كتب وفنون

الزراعة: بَذْر المدينة

بينما يبدأ موسم الأعياد، تستعرض لورا لوسون تاريخًا مثمرًا بالزراعة الحضرية.

لورا لوسون
  • Published online:

<p>مزرعة بروكلين، مزرعة عضوية بمساحة هكتار واحد، تمتد فوق سطحين من أسطح المنازل في مدينة نيويورك.</p>

مزرعة بروكلين، مزرعة عضوية بمساحة هكتار واحد، تمتد فوق سطحين من أسطح المنازل في مدينة نيويورك.

Cyrus Dowlatshahi

على مر التاريخ، دُمجت الزراعة في المدن في أشكال متنوعة، ما بين الحدائق العائمة في الآزتيك بالمكسيك، وحديقة المطبخ في قصر فرساي التي زودت مائدة لويس الرابع عشر في فرنسا، والزراعة الرأسية فوق الماء باليابان. كلها زراعات شكَّلتها الظروف البيئية، وبغرض التصميم والابتكار التكنولوجي والعلوم الزراعية. واليوم، الانفجار في الدراسات المتعلقة بالزراعة الحضرية آخذٌ في توسيع الآفاق، ويلقي الضوء على وجهات نظر من أفريقيا وأمريكا اللاتينية عرضتها بعض الكتب مثل كتاب "أجروبوليس" Agropolis (المدينة الزراعية) الذي أصدرته "إيرثسكان" عام 2005، للوك موجو، وكذلك السياقات التاريخية المتنوعة في كتاب "الغذاء والمدينة"Food and the city ، لدوروتي إمبير (مطبعة جامعة هارفارد، عام 2015)، ومقترحات التصميم في كتاب كبولس: "المناظر الطبيعية في المناطق الحضرية مستمرة الإنتاجية" CPULs: Continuous Productive Urban Landscapes ، لأندريه فيلجون (دار روتليدج) عام 2005. هذه الكتب لا تُطَبِّع الزراعة الحضرية فحسب، ولكنها تتناول أيضًا كيفية تطويعها لمعالجة الأمن الغذائي.

وفقًا لتقرير "الزراعة الحضرية" لعام 1996 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هناك ما يقدر بنحو 800 مليون شخص من سكان المدن في جميع أنحاء العالم يزرعون المحاصيل الغذائية ويربون الماشية. ومع ذلك، فإن العديد من الناس ما زالوا يتساءلون عما إذا كانت الزراعة في المناطق الحضرية يمكنها توفير ما يكفي من الغذاء لتكون نافعة. والمُفترَض أن الزراعة أفضل كممارسة ريفية، في وجود مساحات شاسعة من الأراضي والمزارعين المدرَّبين لتحقيق أقصى قدر من الإنتاجية. كثيرون آخرون يشعرون بقلق متزايد إزاء الآثار المترتبة على الصحة والبيئة من النظام الزراعي الغذائي، ويتطلعون إلى الاحتمالات المختلفة للزراعة الحضرية– تناوُل مشكلات التغذية، والتنمية الاقتصادية، والنشاط المجتمعي، والوعي البيئي.

في الواقع، نادرًا ما وُضعت الزراعة الحضرية بين قوسين مع النظام الزراعي الغذائي، ولكنها مهمة للمبادرات التي تتناول فرص الوصول إلى الغذاء والقدرة على تحمُّل تكاليفه. كما أنها تعطي المزارعين المرونة في اختيار المحاصيل على أساس التنوُّع الجيني أو التفضيلات الثقافية – مثل الخضروات "التراثية" أو الأصناف التى يقدِّرها المهاجرون حديثًا. هي لا تُعَد اختلافًا عن الزراعة الريفية، بل هي ممارسة متميزة.

ننمو معًا

كانت الزراعة جزءًا من بنية المدن لآلاف السنين، من خلال مزارعين يزوِّدون الأسواق الحضرية ويطوعون النفايات -مثل السماد الطبيعي- لأغراض أخرى، (انظر: "عواصم الزراعة"). في كتاب "اقتصاد المدن" The Economy of cities الصادر عن دار النشر (راندوم هاوس) عام 1969، يقول جين جاكوبز -أحد المُنظِّرين الحضريين بأن الزراعة لم تسبق المدن القديمة-: بل استوحت المدن الزراعة من خلال مركزيتها وسيطرتها على التجارة والقدرة على الابتكار (A. Williams Nature 537, 614–615; 2016). إن الأدلة الأثرية من فرنسا إلى إيران –من نظم الري ونظم القنوات المائية، والمصاطب والأحواض الزراعية، والأراضي المسوَّرة- تكشف عن استثمارات كبيرة غالبًا ما تكون لازمة للحفاظ على إنتاجية المناطق الحضرية.

1940s: State Library of Queensland; 1990s: Joshua Corbett/The New York Times/Eyevine

ووضعت خُطَط الاستعمار -مثل القانون الإسباني لجزر الهند، الذي طُبِّق لمدة 400 سنة في الأمريكتين والفلبين– الزراعة على مقربة من المدن مثل مدينة "سانتو دومينجو"، لتسهيل الحصول على المحاصيل الزراعية والحيوانات، وتوفير إدارة النفايات وحماية الإمدادات الغذائية. في عام 1683، خطط وليام بن، مؤسس ولاية بنسلفانيا، لتكون فيلادلفيا -أكبر مدن الولاية- "مدينة ريفية خضراء"، حيث الحدائق والبساتين المثمرة من شأنها أن تضمن الهواء النقي وتقلل من خطر الحريق. وفي وقت لاحق، أدمجت "المدينة الحدائقية" البريطانية لمطوِّرها إبينيزر هوارد، المخصصات والمزارع في "الأحزمة الخضراء"، بدءًا بحديقة ليتشوورث في مطلع القرن العشرين. في عام 1928، اقترح مهندس المناظر الطبيعية الألماني ليبغيشت ميجا، دمج الحدائق المخصصة داخل تطوُّرات المجمعات السكنية العامة المحيطة بفرانكفورت الآخذة في التوسُّع. وخطط المهندس المعماري الأمريكي الرائد فرانك لويد رايت مستوطنة لامركزية (لا مثيل لها) تدعى مدينة بروداكر «Broadacre»، وفيها خُصص ما يقرب من نصف هكتار لكل أسرة من أجل إنتاج الغذاء.

وسواء كانت غير رسمية أو مخططًا لها، فإن على الزراعة التكيُّف مع التوسع العمراني. وقد أدى هذا -في بعض الحالات- إلى زراعة مكثَّفة ومبتكرة لزيادة الغلة، ودعم السلع ذات القيمة العالية. من القرن الثاني عشر وحتى القرن التاسع عشر، حوَّل المزارعون في حي "ماريه" في باريس المستنقعات إلى حدائق مثمرة، وعالجوا ببراعة النماذج المناخية الصغرى ليتمكنوا من زراعة البازلاء، والخرشوف والتين، والمشمش. لقد زرعوا بكثافة في المصاطب المرتفعة التي تتغذى (وتبقى دافئة) بسماد روث الخيل الطبيعي، واستخدموا الإطارات الباردة والأغطية الزجاجية للوقاية من سوء الطقس لتمديد موسم النمو، فضلًا عن التعريشة التي تدعم إنتاج الفاكهة وتشجعه. ولكن حتى مع الابتكار والتكثيف، فإن ارتفاع تكاليف الأراضي وتطوير وسائل النقل أدى في كثير من الأحيان إلى انتقال المزارعين في باريس وأماكن أخرى، إلى مواقع لا يمكن البناء عليها، أو الخروج إلى أطراف المدن.

زراعة المدينة كانت أيضًا وسيلة للتخفيف من وطأة الفقر. فقد شهد القرنين التاسع عشر والعشرين تخصيص حصص من الأراضي وتوزيعها على الأفراد والأسر لزراعتها؛ كمخصصات المناطق الحضرية الإنجليزية، وحصص الحدائق الفرنسية، وكذلك المخصصات الألمانية، وفي المدن الأمريكية مثل نيويورك، جمعية زراعة الأراضي الشاغرة في المدن وحدائق الإغاثة التي توفر الأراضي والتدريب -كمساعدات مباشرة- والإصلاح الاجتماعي على حد سواء. كانت زراعة الحدائق من أجل الغذاء، ولكنها تطرقت أيضًا للتقاليد، والثقافة، والتعليم، والحالة المعنوية، كاستغلال خبرات المهاجرين ومعارفهم على سبيل المثال. لقد أرست هذه البرامج طريقة لإنتاج الغذاء المحلي في أستراليا، وأوروبا، وأمريكا الشمالية خلال الحربين العالميتين، عندما زرع مئات الآلاف من المدنيين محاصيلهم الغذائية، ليتسنى للمحاصيل التجارية خدمة المجهود الحربي. على سبيل المثال، في الحرب العالمية الثانية شهدت "حدائق النصر" في بريطانيا، كل شيء ابتداءً من مساحات شاسعة من حديقة هايد بارك في لندن إلى كباري السكك الحديدية التي جرى توظيفها كأراض زراعية. بُني نشاط الحدائق العامة المجتمعية في السبعينيات والثمانينيات على تركة هذه البرامج، ولكنها ركزت على تمكين المجتمع المحلي. من ثَم ظهر المحركون ذوو النفوذ مثل ليز كريستي، أول مديرة لمجلس البيئة في برنامج تخضير المساحات المفتوحة لمدينة نيويورك. ووصلت الحركة إلى حدائق الأحياء ومنظمات التأييد على نطاق المدينة، بما في ذلك البستانيون الحضريون في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس.

مأدبة متنقلة

بمرور الوقت، ظهرت ضغوط فريدة من نوعها على الزراعة في المناطق الحضرية. الفوضى والضوضاء، والتمرد الملموس الذي يمكن أن يتحدى رغبة سلطات المدينة تجاه النظام والنظافة. تربية المواشي كانت نقطة الاشتعال. فالملايين من سكان المدن في العالم النامي يربون كل شيء من الدجاج إلى الجِمال، ولكن هذا الشكل من الزراعة كان يمثل خسائر مبكرة في الغرب. على سبيل المثال، الخنازير الطليقة في فيلادلفيا بولاية بنسيلفانيا، خضعت للتشريعات في أوائل القرن العشرين وتم إغلاق أسواق الماشية في المناطق الحضرية.

<p>الآزتيك يزرعون على جزر اصطناعية تسمى الحدائق العائمة في تينوشتيتلان</p>

الآزتيك يزرعون على جزر اصطناعية تسمى الحدائق العائمة في تينوشتيتلان

De Agostini Picture Library/G. Dagli Orti/Bridgeman Images

استمرت السمعة السيئة للزراعة في بعض مدن الغرب. ومع عولمة نظام غذائي قادر على دفع نبات مثل الهليون من دولة بيرو –غرب أمريكا الجنوبية- إلى المتاجر البريطانية الكبرى، أصبح التخطيط الغذائي والسياسة الغذائية في مدن الغرب يميلان إلى التركيز على النقل بالشاحنات، والتخزين، تاركًا المسؤولين ينظرون للإنتاج المحلي بوصفه استخدامًا تراجعيًّا مؤقتًا للحيز الحضري. يحاول بعض مصممي المزارع الحضرية ترتيب الصورة من خلال معروضات لنباتات هندسية ملونة بجانب المقاهي في الشوارع وعلى أسطح المنازل. لكنهم خاطروا بتعزيز الأسلوب على حساب المضمون، فالخطط من هذا القبيل نادرًا ما تعترف بحقائق الزراعة، مثل الموسمية، والحاجة إلى المصاطب والأحواض لإراحة الأرض.

وهكذا أصبحت الزراعة الحضرية وليمة متنقلة –انتهازية أو إلزامية، هامشية أو أساسية. منذ التسعينيات، شجعت المبادرات التي قامت بها هيئات مثل منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة السياسات، والمشروعات الرائدة، والإقراض متناهي الصغر، لدعم الزراعة لتحقيق الأمن الغذائي في العديد من المدن الأفريقية والآسيوية الأكثر فقرًا. وفي المناطق المحرومة اجتماعيًّا واقتصاديًّا مثل وادي الروهر في ألمانيا، وحزام الصدأ في شمال شرق الولايات المتحدة والغرب الأوسط، يُنظر إلى الزراعة الحضرية بوصفها مولدًا للنشاط الاقتصادى، وأداة تمكينية للوصول إلى غذاء أفضل. "جروينج باور" Growing Power، وهي منظمة أسسها نجم كرة السلة السابق ويل ألين في ميلووكي، بولاية ويسكونسن، توفر تدريبًا على نظام الزراعة "أكوابونيكس" في حلقة مغلقة، ضمن ممارسات الإنتاج الحضرية الأخرى في جميع أنحاء الولايات المتحدة (انظر: go.nature.com/2gzhj4p).

وفى أماكن أخرى، تدعم المدن الصينية الكبرى مثل شنجهاي، الأحزمة الزراعية الخضراء للاحتفاظ بالوصول المحلي إلى الخضروات الطازجة. تنتج كوبا -التي انفصلت طويلًا عن الأسواق العالمية- ما يَقرُب من 60% من الخضراوات الخاصة بها في البلدات والمدن، وبنجاح ملحوظ يستند إلى الممارسات التقليدية مثل إعادة إدخال الثيران للحرث. وفي عام 2011، أصدرت مدينة سان فرانسيسكو، بولاية كاليفورنيا، مرسومًا للزراعة الحضرية جعل الزراعة هي الاستخدام المسموح به في الأراضي ومصدرًا للمواد الغذائية القابلة للبيع. كما يجري تضمين الزراعة في خطط الاستدامة للمدن مثل مدينة سياتل، بولاية واشنطن، للحد من انبعاثات الكربون وتخضير البنية التحتية. وتحتضن التطوُّرات السكنية -بما في ذلك قرية سيرنبي خارج أتلانتا، بولاية جورجيا- الزراعة المدعومة من المجتمع، وأسواق المزارعين والمأكولات من المزرعة إلى المائدة باعتبارها "خيارًا لنمط الحياة".

جنبًا إلى جنب مع الحث على الأعمال التجارية المستدامة، واقتصادات الدورة الكاملة (B. Kiser et al. Nature 531, 443–446; 2016)، تبدأ خيارات التكنولوجيا الفائقة في الظهور. توفر المزارع الحضرية الرأسية والدفيئات الزراعية المائية، ومصانع الزراعة الهوائية، الإنتاج المكثف لتعويض ارتفاع تكاليف العقارات. وقد أتقنت المزارع الهوائية AeroFarms في نيوآرك، بولاية نيوجيرسي، عملية زراعة نباتات السَّلَطة في مدرسة محلية عام 2011 والآن تتوقع حصاد أكثر من 4 ملايين كيلوجرام سنويًّا. ولكن هذه المشروعات كثيفة رأس المال تتطلب رجال أعمال ذوي دهاء، والنقاد يقولون إن وجودها يمكن أن يؤدي إلى الطرازات القديمة مثل الحدائق المجتمعية العامة بأقل من قيمتها الحقيقية.

العمران الزراعي يدخل مرحلة جديدة باعتباره إطار معالجة لتماسُك المجتمع والوصول إلى الغذاء. من شنجهاي إلى ديترويت، يرسم المؤيدون خرائط المشهد الطبيعي للزراعة الحضرية، مسلطين الضوء على وجود الكثير من الأراضى الشاغرة و"صحراء الغذاء" مهيأة للتحول. في كثير من الأحيان، يتيح هذا تواصُلًا جيدًا بين المزارعين ومناقشة الاهتمامات المشتركة والتأييد. النموذج على هذا هو المزارع الخمس، في مدينة نيويورك Five Borough Farm وهو مشروع للصندوق الائتماني للتصميم في الأماكن العامة. هنا، تدار وثائق الموقع، وتطوير المقاييس والمقترحات المتعلقة بالسياسات الداعمة والممارسات بصورة جماعية.

"الزراعة الحضرية ستكون حاضرة عندما تنشأ تحديات جديدة".

وماذا عن المستقبل؟ تبشر الزراعة الحضرية بوعد لمواجهة تغيُّر المناخ. سيساعد تجنُّب الاعتماد على وسائل المواصلات الضعيفة، والتجريب الموسمي، واختيار المحاصيل، وتعزيز الروابط المجتمعية، على التخفيف من آثار تغيُّر المناخ والتكيُّف معها. الزراعة الحضرية ستكون حاضرة هناك عندما تنشأ تحديات جديدة، وستستمر في التطور نظرًا لأنها تستجيب للقضايا الرئيسية التي تحدد شكل مدننا.