أخبار

نوع بشري مبكِّر يكتشفه جهد جماعي

أخصائي في علم الإنسان القديم يطالب الحفارين وعلماء التشريح بدراسة إحدى أغنى حفريات أفريقيا المدفونة.

إوين كالاوي
  • Published online:

<p>قام لِي بِرجَر (في مقدمة الصورة) بتوظيف فريق من الحفارين ذوي اللياقة البدنية العالية؛ لاستخراج أكثر من 1500 قطعة حفريات من حجرة "ديناليدي" في جنوب أفريقيا.</p>

قام لِي بِرجَر (في مقدمة الصورة) بتوظيف فريق من الحفارين ذوي اللياقة البدنية العالية؛ لاستخراج أكثر من 1500 قطعة حفريات من حجرة "ديناليدي" في جنوب أفريقيا.

Wits University


"زملائي الأعزاء.. أنا بحاجة إلى مساعدة المجتمع بأكمله".. هذا ما كتبه أخصائي علم الإنسان القديم لي بِرجَر على وسائل التواصل الاجتماعي في السادس من أكتوبر لعام 2013.

في ذلك الوقت، كان برجر ـ من جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرج بجنوب أفريقيا ـ قد عَلِم لتوِّه عن اكتشاف حُجرة تحت الأرض، مليئة بالحفريات البشرية؛ فبدأ البحث عن حفّارين متمرسين؛ لجمع البقايا البشرية الرقيقة تلك بحرص، قبل أن تتحلل أكثر. يقول بِرجَر: "الشخص المناسب عليه أن يكون نحيفًا، ويُفضَّل أن يكون صغيرًا في السن، ولا يعاني من رهاب الأماكن المغلقة.. كما يجب أن تكون لديه لياقة بدنية، وبعض الخبرة في استكشاف الكهوف".

وبعد أقل من عامين، تمكَّن مع فريقه من جمع أكثر من 1500 قطعة عظام وأسنان بشرية قديمة من كهف "رايزنج ستار"، وكان ذلك هو الجمع الأكبر من نوعه الذي يُكتشَف في أفريقيا. تنتمي تلك البقايا إلى 15 شخصًا على الأقل من نوع لم يُوصَف مِن قبل، سماه الفريق Homo naledi، الذي قد يعود إلى أقدم حوادث الدفن المتعمَّد المعروفة في التاريخ البشري، حسب ما نشره برجر وزملاؤه في دورية "إي-لايف" (L. R. Berger et al. eLife 4, 09560; 2015 & P.H. G. M. Dirks et al. eLife 4, 09561; 2015). وبالنسبة إلى برجر، يشكل هذا البحث حدثًا بارزًا في الحملة المقامة لتحويل علم الإنسان القديم إلى علم شامل ومنفتح، تتم فيه مشاركة الحفريات النادرة سريعًا وسط المجتمع العلمي، بدلًا من تخزينها بعيدًا لتقوم نخبة صغيرة فقط بفحصها لسنوات.

تقول تريسي كيفل، أخصائية علم الإنسان القديم في جامعة كينت في كانتربري بالمملكة المتحدة: "هناك العديد من الحفريات التي لم يرها أحد قط، عدا مجموعة صغيرة من الأشخاص المختارين.. سيتلاشى علم الإنسان القديم حقًا بهذا الشكل". عملت كيفل على دراسة عظام الأيدي المستخرَجة من كهف "رايزنج ستار"، كما شاركت في تأليف البحث العلمي الذي يصف نوع H. naledi. وتضيف قائلة: "إنّ لِي يعمل على تغيير ذلك، فهو يضع معايير جديدة لِمَا يجب علينا توقُّعه".

من جانبه، يرى دينييه ريد ـ أخصائي علم الإنسان القديم في جامعة تكساس في أوستين ـ أن انفتاح برجر هو جزء من التحول الجيلي الذي طرأ على هذا المجال. ويقول: "نحن مهتمون أكثر بمشاركة البيانات بشكل مفتوح.. إن منافع التعاون تفوق بكثير أي مخاطر محتمّلة".

قبل بضعة أسابيع من إعلان برجر طلب المساعدة، كان فريقه قد اكتشف حجرة "ديناليدي" ضمن كهف "رايزنج ستار" للكهوف، وكان ذلك قرابة 50 كيلومترًا شمال غربي جوهانسبرج. وكان برجر لديه أمل في أن يستخرج تلك البقايا في أقرب وقت ممكن، إلا أنه كان يحتاج إلى المساعدة؛ حيث إن الحجرة تقع على عمق 30 مترًا تحت الأرض، والسبيل الوحيد للدخول إليها هو عبر شقّ، يبلغ عرضه حوالي 20 سنتيمترًا (انظر: "تنقلات صعبة"). "أنا لست لائقًا بدنيًّا للدخول إلى هذا النظام على الإطلاق"، كما يقول، مشيرًا إلى بِنْيَته الضخمة. وبعد شهر من ندائه للمساعدة، أصبح لدى برجر ستة علماء يعملون في الكهف.


الكنز المدفون

وبينما يشاهد برجر مع زملائه عرضًا مصورًا في خيمة مجاورة، يستخرج الحفّارون جماجم وعظام فخذ وأسنان، ومئات من العينات الأخرى. يقول: "بنهاية هذه الحملة، سنكون قد استرجعنا بقايا بشرية تفوق ما تم اكتشافه في جنوب أفريقيا على مدار التسعين عامًا الأخيرة".  

وإذ كان أفراد فريق الباحثين الذين يعمل معهم برجر عادةً لدراسة وتحليل بقايا الإنسان البدائي منشغلين في فَهْم الحفريات الأخرى المكتشَفة في عام 2008 في موقع مالابا القريب، وَضَعَ برجر نداءً آخر على وسائل التواصل الاجتماعي، جامعًا هذه المرة أكثر من 30 عالمًا ما زالوا في بداية مسارهم المهني، لحضور ورشة عمل مدتها شهر؛ لتحليل ووصف هذه الحفريات.

وحسب قول جون هوكس، أخصائي علم الإنسان القديم في جامعة ويسكونسين-ماديسون، الذي شارك في تنظيم حفريات كهف "رايزنج ستار"، وورشة العمل الخاصة به، فإن الفريق تعرَّض لنقد شديد، بسبب طريقة عمله غير التقليدية. يقول: "اعتقَد كثير من العاملين في هذا المجال أننا مجرد مجموعة من رعاة البقر الذين لا يعلمون كيفية القيام بالأمر".

كبر الصورة


ينوي الفريق نشر 12 بحثًا على الأقل، نتاجًا لورشة العمل تلك خلال الأشهر القادمة، نُشر أول بحثين منهما في السابع عشر من سبتمبر الماضي، حيث وَصَفَا موقع الاكتشاف، وتشريح كائنات H. naledi، الذين تحتوي جماجمهم على أدمغة صغيرة بحجم قبضة اليد، تشبه كثيرًا تلك الخاصة بالأفراد القدامى من الجنس البشري (Homo)، ومِن إنسان "أوسترالوبيث" australopith الأكثر قِدَمًا. ومن جهة أخرى، كانت أجسادهم تشبه أكثر أجسام الإنسان المعاصر، بأطراف سفلية وقدمين، وأيدٍ قادرة على الإمساك بالأدوات بدقة. ويعتقد الباحثون أن إنسان H. naledi كان يبلغ طوله أقل من متر ونصف المتر، وتراوح وزنه بين 40 و55 كيلوجرامًا.

يقول هوكس: "إنها مجموعة غريبة من الصفات، بعضها لم نره من قبل، وبعضها الآخر لم نتوقع أن يُوجَد مع بعضه البعض".


التشابه العائلي

لم يتضح للباحثين بعد العلاقة بين إنسان H. naledi وغيره من أنواع البشر البدائيين الذين استوطنوا أفريقيا، مثل Homo erectus، وHomo habilis. وهم يأملون أن يتمكنوا من تأريخ رواسب الكالسيت في الكهف؛ لتحديد عمر البقايا الموجودة، الذي قد يبلغ أكثر من مليون عام.

أما الحجرة، فهي تخلو من أي أدلّة على أن البشر القدامى عاشوا هناك، كما أنها لا تحوي أي أنواع أخرى من العظام، غير تلك الخاصة بإنسان H. naledi. لذا.. يَعتقد برجر أنها قد تكون مدفنًا متعمَّدًا. وهي في الغالب أقدم مدفن معروف حتى الآن. وحاليًّا، يُعَدّ موقع "سيما دو لوس هيوسوس" في جبال أتابويركا في إسبانيا هو الموقع الأقدم المحتوِي على مدفن للبشر القدامى، ويبلغ عمره 430 ألف عام.

<p>تبدو جمجمة إنسان <i>H. naledi</i> كجمجمة إنسان "أوسترالوبيث".</p>

تبدو جمجمة إنسان H. naledi كجمجمة إنسان "أوسترالوبيث".

كبر الصورة

cc Wits University


يتفق فريد سبوور ـ أخصائي علم الإنسان القديم في كلية لندن الجامعية ـ على أن هذه العظام تمثل نوعًا من البشر لم يكن معروفًا من قبل، وأن فريق برجر قد أصابوا التقدير في اعتبارهم أن البقايا قد دُفنت عمدًا، وذلك بعد أَخْذهم باقي الاحتمالات بعين الاعتبار. وهو متحمس لمعرفة ما يمكن للخبراء الآخرين عمله حيال هذا الأمر.

على نحو مختلف.. يعتقد جيفري شوارتز ـ عالِم الأحياء التطورية في جامعة بيتسبرج في بنسلفانيا ـ أن الأجزاء المكتشَفة عاليةُ التنوع، ولا يمكن أن تكون منتمية إلى نوع واحد فقط. يقول شوارتز: "إنْ عَرَضْتُ تلك الصور على طلابي؛ فسيخبروني أنها ليست متماثلة". ويضيف قائلًا إن إحدى الجماجم تبدو وكأنها تخص إنسان "أوسترالوبيث"، وكذلك بعض معالم عظام الفخذ.

وسيُتاح قريباً لشوارتز وآخرين فرصة الحكم على البقايا المستخرَجة من كهف "رايزنج ستار" بأنفسهم. فقد رفع فريق برجر بيانات تشمل مسوحًا ثلاثية الأبعاد للبقايا على قاعدة "مورفو سورس" (MorphoSource)، كما يرحب الفريق بالباحثين الآخرين الذين يرغبون في دراسة المواد مباشرةً. وهذا ما فعله برجر أيضًا ببقايا نوع Australopithecus sediba، التي اكتُشفت في موقع مالابا.

في ذلك يقول شوارتز إنه واجه مشكلات في الوصول إلى بقايا أشباه البشر من بعض الباحثين، حتى بعد قيامهم بنشر أوصافها في دورية علمية، لكنه عندما طلب من فريق برجر شراء قوالب حفريات A. sediba منذ عدة سنوات، قدّموها له مجانًا. ويقول: "كم هو إنسان فاضل.. إنه لمِن المُبْهِج أن يتيح لِي بِرجَر عيِّناته للجميع دومًا".