم الإنسان والمشرف على دراسات ما بعد الدكتوراه التي تجريها راف.
وتقول راف: "كان المشروع مدفوعًا كليًّا بجهود المجتمع المحلي". إذ نقَّب طلَاب محلّيون عن رفات الأسلاف، وتشاور أفراد من القبيلة مع العلماء بشأن كيفية تنفيذ المشروع. وفي أثناء تلك المناقشات، طلب أحد الشيوخ من راف تحليل الحمض النووي لأفراد مجتمع الأنوبيات الحاليين أيضًا. واستجابةً لهذا الطلب طوّرت راف وزملاؤها مشروعًا آخر قارنوا فيه الحمض النووي من أسلاف شعب الأنوبيات مع الحمض النووي لأفراد المجتمع المعاصرين؛ سعيًّا لدراسة التاريخ4 الجيني لجماعة الأنوبيات.
في ذلك، تقول راف: "المهم هو تقصّي أوجه إفادة المجتمعات واكتشافها، ثم تضمين تلك الأوجه بوضوح في مشروعك البحثي".
ويتبع مالي نهجًا مماثلًا. فحالما يعقد شراكةً جديدة، يتعاون مع قادة المجتمع لإبرام اتفاقية مكتوبة توضح بالتفصيل توقعات أفراد المجتمع والباحثين على حد سواء. فيقول مالي: "ما إن تتوفر لدينا هذه الاتفاقية، نكون قد أنجزنا خطوة هائلة لأننا أصبحنا نعلم ما يتوقعه كل طرف من الآخر".
لكن لا تخلو المهمة من التحديات. فيقول مالي إن أهم تحدٍ هو الوقت؛ فبمجرد أن يتوصل الباحثون إلى نتيجة، لا يسعهم نشرها فورًا. بل عليهم الرجوع إلى المشاركين، وسماع آرائهم. ويصف مالي ذلك قائلًا: "يتعين علينا التأكد من أننا لن نعلن عن نتائج قد تُلحق ضررًا بالمجتمع". وقد تستغرق تلك العملية التكرارية عدة سنوات، وأحيانًا يقرر قادة المجتمع أنهم يرغبون في أخذ فترة راحة من المشاركة في البحث. ويقول مالي إن أحد مشروعاته تعطل لأكثر من ست سنوات. ومن الصعب مواءمة وضع كذلك مع منح التمويل البحثية التي تُمنح لفترة زمنية محدودة فقط. ويتابع: " المنظومة القائمة ليست مهيَّأة للأبحاث المرتكزة على المجتمع".
وتقول ديبتي جورداساني، أخصائية الأوبئة الوراثية في معهد ويلكم سانجر في هنكستون، بالمملكة المتحدة، إنه لا بدّ أيضًا أن يتوخى علماء الجينوم الحذر عند نقل النتائج المتعلقة بالقضايا الحساسة؛ مثل الهجرة واختلاط الشعوب.
وتشارك جورداساني كجزء من دراسات ما بعد الدكتوراة مع عالم الوراثيات السكانية مانجندير ساندو في عدة مشروعات بحثية، تغطي المناطق التي مزقتها الحروب الأهلية الحديثة في إفريقيا. وتجنبًا لتعزيز العنف، تجري المجموعة البحثية محادثات مطوَّلة مع زعماء المجتمع المحلي، لفهم وجهة نظرهم قبل إبلاغهم بالنتائج المتعلقة بتاريخ السكان. وتقول جورداساني: "إننا نُشرك كذلك باحثين جامعيين محليين، وعاملين ميدانيين، فهم يدركون جيدًا القضايا المحلية الحساسة".
ويقول جايمز سوزمان، أخصائي علم الإنسان الاجتماعي في كامبريدج بالمملكة المتحدة، والذي يرأس مؤسسة استشارية تقدم نصائح وتوصيات إلى الشركات والحكومات بشأن تأثيرات برامجها في المجتمعات في جنوب قارة إفريقيا، إنه حتى عند موافقة المجموعات السكانية على المشاركة في البحث، لا يزال يتعيَّن على العلماء الحصول على موافقة الأفراد أنفسهم.
وفي عام 2016 قام سوزمان، الذي عمل مع مجتمعات الـ«سان» San في إفريقيا الجنوبية على مدار 30 عامًا، بعقد ورشة عمل موجهة لمجموعتين بعينهما، لتطوير عملية قياسية لحيازة الموافقة على المشاركات البحثية. وبعد يومين من المناقشات الدائرة عن أبحاث الجينوم، أخبر زعماء المجتمع المحلي سوزمان أنهم لا يفهمون علم الوراثة، ويفضّلون تفويض فرد ذي ثقة ليتفاوض بشأن مسألة المشاركة في الدراسة نيابةً عنهم. ويقول سوزمان إن تخيّل الحمض النووي أو الخلايا قد يكون بالغ الصعوبة "إذا لم تتح لك رؤيتهما عبر المجهر، أو لم تتطلع على صورة لهما معروضة في كتاب مدرسيّ". ويقول إن الدرس المستفاد هو أن الحصول على موافقة حقيقية "مهمة تفوق كثيرًا في صعوبتها ما يتخيله معظم ممولي هذا النوع من الأبحاث".
الخروج بتنوُّع متناغم
تسافر ماناسا راجافان، عالمة الوراثة البشرية من جامعة شيكاغو في ولاية إلينوي، إلى الهند مرة كل بضعة أشهر من أجل عقد مناقشات عامة بشأن أبحاث الجينوم. وهناك ينضم إليها نيراج راي، الباحث من معهد بيربال ساهني لعلوم التاريخ الجيولوجي في لكناو، والذي أسس عام 2017 أول مختبر في الهند لدراسة الحمض النووي القديم. وأحد الأسئلة التي غالبًا ما تطرح عليهما تتعلق بأوجه الاختلاف بين المجموعات السكانية المتباينة من الناحية الوراثية، وهو "سؤال مشروع تمامًا"، على حد قول راجافان، كما أنه أحد الأسئلة التي دفعتها إلى دراسة علم الجينوم السكاني.
تتميز المجموعات السكانية الهندية باختلاط جيني كبير. ويقول راي: "لدينا هنا قدر كبير من التنوع". لكن يظل توقيت حدوث هذا الاختلاط وكيفيته، مجهولين. ويأمل راي وراجافان في أن يساعدهما الجمع بين قواعد البيانات الجينية القديمة والحديثة في الهند على التوصل إلى فهم أفضل بخصوص كيفية نشأة بعض المجموعات السكانية بجنوب آسيا. وعقب التواصل مع زعماء من مجتمعات ريفية وحضرية في أنحاء الهند، التقى الثنائي معهم لمناقشة المشروعات البحثية، ومعرفة الأسئلة التي يتوق السكان المحليون إلى الحصول على إجاباتها. وتقول راجافان: "كثير من الناس مهتمون بمعرفة الأصل الذي انحدروا منه، ومعرفة هوية أسلافهم".
وأحد المجتمعات التي يتعاون معها راي وراجافان مجموعة من السكان يتحدثون اللغة التيلوجوية، ويعيشون في قرية صغيرة قرب مدينة جونتور، بولاية أندرا براديش. ويقول صادوق ياكوبي، الزعيم الروحي للمجموعة، إن هناك 50 عائلة تقريبًا في هذه القرية تعتنق الديانة اليهودية، ومعظمهم يجيدون القراءة والكتابة باللغة العبرية. ويضيف ياكوبي أن أفراد هذا المجتمع ينحدرون من سِبط «إفرايم» Ephraim، وهو واحد من الأسباط الإسرائيلية العشرة المفقودة. ويأمل في أن يساعدهم تحليل الحمض النووي لأفراد القرية على الاعتراف بكونهم يهودًا. ويقول ياكوبي إنه في الوقت الحاليّ يتوق 200 شخص تقريبًا ممن قدّموا عينات الدم للفريق إلى معرفة معلومات عن أسلافهم.
وبالإضافة إلى الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالتاريخ الوراثي، في وسع الأبحاث المعنية بتاريخ السكان تزويد الدراسات بمعلومات عن بعض المشكلات الصحية. ففي عام 2009، تعاونت أخصائية الأوبئة الوراثية مارلو مولر وزملاؤها من جامعة ستيلينبوش بجنوب إفريقيا مع برينا هين، عالمة الوراثيات السكانية التي كانت تعمل وقتها في جامعة ستانفورد، وتدرس جينومات مجموعة من الأفراد من جنوب قارة إفريقيا ينحدرون من نسل قبائل الـ«خويسان» KhoeSan. وأمل الباحثون في معرفة سبب كون المنحدرين من هذا الأصل أكثر عرضة للإصابة بالدرن، مقارنة بمجموعات أخرى5.
ومنذ ذلك الحين عقدت هين، والباحثون المتعاونون معها، شراكة مع عشر عيادات ريفية في مقاطعة كيب الشمالية بجنوب إفريقيا، حيث يُسأل المرضى الوافدون عّما إذا كانوا يرغبون في المشاركة في المشروع البحثي، أم لا.
وعقب ما يقرب من عقدين من العمل في جنوب قارة إفريقيا، تصرّح هين، التي تعمل الآن بجامعة كاليفورنيا، بمدينة ديفيز، أنه لا يزال ينتابها القلق "حيال الكثير من الأمور"، بدءًا من تمثيل المجتمعات تمثيلًا صحيحًا في المنشورات، مرورًا بحماية خصوصية المشاركين، وصولًا إلى الحرص على أن تكون المشاركة تطوعية.
ويحاول الباحثون والأفراد من مجتمعات السكان الأصليين، تقديم يد العون لمن يكافحون تلك المشكلات. إذ أصدرت مجموعات في إفريقيا ونيوزيلندا إرشادات توجيهية على مدار السنوات القليلة الماضية، تدعو إلى مراعاة الشمولية والإنصاف في أبحاث الجينوم6، وطوَّر زعماء ثلاث مجموعات من مجتمعات الـ«سان» في جنوب إفريقيا مدوَّنتهم الخاصة لقواعد أخلاقيات البحث. وفي العام الماضي، نشر أعضاء من ائتلاف برنامج SING التدريبي توصيات خاصة بإجراء الأبحاث الجينية على مجموعات السكان الأصليين2. لكن ممولي الأبحاث وجهات النشر ومعظم الحكومات لا يشترطون وجود متطلبات موحدة يجب على العلماء الذين يُجرون أبحاثًا على السكان الأصليين الانصياع لها. وفي هذا الصدد، تُعلق سارة تيشكوف - عالمة الوراثة البشرية في جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا، والتي لعبت دورًا رياديًا في جهود التعاون مع سكان إفريقيا في دراسات الجينوم بتسعينيات القرن الماضي- قائلةً: "سيكون من الرائع جدًا أن يكون لدينا مجموعة موحَّدة من الإرشادات التوجيهية التي تناسب جميع المجموعات السكانية، لكن ليست كل المجموعات متشابهة"، وتضيف: "إن التوصل إلى "قاعدة واحدة مشتركة تناسب الكل" مهمة بالغة الصعوبة".
ولا تعي جهات نشر الدوريات أحيانًا القضايا الحسَّاسة المرتبطة بنشر بعض البيانات. ومن ثم يصبح منوطًا بها المسؤولون عن مراجعة الأبحاث. ويعلِّق فوكس على هذا قائلًا: "أتمنى أن أرى نسخًا متعددة من استمارات الموافقة والخصوصية، واحدة بلغة المجتمع المحلية، والأخرى بالإنجليزية".
ويضيف فوكس قائلًا: "إنه من الضروري أن تنتشر منافع الأبحاث الوراثية إلى المشاركين في الدراسات". ويتابع: "إذا طُوِر دواء علاجي ما اعتمادًا على متغير جيني معين مكتَشف في مجتمع محلي، فينبغي أن تُرصد الأموال العائدة من ذلك لتطوير العيادات والبرامج التعليمية والمستشفيات والمكتبات في ذلك المجتمع".
ويقول فوكس إن تأسيس بنية تحتية بحثية في أراضي الشعوب الأصلية من شأنه أيضًا "إزالة غموض" التقنيات الوراثية، وإرساء شفافية للمشروعات البحثية. لهذا السبب يجمع فوكس حاليًّا تبرعات، لإنشاء معهد بحثي مستقل للأبحاث الوراثية المرتكزة في مجتمعات الشعوب الأصلية. ويأمل فوكس في أن يصبح مشروعه - مع الوقت - شبكة تضم مراكز بحثية في مجتمعات شعوب أصلية مختلفة، وتشمل بنوكًا حيوية مستقلة، ونظم عنقودية حاسوبية، وبرامج للزمالة. فيقول: "نسعى إلى الاتجاه لنسق تتولى فيه الشعوب الأصلية زمام القيادة بنسبة 100%".
وتشعر أفيلا، على غرار الكثير من زملائها المعاصرين، بحس من المسؤولية. فتشير إلى أن أحد أهدافها هو إيلاء مزيد من الاهتمام بالمكسيكيين المنحدرين من أصل أفريقي، ويقول هيلاديو ريياس كروز، منسّق منظمة غير ربحية تدعم تطوير الحوار والمجتمع في سانتا روزا دي ليما، بولاية آواخاكا، إن تعداد سكان المكسيك لم يدرج العرق "الأسود" من بين الخيارات العرقية حتى عام 2015. ويضيف: "يفيد البحث العلمي في تسليط الضوء على هذه المشكلات، لأنه يمكّن الأكاديميين من نشر أبحاثهم والظهور في وسائل الإعلام، وهو شيء يناضل الزعماء المحليون عادةً لتحقيقه".
وتقول أفيلا أنها تواصلت مع مستشارين للحكومة المكسيكية أبدوا اهتمامًا بمعرفة المزيد عن المكسيكيين المنحدرين من أصل أفريقي. وتأمل في أن يساعد بحثها على الاعتراف بهذا العرق. وتضيف من منطلق دورها كعالمة: "أرى بالفعل فرصة لتحقيق إنجاز أفضل من الماضي".
References
- Bardill, J. et al. Science 360, 384–385 (2018). | article
- Claw, K. G. et al. Nature Commun. 9, 2957 (2018). | article
- Sirugo, G., Williams, S. M. & Tishkoff, S. A. Cell 177, 26–31 (2019). | article
- Raff, J. A., Rzhetskaya, M., Tackney, J. & Hayes, M. G. Am. J. Phys. Anthropol. 157, 603–614 (2015). | article
- Uren, C., Möller, M., van Helden, P. D., Henn, B. M. & Hoal, E. G. Mol. Genet. Genom.292, 499–509 (2017). | article
- Yakubu, A. et al. AAS Open Res. 1, 13 (2018). | article
جورجا جوليلمي: صحفية علمية حرة في كامبريدج، ماساتشوستس.