أنباء وآراء
لمحة من الماضي: أول عنصر اصطناعي
عندما طرح مندلييف جدوله الدوري في عام 1869، لم يكن العنصر ذو العدد الذري 43 معروفًا. وفي عام 1937، أصبح أول عنصر يُكتشف من خلال التصنيع في المختبر ممهِّدًا الطريق أمام العصر الذري.
- Nature (2019)
- doi:10.1038/d41586-019-00236-4
- English article
- Published online:
الشكل 1 | الجدول الدوري لمندلييف. عندما ابتكر مندلييف جدوله الدوري قبل 150 عامًا، ترك فراغات للعناصر التي كان يعتقد أنها مفقودة. والفجوة المحاطة بالمربع المنقوط هي للعنصر ذي العدد الذري 43. وفي عام 1937، اكتشف كل من كارلو بيرييه، وإيمليو سِيجْرِي 3 هذا العنصر، المعروف الآن باسم التكنيشيوم.
كبر الصورةSCIENCE HISTORY INSTITUTE
في عام 1937، وصل لوح من عنصر الموليبدنوم إلى جامعة باليرمو في مدينة صقلية. وكان قد أُرسل من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، حيث كان ضمن أجزاء "محطِّم الذَّرّة" الذي صممه إيرنست لورانس، أحد أول مسرعات الجزيئات، المعروف باسم "سِّيكلوترون الـ37 بوصة". واحتوى ذلك اللوح على الحلقة المفقودة الأهم في عالَم الكيمياء.
وكان العنصر ذو العدد الذري 43 – الذي سُمِّي مؤقتًا "تحت - المنجنيز"’Eka-manganese’ قبل اكتشافه – بمثابة إحدى الثغرات في الجدول الدوري الذي وضعه ديمتري مندلييف في عام 1869. وعلى الرغم من وجود محاولات سابقة لترتيب العناصر الكيميائية، رتّب مندلييف جدوله حسب الكتل الذرية للعناصر، وخصائصها، وترك فراغات عندما أدرك أن هناك عناصر معينة مفقودة (الشكل 1). ومُلئ معظم تلك الفراغات تدريجيًّا، مما أثبت صحة أفكار مندلييف. وبحلول ثلاثينيات القرن العشرين، كان أبرز العناصر الأساسية التي لا تزال مفقودة هو "تحت - المنجنيز". ولطالما سعى الباحثون إلى اكتشاف هذا العنصر بَعِيد المنال، ولكن ثبت خطأ جميع هذه المزاعم. والآن، في باليرمو، حان الدور على عالِم الفيزياء الإيطالي إيميليو سِيجْرِي في المحاولة.
وبرغم عمره الذي لم يتجاوز 32 عامًا، ذاع صيت سِيجْرِي في اكتشافات العناصر. ولكونه يهوديًّا من السفارديين، وابنًا لصاحب مصنع للورق في تيفولي، تدرب كعالِم فيزياء على يدي إنريكو فيرمي، قبل أن يغادر، ليصبح ضابطًا في قوات الدفاع الجوي في صفوف الجيش الإيطالي. وبحلول عام 1929، عاد مجددًا إلى فيرمي، كواحد من مجموعة "شباب فيا بانيسبيرنا" Via Panisperna Boys، وهي مجموعة من العلماء الفقراء، من ذوي الدخول المحدودة، ويفتقرون إلى المعدات الحديثة؛ وعُين فيها أشقاءُ العلماءِ الأصغرُ سنًّا؛ لحمل الأجهزة، والأدوات المصنوعة يدويًّا، وكان الباحثون يضطرون إلى الاختباء في نهاية ممر؛ لحماية أنفسهم من الإشعاع1. وبالرغم من الصعوبات التي واجهوها، وَسَّع فريق فيرمي، في عام 1934، من نطاق حدود جدول مندلييف.
وفي فرنسا، أثبت فريديريك، وإرين جوليو كوري أنه يمكن تحويل عنصر إلى آخر، باستخدام إشعاع مستحث صناعيًّا. وخَطَا فيرمي، وسِيجْرِي، وبقية العلماء الشباب بهذه الفكرة خطوة أخرى إلى الأمام، عن طريق قصف عينة من اليورانيوم – العنصر ذي العدد الذري 92، أثقل عنصر معروف آنذاك – بحزمة أشعة نيوترونية يدوية الصنع. وبفعلهم ذلك.. بدا2 أن فيرمي قد صنع العنصرين (93، و94).
وكان سِيجْرِي يأمل أن يكون لورانس قد صنع - عن غير قصد - عنصرًا آخر، نتيجة استخدام الموليبدنوم داخل السيكلوترون الخاص به، حيث إن الموليبدنوم هو العنصر ذو العدد الذري 42؛ وإذا تسارعت نظائر الهيدروجين الثقيلة (الديوتريوم) نافذة عبر السيكلوترون الخاص بلورانس، وأطلقت إشعاعات على لوح من الموليبدنوم، فقد يحتوي هذا اللوح على بضع نقاط من عنصر "تحت - المنجنيز". وطلب سِيجْرِي من لورانس أن يرسل إليه أيّ قطع غيار أصبحت نشطة إشعاعيًّا. ووافق لورانس بكل سرور، لأنه لم يجد فائدة من ذلك المعدن المتهالك.
وأجرى سِيجْرِي تحليلًا كيميائيًّا للوح، بمساعدة زميله كارلو بيرييه، حيث استخلص عنصرًا غير معروف، عن طريق تسخين عينة مع هيدروكسيد الصوديوم، وبيروكسيد الهيدروجين3،4 حتى الغليان. وكانت هذه المرة الأولى التي يصبح فيها العنصر ذو العدد الذري 43 في متناول الأيدي. وبوجوده، حُل اللغز الكامن وراء بقاء هذا العنصر مجهولًا؛ حيث كان "تحت - المنجنيز" عنصرًا غير مستقر، ذو عمر نصف إشعاعيّ يبلغ بضعة ملايين من السنين، وأيّ عينة كانت موجودة بشكل طبيعي عندما تشكلت الأرض، ستكون قد تحللت منذ دهور.
وكانت قصة العنصر الجديد مجرد بداية، ففي شهر يونيو من عام 1938، توجه سِيجْرِي إلى بيركلي؛ لمواصلة بحثه. وبينما كان في طريقه، سَنّت حكومة موسوليني الفاشية قوانين تحظر على اليهود شَغْل مناصب جامعية في إيطاليا. وراسَل سِيجْرِي - الذي وجد نفسه محاصَرًا في كاليفورنيا – عائلته، مستدعيًا إياها، حيث حصل على إقامة دائمة. وهناك، عملَ مع عالِم الكيمياء الشاب، جلين سيبورج، على فصل نظير غير تقليدي وشبه مستقر من عنصره الجديد5.
وبعد فترة وجيزة، وصل نبآن: ففي شهر نوفمبر، فاز فيرمي بجائزة نوبل؛ لاكتشافه عناصر أثقل من اليورانيوم. واستغل فيرمي - الذي كانت زوجته يهودية الديانة - الجائزة كذريعة للهروب من إيطاليا أيضًا. وبعد شهرين، تواترت أنباء من ألمانيا، مفادها أن "عناصر" فيرمي كانت خطأ، فقد أثبتت مجموعةٌ، قادها أوتو هان، وليز مايتنر، أن اكتشافات فيرمي كانت نتيجة لانشطار الذَّرة، وربما كانت بمثابة باريوم، وكريبتون، وشظايا من عناصر أخرى6. وسيؤدي هذا الاكتشاف - في نهاية المطاف - إلى تطوير أسلحة نووية - ويعني ذلك أن "تحت - المنجنيز" الذي اكتشفه سِيجْرِي، وبيرييه كان أول عنصر اصطناعي حقيقي. وفي عام 1947، أي بعد عشر سنوات من اكتشافه، أطلقا عليه اسم "التكنيشيوم"، وهذه الكلمة مشتقة من كلمة "تكنيتوس" technetos، ومعناها باللغة اليونانية "صناعي"7. وبحلول ذلك الوقت، كانت جميع الأماكن الفارغة الأخرى في جدول مندلييف قد مُلِئَت، مع إسهام سِيجْرِي أيضاً في صنع العنصر ذي العدد الذري 85، الأستاتين.
فتحَتْ العناصر المُصنعة داخل المختبر المجالَ أمام البحث عن عناصر أثقل من اليورانيوم (العناصر التالية لليورانيوم). وفي عام 1939، فاتَح إدوين ماكميلان - الباحث في جامعة بيركلي - سِيجْرِي بشأن ذَرّة غير تقليدية، كان قد اكتشفها داخل السيكلوترون، والتي يعتقد أنها عنصر جديد، إلا أن سِيجْرِي رفض هذه النتائج، بل وصل الأمر إلى كتابة بحث8 بشأنها، بعنوان: "عملية فاشلة للبحث عن عناصر التالية لليورانيوم".وفي الواقع، كان ماكميلان قد اكتشف العنصر ذا العدد الذري 93، الذي أطلق عليه اسم "النبتونيوم". وفي فبراير 1941، اكتشف سيبورج العنصر ذا العدد الذري 94، بعد استلامه مهام أعمال ماكميلان. وبمساعدة سِيجْرِي، سرعان ما أثبت سيبورج أنه يمكن استخدام عنصره الصناعي – البلوتونيوم – في صنع قنبلة ذرية. وكان ذلك أول عنصر من عشرة عناصر اصطناعية سيكتشفها؛ وسُمي عنصر آخر، السيبورجيوم (العنصر ذو العدد الذري 106)، على اسمه؛ تكريمًا له.
لقد أثبت عنصر التكنيشيوم أن استكشاف الجدول الدوري لم يقتصر على العناصر الموجودة على كوكب الأرض. واليوم، وَسّعْنا حدود الجدول، حتى وصلنا إلى العنصر ذي العدد الذري 118 فائق الثقل "أوجانيسون". وتزامن ظهور العناصر الجديدة مع ظهور استخدامات لم تكن تخطر على بال كثيرين، مثل أجهزة الكشف عن الدخان، وأجهزة توليد الطاقة اللازمة للمسابير الفضائية، والأسلحة الأكثر فتكًا على الإطلاق. ويمكن القول إن أكبر اكتشاف لا يزال هو عنصر التكنيشيوم، والنظير شبه المستقر للعنصر الذي اكتشفه سِيجْرِي مع سيبورج. ومع فترة نصف عمره القصيرة، البالغة ست ساعات، فإنه يُعتبر واسمًا إشعاعيًّا مثاليًّا. والآن، يُعتبر التكنيشيوم النظير المشع الأكثر استخدامًا في مجال الطب عالميًّا (go.nature.com/2t4iqq8)، نظرًا إلى استخدامه في 80% من عمليات العلاج في مجال الطب النووي، ومساعدته على إنقاذ ملايين من الأرواح كل عام. وهو ليس إنجازًا هينًا بالنسبة لعنصر اكتشفناه لأول مرة في لوح معدني متهالك.
References
- Fermi, L. Atoms in the Family: My Life with Enrico Fermi (Univ. Chicago Press, 1954). | article
- Fermi, E. et al. Nature 133, 898–899 (1934). | article
- Perrier, C. & Segrè, E. Nature 140, 193–194 (1937). | article
Scerri, E. A Tale of Seven Elements (Oxford Univ. Press, 2013).
| article- Segrè, E. & Seaborg, G. T. Phys. Rev. 54, 772 (1938). | article
- Hahn, O. & Strassmann, F. Naturwissenschaften 27, 11–15 (1939). | article
- Perrier, C. & Segrè, E. Nature 159, 24 (1947). | article
Segrè, E. Phys. Rev. 55, 1104 (1939). | article
كيت شابمان كاتب علمي، يعيش في كامبريدج بالمملكة المتحدة، وسوف يُنشر كتابه تحت عنوان: "العناصر فائقة الثقل: بناء وهدم الجدول الدوري" Superheavy: Making and Breaking the Periodic table في شهر يونيو من العام الجاري (2019).