تأبين
جون فوربس ناش (2015–1928)
سيد الألعاب والمعادَلات.
- Nature (2015)
- doi:10.1038/522420a
- English article
- Published online:
جون فوربس ناش هو عالِم رياضيات ذائع الصيت، شهدت حياته تحوُّلات درامية بين العبقرية، والمرض العقلي، والشهرة. قدَّم جون إسهامات بارزة في نظرية الألعاب، والهندسة، وكذلك مجال المعادَلات التفاضلية الجزئية.
MIT Museum
توفي ناش في 23 مايو الماضي، وكان مولده في عام 1928، في مدينة بلوفيلد، فيرجينيا الغربية، الولايات المتحدة. كان والده مهندسًا كهربائيًّا، وكانت والدته تعمل بالتدريس. وفي عام 1945، بعد أن تفوق ناش في الرياضيات أثناء المرحلة الثانوية، التحق بمعهد كارنيجي للتكنولوجيا، الذي يُعرف الآن بجامعة كارنيجي ميلون، في بيتسبرج، بنسلفانيا. دَرَسَ ناش ـ في البداية ـ الهندسة الكيميائية. وبعد فترة وجيزة من تسجيله، تَحَوَّل إلى دراسة الكيمياء، ثم الرياضيات.
وفي السنة النهائية لدراسته، رشّحه أحد الأساتذة بتوصية، وكان يبلغ حينها 19 عامًا، بغرض قبول طلبه في مواصلة الدراسات العليا. ومما ورد في هذا الترشيح: «إنه عبقري في الرياضيات». تم قبول ناش في عام 1948 في جامعة هارفارد في كمبريدج، ماساتشوستس، وكذلك في جامعة برينستون في نيو جيرسي، ولكنه في النهاية اختار جامعة برينستون.
وعندما أصبح ناش طالبًا في مرحلة الدكتوراة، أثبت وجود نمط من الاتزان الرياضي، يحمل اليوم اسمه. كان عدد كلمات بحثه ـ الصادر في عام 1950، تحت عنوان «نقاط الاتزان في الألعاب الدائرة بين عدد (ن) من الأفراد» Equilibrium points in n-person games، حوالي 330 كلمة، وضم البحث مرجعين، وكان خاليًا تمامًا من المعادَلات (J. F. Nash Jr Proc. Natl Acad. Sci. USA 36, 48–49; 1950). وكان أحد هذين المرجعين هو كتاب «نظرية الألعاب والسلوك الاقتصادي» Theory of Games and Economic Behavior، الصادر في عام 1944، حيث أدخل الرياضي جون فون نومان، ورجل الاقتصاد أوسكار مورجنسترن نظرية الألعاب في هذا الكتاب، وهي أسلوب رياضي يسمح بدراسة القرارات الاستراتيجية والاقتصادية.
نمط «إتزان ناش» هو بمثابة موقف في لعبة، بحيث لا يستطيع أي من اللاعبين تغيير استراتيجيته، بغرض تحسين مقدار أرباحه. تخيَّلْ لعبة بها لاعبان (أنت وشخص آخر)، وتُوجد استراتيجيتان «أ و ب». تقضي هذه اللعبة بأنْ يربح كل منكما نقطتين، إنْ اخترتما في آنٍ واحد الاستراتيجية (أ)، أمّا إذا اخترتَ الاستراتيجية (أ)، واختار خصمك الاستراتيجية (ب)؛ فإنك لا تربح شيئًا، وإذا اخترت الاستراتيجية (ب)، واختار خصمك (أ)، فمقدار ربحك سيكون ثلاث نقاط. وأخيرًا، إذا اخترتما معًا الاستراتيجية (ب)؛ فسيكون مقدار الربح نقطة واحدة.
في المثال السابق، يتحقق نمط «اتزان ناش» عندما يختار اللاعبان معًا الاستراتيجية (ب). وفي هذه الحالة يكون ربح كل منهما نقطة. وإنْ تَحَوَّل أحد اللاعبين إلى الاستراتيجية (أ)؛ تسقط قيمة ربحه. وبعبارة أخرى.. لا يمكن لأحد اللاعبين أن يغيِّر استراتيجيته بشكل مستقل من أجل تحسين الربح. ولاحظ أنه إذا اختار اللاعبان الاستراتيجية (أ)؛ لا يتحقق نمط «اتزان ناش»، لأنك تستطيع تحسين ربحك بالتحول إلى الاستراتيجية (ب).
إن حساب نمط «اتزان ناش» قد يكون صعبًا عندما يتعلق الأمر بلعبة معقدة. كما أنك لست متأكدًا من أنّ الخِصْم يتميز بسلامة المنطق الذي يجعله يلعب وفقًا لاستراتيجية الاتزان. وإذا كان اللاعبان عقلانيَّيْن، وعقلانيّتهما من المستوى السائد؛ فسيلعبان وفقًا لاستراتيجية الاتزان، غير أن التجربة تكشف أن الناس في الغالب ليسوا عقلانيين. وبغض النظر عما إذا كان الناس يلعبون فعلًا وفق «اتزان ناش» في التعاملات الاجتماعية أو الاقتصادية، فإن اكتشاف ماهيّة هذا الاتزان (أو التعرف على حقيقة اتزانات ناش)، هو الخطوة الأولى في تحليل أي لعبة.
على الرغم من أن فون نومان لم يتقبل آنذاك مبدأ «اتزان ناش»، واعتبره نظرية تافهة، فقد تم استخدام هذا الاتزان لتحليل جميع الوضعيّات التنافسية. فبالإضافة إلى كون مفهوم الاتزان يؤدي دورًا أساسيًّا في صنع القرار، سواء تَعَلَّق الأمر بالاقتصاد، أم بالسياسة، فإنه ذو أهمية أيضًا في عِلْم الأحياء. فهذا المفهوم يعادل تقريبًا المفهوم الذي صاغه عالِم الأحياء التطوري جون ماينارد سميث خلال سبعينات القرن الماضي، وأطلق عليه اسم «الاستراتيجية المستقرة التطورية»، بحيث إذا تبنَّى كل أعضاء مجموعة سكانية هذه الاستراتيجية، فإن الانتقاء الطبيعي يَحُول دون انتشار الطفرات النادرة.
بعد أن حصل ناش على شهادة الدكتوراة، التحق بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في كمبريدج في عام 1951. وعمل في البداية معلمًا، ثم أستاذًا في كلية الرياضيات، حتى استقال في عام 1959. وخلال انتسابه إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، التقى بأليسيا لوبيز-هاريسون دي لاردي؛ وتزوجها، حيث كانت طالبة تدرس الفيزياء في المعهد.
ذاع سيط ناش في وسط علماء الرياضيات، بفضل أعماله في مجالي الهندسة الجبرية الحقيقية، والمعادلات التفاضلية الجزئية غير الخطية. وكان يخوض بثقة في أصعب المسائل في هذا المجال بنجاح. وفي عام 1957، حلّ المسألة التاسعة عشرة لهيلبرت، ذات الصلة بالمعادلات التفاضلية الجزئية، وذلك بالتوازي مع عالِم الرياضيات الإيطالي إنيو دي جيورجي.
وخلال محاضرة ألقاها ناش في عام 1959 حول «فرضية ريمان»، التي تُعتبر من أعقد المسائل الرياضية، أدرك الجمهور أن هناك خَطْبًا ما لدى ناش، فلم يكن ما يقوله مفهومًا. ثم شُخِّصَت حالته الصحية في تلك السنة، فتبين أنه مصاب بالفصام. وعلى مدار العقدين التاليين، كان ناش يتردد ـ بلا انقطاع ـ على المستشفيات. خضع للعلاج، وغادر الولايات المتحدة خلال فترة علاجه، طالبًا اللجوء السياسي إلى سويسرا، في محاولة للهروب من جَلَّادِيه الوهميين. وقضى سنوات عديدة تائهًا في محيط حرم برينستون الجامعي. وفي تلك الأثناء، كانت أليسيا ـ التي انفصلت عن ناش في عام 1963 ـ تتولى قسطًا كبيرًا من رعايته.
وفي أواخر الثمانينات، ظهر ناش مجددًا في الأوساط الأكاديمية، وفاز في عام 1994 بجائزة «نوبل» في العلوم الاقتصادية، تتويجًا لعمله في نظرية الألعاب. وهكذا، سُلِّطت الأضواء على ناش، إثر نَيْلِه هذه الجائزة، وإثر إخراج فيلم «عقل جميل» A Beautiful Mind في عام 2001، حيث روى الفيلم قصة كفاح ناش، استنادًا إلى كتاب الصحفية سيلفيا نصار، الذي يحمل عنوان الفيلم نفسه.
في مايو من العام الجاري، نال ناش جائزة «آبل» Abel من الأكاديمية النرويجية للعلوم والآداب، تتويجًا لعمله في مجال المعادَلات التفاضلية الجزئية. وعند العودة من الاحتفال بالنرويج، لقي جون وأليسيا (اللذان تزوَّجا مجددًا في عام 2001) حتفهما، إثر حادث تصادم لسيارة أجرة، كانت تقلهما على الطريق السريع الشهير في نيو جيرسي. وكان عُمْر جون آنذاك 86 سنة.
التقيت بجون في عام 1998 بمعهد الدراسات المتقدمة في جامعة برينستون، حيث كنتُ ألقي محاضراتي، التي حضرها هو شخصيًّا. وأذكر في يوم من أيام الصيف، عندما حدث خلل في طريقة الجلوس المعتادة لتناول طعام الغداء، بسبب إغلاق المطبخ الرئيس بالجامعة، لاحظت وجود جون، وعالِم الفيزياء إدوارد ويتن، وأندرو وايلز عالِم الرياضيات البريطاني ـ الذي أثبت نظرية «فيرمات» الأخيرة ـ جالسين معًا حول طاولة صغيرة. كنتُ أتساءل.. تُرَى، مَنْ منهم سيبدأ الحديث؟ لكنهم جلسوا يتناولون الطعام في صمت.