مستقبليات
خُبْز الحياة
حقائق عن الوطن
- Nature (2015)
- doi:10.1038/520258a
- English article
- Published online:
Illustration by Jacey
كان أمرًا في غاية الخطورة ـ بل ويندرج تحت وصْف الخيانة أيضًا ـ أن يتكلم الناس عن ذكرياتهم المتعلقة بالأرض بصوت عالٍ.. فإنْ فعلوا...؛ فهُم بذلك يخاطرون بإعطاء «الدندول» كل ما يريدون. ورغم ذلك.. لم يقوَ الناس عادةً على طرد فكرة ذلك الخطر من أذهانهم، كلما دلفوا إلى مخبز «سونيا» الأرضي.
تطلَّعت سونيا إلى أعلى، بينما دلف رجل مخبزها. كان إنسانًا عاديًّا، في الأربعين من عمره، أو الخمسين، لم يختلف شعره ـ الذي علاه الشيب ـ عن شعرها. كان كلاهما كبيرًا بالقدر الذي يسمح له بأن يتذكر الأرض أيام أمجادها. تمهل عند الباب، واستنشق بعمق، فَلَاحَ الحزن على محيَّاه.
همَس قائلًا: «يا إلهي!».
قالت: «لا بد أنك فرانكلين صاحب طلبية خُبْز (الجوادار). رست سفينتك في أوانها».
تفرقت البشرية عبر عشرات الأنظمة، لكن سونيا لم تكن بحاجة إلى الإعلان عن أدواتها. انتشر الخبر بين الطاقم البشري على متن سفن الشحن والمكُّوكات الفضائية التي كانت تقطع محطة كاجي. وأغلبهم كان يطلب طلبية مسبقة؛ لكي يحصلوا على مرادهم، لكنها دائمًا ما كانت تعرض أغراضها المفضلة في نافذة العرض. ولم يكن الخبز يذهب هباءً قط.
لم يُخْفِ القناع النحيل المحيط بعيني فرانكلين نظرته الذاهلة. «يا لهذا المكان! كيف تحصلين حتى على المكونات؟». كان جسده نحيلًا، شأنه شأن روّاد الفضاء الذين يعتمدون على عبوات محددة السعرات الحرارية أثناء ترحالهم.
«إنها أشياء مكلفة.. ولا أربح منها الكثير». هكذا كانت الحقيقة. «أجلب قمحي وغيره من الأشياء كلها من تجار شرعيين متخصصين في الأطعمة البشرية الشهية. ولقد أخبرتك بهذه المعلومة عندما تقدمت بالطلبية».
أخرجت سونيا حزمة مغلفة في ورق أبيض خفيف، كان الغلاف مطويًّا بعناية، كمن يدثّر طفلًا حديث الولادة.
«لقد قرأتها. لعلّها أروع مِن أنْ يصدِّقها العقل». حدّق في البضاعة المحفوظة تحت قبة النضد. «هل لديك خمائر على هيئة شرائح؟ وخبز الضفيرة اليهودية؟» اتكأ على الزجاج، وكأنه أمسى فجأةً عديم عظام البدن.
حدّقت فيه سونيا بتَرَقُّب.
«جدتي كانت تخبز لنا خبز الضفيرة اليهودية في الأعياد»، قالها هامسًا بنبرة خفيضة جدًّا. «هذا الخبز الدائري المُضَفَّر... وكانت تصِرّ على خبزه بيديها، لأن مذاقه بهذه الطريقة هو الأفضل على الإطلاق. يا للرائحة عندما يخرج هذا الخبز من الفرن». استنشق بقوة، حتى إن أنفاسه أحدثت خشخشة مكبوتة. «إنها الرائحة نفسها هنا. كنتُ قد نسيت. كان هذا منذ زمن بعيد...».
دمَّر «الدندول» الأرضَ.
بالنسبة لهم، يشع البشر مشاعر قوية بطريقة مخالفة لغيرهم من الأنواع الحية. وتنضح الذكريات المنطوقة تحديدًا مذاقات عميقة، اعتاد «الدندول» امتصاصها؛ بغية الارتقاء إلى حالة من السُّكْر الهانئ. عندما أشعلوا النار في الأرض، لم تكن نِيَّتهم نحر غالبية البشر. لا، فقد كانوا يحرصون على إنضاج الذكريات، حتى أوان حصادها.
قالت سونيا: «كان لَدَى كل ثقافة على الأرض تقريبًا نوعها الخاص من الخبز. وأنا أصنع كل هذه الأنواع. وقصتك ليست بغريبة عليّ. فظني أن كل إنسان تقريبًا كانت جدته تخبز له. لديَّ زبائن يأتونني بغية الحصول على شرائح الخبز التجارية القديمة تلك».
قهقه بصوت عالٍ. «إن الخبز هو قِوام صندوق غداء كل طفل، إلى جانب زبدة الفول السوداني، والجيلي، مع السجق الإيطالي البشع. حتى هذا السجق يبدو رائعًا في أيامنا هذه. هل خبز الضفيرة اليهودية هنا؟ بكم تبيعين هذا الخبز؟». أجابت صامتة برسالة من عينيها. لقد كان ردّ الفعل غير الصوتي عادةً من عادات سونيا؛ فالكاجي يعتبرون ذِكْر المال شيئًا فظًّا. «سآخذ بقية قطعة الخبز هذه. ثمة امرأة ضمن طاقمي.. سيمثِّل لها هذا الخبز كنزًا عظيمًا».
غلَّفته سونيا، وقالت: «أشكرك على إرسال دفعتك بسرعة».
هَزّ رأسه استجابةً لها، بينما ناولته الخبز المغلَّف. «حسنًا، لِمَ تشغلين نفسك بالخبيز؟ ألا يجنّ جنونك حين تسترجعين الذكريات، وتذكرين ما خسرناه كل يوم؟».
«ربما فقدتُ صوابي، لو لم أفعل!».
تراجَع.. وتعلّقت عيناه بشيء بعيد، ولم ينبس ببنت شفة وهو راحل.
تطلَّعت سونيا إلى أعلى.. إلى المِجَسَّات الخفية التي سجلت حوارهما على مستويات أعمق بكثير من الصوت المحض. قد يسمع الإنسان الذي يتمتع بإحساس مرهف مَرافِق الموسيقى، ويرى الألوان؛ ولكن بالنسبة إلى «الدندول»... تستدعي قصة فرانك الموجزة المشبوبة بالعاطفة نشوةً عارمة.
جرَّبَ «الدندول» فكرة تعذيب البشر؛ لاستخراج الذكريات منهم، لكنّ الألم البدني شَوَّه النتائج؛ وجعلها مريرة. كما بدَّلَ الكحول أيضًا من مذاق الذكريات بشكل كريه، فقد كان يتعيّن استدعاء الكلمات بطريقة طبيعية وسَوِيَّة.
وثبت أن كثيرًا من الأطعمة الأرضية فخّ رائع، لكن لم يُضَاهِ أيّ طعام الخبزَ قوةً وشمولًا.
مدَّت سونيا يدها داخل المجمِّد السريع؛ التماسًا لقطعة من خبز الضفيرة اليهودية، ولتجهز طلبياتها لليوم التالي. خبز برتغالي حلو، خبز يوناني، خبز التشاباتا الإيطالي، واستنشقت الرائحة العطرة الخميرية.
كان فخ الذاكرة هذا لسَدّ احتياجاتها الخاصة أيضًا، كي تستقطب القليل من البشر الذين يَفِدون على هذه المحطة النائية، ولسماع تاريخهم الذي يهمسون به، وكأنه مؤامرة. كانت تستغرق في التجربة، وتستبقيها، وكأنها ما برحت تدير حسابات مخبز والدها في دينفر، وكأنها لم تكن تعيش على متن قضيب دوَّار في الفضاء السحيق، وكأنها لم تكن نقطة ضمن شتات من ملايين الأرواح البشرية المتبقية.
رنّ جرس الباب، ودلفت امرأة شيباء الشعر. «أحقًا يوجد مخبز على متن تلك المحطة؟! يا للرائحة المنبعثة من هنا. إنها تذكرني ...».
سكتت عن الكلام، وتسلل الألم إلى مُحَيَّاها.
لم تنبس سونيا ببنت شفة. انتظرت.. وتدفقت القصص والحكايات.