أنباء وآراء
السلوك البشري: المتسَوِّقون يُحِبُّون ما يعرفون
- Nature (2017)
- doi:10.1038/nature21114
- English article
- Published online:
كثيرًا ما يَعتقِد الناس أن لديهم أذواقًا ثابتة في الطعام وغيره من سلع البقالة، وأنهم يختارون الأشياء التي يفضلونها فقط، أي يشترون ما يروق لهم، لكنْ إذا كانت هناك خيارات لم يجربوها بعد، أو خيارات كان يمكن تغييرها، فمِن المعقول حينئذ أن يستكشفوا هذه الخيارات من حين إلى آخر، في محاولة لتجربة شيء جديد، فربما كان خيارًا أفضل. والحقيقة أنه كلما ازداد احتمال تغيُّر البدائل المتاحة، كان مِن الحكمة أن يتم تجريبها، وأن يعثروا على بدائل أفضل. وقد ظهر من خلال الدراسات المعملية1 أن الناس يَسْلكون سلوكًا قريبًا من هذه الاستراتيجية المنطقية؛ لتقليل شكوكهم حول ماهية البديل الآخر المتاح عند الاختيار بين العائد المتغيِّر للقيم المادية. أما ريفر وزملاؤه2، فيُورِدون في بحثٍ لهم - نُشر في دورية "نيتشر هيومان بيهيفيور" Nature Human Behaviour - أن المتسوقين في السوبرماركت، الذين يختارون بين المنتجات على مدار أشهر طويلة، ينتهجون سلوكًا معاكسًا، إذ يبدو أنهم يتعلمون أنْ يحبوا ما يشترون.
حَلَّلَ مؤلفو البحث اختيارات المنتجات لعدد 283 ألف متسوق في المملكة المتحدة على مدى 250 أسبوعًا، مع التركيز على البيرة، والخبز، والقهوة، وورق الحَمّام، ومساحيق التنظيف، والزبادي (الشكل 1). وبدلًا من أن يصبح المستهلكون أكثر ميلًا إلى اختيار شيء جديد، كلما طالت الفترة التي يشترون فيها أحد المنتجات، طبقًا لما يمكن أن تتنبأ به دراسات معملية، أصبحوا أقل ميلًا إلى استكشاف صنف آخر، والتحول نحو شرائه (واستمروا في استخدام خيارهم الراهن). وقد لوحظ ذلك في أنماط الشراء العادية مع الوقت، وفي التجارب التي استُخدِمت فيها كوبوناتُ التوفير. وفي الحالة الأخيرة، تبيَّنَ مدى صعوبة تغيير السلوك.. فكلما طال الوقت الذي يظل فيه المتسوقون يشترون أحد المنتجات؛ قلَّ احتمال أن يستخدموا الكوبونات لتجربة سلع جديدة، وزاد احتمال أن يستخدموها لشراء منتَجهم المعتاد. وبدلًا من أن يحاولوا العثور على أفضل ما يناسب أذواقهم، بدا أنهم يضبطون أذواقهم؛ لتلائم المنتجاتِ التي كانوا يشترونها، وبذلك يُعَظِّمون التوافق بين الميول والاختيارات.
يَذكر ريفر وزملاؤه2 في بحث لهم أنه عندما يتعلق الأمر باختيار المنتجات في السوبرماركت، فكلما طالت مدة استخدام المتسوِّق لصنفٍ معين؛ ارتفع احتمال مواظبته على اختيار الصنف نفسه؛ خلافًا للتوقعات الاقتصادية. Jean-François Monier/AFP/Getty
إذا أخذنا بظاهر الأمر، فإن مثل هذا السلوك قد يبدو مفاجئًا، أو حتى غير عقلاني3، فإذا بَدَّل الناس أذواقهم، وأقبلوا على شراء أي شيء يتصادف عَرْضُه أمامهم، فكيف سيتسنى لهم أن يعثروا على المنتجات الأجود؛ وأن يختاروها؟ في السياق الواقعي - على سبيل المثال، كالذي درسه ريفر وزملاؤه - يمكن لجوانب مختلفة من الموقف - وقت الاختيار - أن تؤثر على ما يتم اختياره، مثلما يحدث عندما يَلتقِط مُتَسَوِّقٌ متعجِّلٌ أولَ صنفٍ تقع عليه عيناه، فإذا استمر هذا الاختيار العشوائي في التأثير على اختياراته اللاحقة غير المتعجلة؛ فعندئذ يمكن أن تتشكَّل ميولُ المتسوق بطرقٍ غير مقصودة وغير مُحَسَّنة. وكما يشير ريفر وزملاؤه، تَوَلَّدَ هذا التوجيه الاعتباطي للاختيارات في التجارب المعملية المُحْكَمة؛ فإذا كانت النتائج الحالية تعكس ذلك على الواقع، فهذا من شأنه أن يضيف إلى ذعر الاقتصاديين من عدم عقلانية البشر.
وهناك أسباب وجيهة لتفسير سبب بحث الناس عن السلع بهذه الطريقة في أثناء عملية الشراء من السوبرماركت، بخلاف سلوكهم في التجارب المعملية المبنية على النقود1. فعندما يتعلق الأمر بالطعام، فإن التعرُّض المتكرر لأطعمة بعينها (حتى الأطعمة المكروهة في الأساس، مثل الفلفل الحار4) يمكن أن يجعل الناس يبدأون تدريجيًّا في الاستمتاع بها أكثر5. فقد واجه أسلافُنا عالَمًا، كانت فيه أشياء كثيرة مما يمكن أَكْلها ضارة، وهي مشكلة تُعرف باسم "معضلة آكلات النبات والحيوان"6. ومن ثم، فإنّ تَعَلُّم حُبّ المرء شيئًا تناوَلَه عدةَ مراتٍ بأمان هو أمرٌ منطقي من الناحية التطورية. ورغم أن رفوف الأسواق الحديثة لا تحمل إلا القليل من الخطر، إلا أن نشوء خوف من أي جديد – في الطعام - ما زال يقود اختياراتنا.
وحتى عندما لا تتغير الأذواق لتُوَافِق الاختيارات بهذه الطريقة (عند اختيار ورق الحمام مثلًا)، فمن الممكن أن يكون مناسبًا بقاءُ المرء على خياره الراهن. ويمكن تشبيه عملية البحث بين الأصناف المتعددة بتجوُّل الحيوان بحثًا عن العلف، مثلما يحدث مثلًا عندما تقرِّر الدِّبَبَةُ كم من الوقت ستَبْقى في بقعة مزروعة بالتوت البري، منتظِرةً حتى تأتي على كل ما يمكن التقاطه منها، قبل أن تغادرها، بحثًا عن بقعة جديدة غير مستغَلة. فتُرى كم من الوقت يجب على الشخص أن يقضيه في استهلاك "بقعة من صنف معين" قبل استطلاع البقع الأخرى؟ ربما تكون هناك تكلفةٌ ما للابتعاد عن صنفٍ مألوف، من ناحية الوقت المطلوب للعثور على بديل مناسب مثلًا، أو الوقت المطلوب للتعوُّد على خصائصه. وكلما ارتفعت هذه التكلفة؛ كان على المتسوق أن يبقى مدةً أطول مع صنفِه المعتاد، تمامًا كما يبقى حيوان المرعى مدَّةً أطول في بقعته الراهنة، إذا كانت البقعة التالية أبعد.
ويضاف إلى ذلك، أنه في البيئات التي لا يكون فيها إلا القليل من المراعي الكبيرة، يصبح من الأفضل للحيوانات أن تمكث مدة أطول في مرعاها الحالي، كلما طالت فترة استغلالها لها7، حيث إنّ طول مدة الاستغلال هو حتى الآن دليلٌ على أن هذا المرعى قد يكون من المراعي الكبيرة. وإذا افترضنا أن الأشخاص يشترون أصناف طعامهم بنفس طريقة "البحث عن العلف" تلك، معتقِدين أن معظم الأصناف ليست عالية الجودة، لكن القليل منها يمكن الاستمتاع به لوقت طويل، فقد يكون معقولًا عندئذ أن يميل الشخص إلى إطالة بقائه على صنف معين، كلما طالت خبرته السابقة به. ويبدو أن الناس يطبِّقون في سياقات كثيرة استراتيجيات تشبه فكرة البحث عن العلف، بدءًا من تصفُّح الإنترنت، والتسوق الإلكتروني، حتى التنقيب في ذاكراتهم عن نوع حيوان، أو أداة ما8.
ويمثل مَيلُ المستهلكين للاستمرار في شراء الأشياء نفسها تحدّيًا أمام المسوّقين، وكذلك المدافعين عن الصحة والاستدامة، والذين يأملون أن يشجعوا الناس على التحول إلى خيارات أفضل لهم وللبيئة، مثل تناول الحشرات9. وربما تشجِّع الهدايا - التي تشمل توزيع "كوبونات خَصْم" - أحد الأشخاص أن يجرب شيئًا جديدًا. ويمكن لتأثير التعرُّض للمنتج بهذا الشكل أن يؤتي ثماره، وينمي فيهم حُبًّا تجاهه، بيد أن الهدايا قد يكون لها مردود سلبي أيضًا، كأنْ يَقِلّ حبُّ الشخص لسلعةٍ ما، إذا اعتَقَدَ أن اختياره لها كان نتيجةً لرغبته في الحصول على الهدية فقط5.
وتتيح العيِّنات المجانية للناس التعرُّف على المنتجات البديلة، لكنْ إذا كانت العينات صغيرة، فقد لا تتيح فرصةً كافيةً لتغيير ميولهم. فالتعرض لسلعةٍ ما يمكن تدعيمه إذا اختار أشخاص آخرون - يُعتدّ بآرائهم - استهلاك المنتَج نفسه4، إلا أن ذلك قد يشمل حَمْلَ الأُسْرةِ والأصدقاء على تبنِّي المنتج أولًا. وفي حدود إقبال المتسوقين على استكشاف ممرات السوبرماركت بأسلوب "البحث عن العلف"، فإّن الآليات التطورية المصَمَّمَة جيدًا لتُبْقِينا حَذِرين وآمنين، يمكن أن تقلل احتمال تَحَوُّلنا نحو سلعٍ أخرى؛ ومن ثم تُبقِينا محبِّين لما نعرف6.
References
- Knox, W. B., Otto, A. R., Stone, P. & Love, B. C. Front. Psychol. 2, 398 (2012).
- Riefer, P. S., Prior, R., Blair, N., Pavey, G. & Love, B. C. Nature Hum. Behav. http://dx.doi.org/10.1038/s41562-016-0017 (2017).
- Ariely, D. & Norton, M. I. Trends Cogn. Sci. 12, 13–16 (2008).
- Rozin, P. & Schiller, D. Motiv. Emot. 4, 77–101 (1980).
- Wardle, J., Herrera, M.-L., Cooke, L. & Gibson, E. L. Eur. J. Clin. Nutr. 57, 341–348 (2003).
- Rozin, P. & Todd, P. M. in The Handbook of Evolutionary Psychology Vol. 1, 2nd edn (ed. Buss, D. M.) 183–205 (Wiley, 2015).
- Iwasa, Y., Higashi, M. & Yamamura, N. Am. Nat. 117, 710–723 (1981).
- Todd, P. M., Hills, T. T. & Robbins, T. W. (eds) Cognitive Search: Evolution, Algorithms, and the Brain (MIT Press, 2012).
- Tan, H. S. G., Fischer, A. R. H., van Trijp, H. C. M. & Stieger, M. Food Qual. Prefer. 48, 293–302 (2016).