كتب وفنون
كيمياء: الحرب الخفية
- Nature (2017)
- doi:10.1038/541154a
- English article
- Published online:
Abstract
يثني بول أ. لومباردو على دراسة صادمة تُبيّن ما اكتنفته تجارب الأسلحة الكيميائية التي أجراها الحلفاء على جنودهم، إبان الحرب العالمية الثانية.
التعرض السام: غاز الخردل وعواقب صحية للحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية
سوزان إل. سميث- مطبعة جامعة راتجيرز: 2017
ISBN: 9780813586090
إصابات الجنود بغاز الخردل النيتروجيني والليويست في التجارب التي أُجريَت إبان الحرب العالمية الثانية في مختبر البحوث البحرية في واشنطن العاصمة الأمريكية. US Naval Research Laboratory
قبل مئة عام، كان جنود أول حرب عالمية عالقين "في قعر الجحيم"، وفق ما جاء في كلمات الشاعر عزرا باوند. كان غاز الخردل ينجرف إلى الخنادق، معرّضًا الجنود لخطر الإصابة بالحروق والعمى والأضرار التنفسية.
في خضم سير الحرب، ذاق مليون رجل جحيم هجمات غاز الخردل وغيره من الغازات، إذ قضى فيها نحو مئة ألف جندي نَحْبَه. ابتكر الكيميائي الألماني فريتز هابر عددًا من المواد السامة التي استُخدِمت كأسلحة في المعارك؛ اعتقد البعض أنّها أكثر إنسانية من غيرها من أشكال التسلُّح التقليدية، من منطلق أنّها قد تتسبّب بشلل الجنود دون قتلهم. ورغم فوز هابر بجائزة نوبل عن بحثه السابق تركيب الأمونيا (النشادر)، إلّا أن زملاءه نبذوه في سنوات لاحقة بسبب إسهاماته فيما عُرِف آنذاك بـ’حرب الكيميائيين‘.
تُعرف هجمات الغاز بأنها ’حرب إنهاء كل الحروب‘. ومع ذلك، عرّضت الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، والمملكة المتحدة إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها، عشرات الآلاف من جنودها للغازات السامة في سبيل الأبحاث العسكرية. هذه "الحرب الكيميائية التي لم تُحارَب" ومصابوها، هي موضوع كتاب المؤرخة سوزان سميث –التعرّض السّام Toxic Exposures. وتشرح رواياتها، المدعومة بمنحة دراسية معمَّقة لأكثر من عشر سنوات، كيف سمّم الأمريكيون أنفسهم باسم "إنقاذ الأرواح". إذ توثّق سميث في كتابها كيف اتُّخِذت وعود تطوير المعرفة الطبية وتعزيز الأمن الوطني كمبررات لتجاهُل حقوق الإنسان.
ركّزت سميث أولًا على تعريض العساكر عمدًا للغازات السامة. إذ لم يطلب الباحثون الحصول على موافقة الجنود لإخضاعهم لهذه التجارب، بدلًا من ذلك، تطوّع الضباط بالجنود الذين كانوا تحت إمرتهم.
قصّت إحدى النساء التي كانت تعمل كمتدربة في القوات الجوية الأمريكية أنّها تلقت أمرًا بالجري عبر سحابة من اللويست، وهو مركب عضوي زرنيخي، وذلك خلال أحد "إجراءات التعرُّف على الغازات" خلال تدريب للطيران في هيوستن بولاية تكساس. وقد جنّد الباحثون 60 ألف جندي أمريكي، على الأقل، بغية دراسة تأثيرات غاز الخردل، وهو مادة سامة تحتوي على الكبريت والكلور. بينما أقدم باحثون آخرون على رش جنود كنديين بالغاز السام من الجو وأجبروهم على المشي مسافة ثلاثة كيلومترات، ثم الجلوس لساعات وهم لا يزالون مرتدين ثيابهم الملوثة بالغاز. وقد نُقل منهم مَن أُصيبَ بحروق خطيرة إلى المستشفى آنذاك. أمّا الجنود الذين استخدمتهم القوات العسكرية كفئران تجارب فقد أقسموا على كتمان السرية، حتى إن بعضهم أخفى لعقود معلومات عن الأطباء، مضحيًا بذلك بصحته.
توقع بعض الباحثين، أنّ جنودًا من أعراق مختلفة قد يستجيبون على نحو مختلف عند تعرُّضهم لمواد كيميائية معينة، وذلك فيما يتعلق بمدى الألم والإصابة. فقد سعت تسع دراسات -على الأقل- لإثبات التأثير المتغيِّر لغاز الخردل، بناءً على "العرق، واللون، والبشرة" لجنود أمريكيين من أصل أفريقي، وبورتوريكي وآخرين من أصل ياباني، مقارنةً بالأمريكيين ’البيض‘. كما استهدفت دراسات أخرى الأمريكيين الأصليين، إذ جرى تقطير غاز الخردل على جلود جنود من تكساس، وأُجبروا على تحمُّل التعرض لغاز الخردل وغاز الفوسجين في عنابر مقفلة دون أقنعة واقية.
وكان عالِم النفس هومر سميث -من لجنة بحوث الدفاع الوطني- قد انضم إلى الجنرال الأمريكي هنري أرنولد في تأييد استخدام الحرب الكيميائية ضد الجنود اليابانيين جنوب المحيط الهادئ. إذ أعرب الأخير عن هذا قائلًا: "الغاز أو النار أو أي شيء يقضي على هذا العِرْق على بَكْرةِ أبيه".
كما يشير كتاب "التعرّض السام"، إلى أنّ العديد من العلماء أغفلوا طبيعة التمييز العرقي الذي اتّسم به هذا البحث. ومع ذلك، في عام 1944، وردت ملحوظة في مجلة طبية أمريكية Journal of the American Medical Association امتدحت 500 رجل، من بينهم 40 جنديًّا "من أصول يابانية"، ممن اشتركوا "طوعًا" في بحث تناول التعرُّض لغاز الخردل. وكأن المشتركين في البحث الأمريكي قد تركوا وراءهم مجتمعًا عنصريًّا ليؤدوا الخدمة في وحدات عسكرية عنصرية هي الأخرى. فحتى أقنعة الوقاية من الغاز التي اختبرها الباحثون كانت مصنَّفة للاستخدام وفق العرق. وظهرت بعد الحرب عدة تقارير بحثية في عدد من النشرات المهنية تقارن اختراق "الغازات القاتلة" لجلود المشاركين "السود" و"البيض".
كما تكشف سميث عن الإرث السام الذي خلفته الحرب في المحيطات، حيث ألقى الجيش ذخيرة سامة في مياه المحيطات قبالة سواحل ألاسكا، وهاواي، وجنوب كارولينا، وفي خليج المكسيك. إذ وقعت 70 حادثة مماثلة على الأقل بين الأعوام 1918 و1970. وتأتي قائمة سميث الطويلة المرهقة لهذه النفايات السامة صاعقة: نحو 30 ألف طن من غاز الخردل، ولويسيت، وغازات الأعصاب مثل التابون والسارين؛ 400 ألف قنبلة وصاروخ ولغم تحتوي على مواد كيميائية؛ وحوالي 500 طن من النفايات المشعة. وتعتقد سميث أنّ عددًا كبيرًا قد يصل لنحو 50 قنبلة ذرية "فُقِدت في البحر". ووفق تعبيرها، فإن بعضهم قد اعتبر البحر "مصرفَ مَجارٍ مناسبًا".
يُتوَّج الكتاب بقصة اكتشاف العلاج الكيميائي للسرطان نتيجة التعرُّض للغازات السامة في أوقات الحرب. إذ تصف سميث قصة الهجوم الجوي على سفينة جون هارفي الأمريكية في خليج باري في إيطاليا. كانت السفينة تحمل أسفل سطحها نحو ألفي قنبلة من غاز الخردل مُعدَّة للرد على أي اعتداء كيميائي حربي محتمل، ولم يكن طاقم السفينة على علم بالحمولة القاتلة التي ينقلونها. وعندما ضربت القنابل الألمانية السفينة، تشبّعت مياه المنطقة وهواؤها بغاز الخردل، ليتعرّض له بذلك مئات الجنود الأمريكيين والبريطانيين ونحو ألف من المدنيين الإيطاليين. واكتشف العلماء من الأطباء الذين قاموا على علاج المصابين أنّ التأثيرات الوظيفية للغاز تُدمّر الخلايا البيضاء في أجسام الضحايا -مما أثار التكهنات إلى أنّ التعرض للسموم قد يساعد في مكافحة مرض السرطان. في عقد الأربعينيات من القرن المنصرم، اشتُقّت مركّبات من غاز الخردل ليجري تحويلها إلى مواد علاجية. وفي وقت مبكّر من العام 1946، أثنى عالِم الأورام الأمريكي كورنيليوس رودس على هذه الاكتشافات باعتبارها "أرباح أوقات السلم" الناجمة عن الحرب الكيميائية.
تفتتح سميث كتابها بملحوظة تفيد أنّ "الحرب مهمة لتاريخ الطب، وأنّ الصحة مهمة لتاريخ صناعة الحرب". في عام 1997 بدأ سريان معاهدة الأسلحة الكيميائية، والتي وقّعت عليها حتى الآن 192 دولة. مع ذلك، خُرقت هذه المعاهدة مرات عدة. تواصل الحروب، كما هو الحال بالنسبة للأبحاث العسكرية على المواد الكيميائية والأدوية التي قد تُستخدَم في حرب بيولوجية.
لا يمكن معارضة الرجاء الذي أنهت به سميث كتابها "التعرّض السّام" Toxic Exposures ألا وهو أن الرقابة العامة والمناقشة المفتوحة أصبحتا الآن حاجتين ملحتين أكثر من أي وقت مضى.