أنباء وآراء
تقنيات حيوية: حَرِّر الجينوم؛ لِتَفْهَمه
يُستخدم تحديد تتابع القواعد في الجينوم، بعد تحريره، حاليًا في هندسة وتحليل كل نوع من أجزاء عدة من الحمض النووي البشري في الخلايا الحية، مما يعطي فكرة عن وظيفة كل نيوكليوتيدة مكوِّنة لتلك الأجزاء.
- Nature (2014)
- doi:10.1038/nature13659
- English article
- Published online:
لقد تم تشكيلك عن طريق كل من الطبيعة والعوامل الخارجية، عن طريق الحمض النووي والبيئة المحيطة بك. كيف تؤثر الاختلافات في الجينوم الخاص بك، مقارنة بمثيله في أناس آخرين، على شخصيتك ومَن تكون؟ في العدد الصادر في الرابع من سبتمبر الماضي من دورية Nature الدولية، استخدمت مجموعة فيندلاي1 البحثية مزيجًا من تقنيتي تحرير2 الجينوم البشري، والتحليل العميق لتتابع القواعد الجينية بطريقة مبهرة، لتأخذنا خطوة كبيرة تجاه إجابة شاملة على هذا السؤال العتيق.
يُعَدّ فهمنا للجينات الخاصة بنا تحديًا كبيرًا، إذ يبلغ طول الحمض النووي البشري حوالى 6.5 مليار زوج من القواعد ـ بما يماثل عدد الحروف الموجودة في 5000 نسخة من "يوليسيس" للأديب جيمس جويس ـ وتقع الاختلافات في الحمض النووي بين أي شخصين في كل ألف زوج تقريبًا. ورغم أن بعض هذه الاختلافات عظيم الأثر (مثلًا، قد يمنع أحد هذه الاختلافات البالغين من تناول الألبان)، فمعظمها له أثر طفيف (مثل جعْل أحدهم أطول بحوالى 0.5 سنتيمتر من شخص آخر)، أو ليس له أثر على الإطلاق. واليوم، وباستخدام التكنولوجيا الحديثة، يمكن قراءة الحمض النووي بسهولة، دون تكلفة كبيرة، ولكن فَهْم ما الذي تعنيه أي من التغيرات قد يكون أكثر صعوبة من قراءة مقاطع معينة من رواية جويس: بعض النصوص الجينية تبدو وكأنها مكتوبة بلغة الجان. الأصعب من ذلك، مع بعض الاستثناءات الملحوظة، أنه ليس لدينا فَهْم كامل لأي الأجزاء من البروتين وجزيئات الحمض الريبي المشفّرة بالجينات ذات أهمية للخلية بالفعل، وأيها ليس كذلك.
تبدو هذه المشكلة بسيطة الحل. ولمعرفة أي التغيرات في جين معين تمثِّل أهمية، أحدِث اختلافًا بها، وراقِبْ ما يحدث. ومع ذلك.. ثبت مع الوقت أن تلك التجربة عصية على التنفيذ، لأن خلايانا قد تطورت لتحمي الحمض النووي الخاص بها من تغيرات مماثلة حسب الطلب. الحل هو تحرير الجين2، حيث الخطوة الأولى هي قطع الحمض النووي بداخل الخلية الحية. كان هذا يتم في السابق باستخدام إنزيم مصمَّم يُسمى نيوكليز أصبع الزنك3، وحديثًا باستخدام نوعين آخرَين من الإنزيمات −مجموعة إنزيمات التالين4 والإنزيمات5 المرتبطة بجزيئات كريسبر− التي باتت تُستغل أيضًا للغرض نفسه. ويمكن للخلايا إصلاح الكسور في جزيء الحمض النووي، إما بلصق النهايتين ببعضهما مرة أخرى، أو بجَبْر الكسر باستخدام المعلومات الجينية من جزيء حمض نووي آخر له تتابُع القواعد ذاته، أو تتابع مشابه. في أحد أشكال تحرير الجينات البشرية6، يتم التلاعب بهذا المسار الثاني، بحيث تُصلح الخلية الكسر بقطعة حمض نووي جديدة تحتوي على الطفرة المرغوب فيها.
استخدمت مجموعة فيندلاي البحثية هذه الطريقة الأخيرة للإجابة على سؤال جوهري: أي أجزاء من الجين مهمة بالفعل للخلية؟ أولًا، قررت المجموعة أن تركز على جين تُعتبر وظيفته حيوية لبقاء الخلية، DBR1، فصمموا قطعة مكونة من 75 نيوكليوتيدة، بحيث تقع كل طفرة ممكنة في نيوكليوتيدة مفردة. كان قد سبق استخدام التحرير الجينومي لخلق مجموعة صغيرة من الطفرات المقصودة في أحد جينات6,7 الثدييات، أو لتحرير جينات عديدة في المسار الإشاري نفسه8,9، ولكن لم يسبق من قبل إحداث كل تغيير ممكن على مستوى النيوكليوتيدة المفردة (كانت التجارب المماثلة، حتى الآن، ممكنة فقط في الخميرة المتبرعمة10). كانت النتيجة مجموعة خلايا، تحمل كلٌّ منها حمضًا نوويًّا ذا تتابع مختلف من القواعد، بما يشبه مجموعة جُمَل تختلف كل منها في حرف واحد (الشكل 1).
قام فيندلاي وزملاؤه1 بتغيير كل نيوكليوتيدة في قطعة قصيرة من الحمض النووي، وبعدها قاموا بفحص الخلايا الطافرة الناتجة لتحديد أي تلك التغييرات نافعة وأيها ضار. يمكن مقارنة هذا بكتابة وقراءة مجموعة من الجمل المتماثلة فيما عدا حرف واحد يتغير في كل جملة (كما في إحدى قصائد تي. إس. إليوت). بعض التغييرات يغير المعنى (في الحمض النووي، يقابل هذا تغيرًا في الوظيفة التي يقوم بها البروتين المشفر بالجين)، وبعضها حميد، وبعضها يجعل الجملة غير ذات معنى (فى هذه الحالة، قد يتم بتدمير الحمض الريبي الناتج عن نسخ هذا الجين). توفر هذه الطريقة معلومات عن المعنى، ودور كل من الكلمات المكونة للجملة، أو كل من النيوكليوتيدات المكونة لجزيء حمض نووي.
لتحديد أي التغيرات مفيدة للخلايا وأيها ضار، استخدم فيندلاي وزملاؤه تقنية التحليل العميق للقواعد، الذي يقوم بقراءة كل نسخة من كل جين في كل خلية من تجمُّع خلايا. بعد التحرير مباشرة، كانت الخلايا وكأنها مِشكال (رسم متغير الألوان) من التنوع الجيني. يمثل عدد الخلايا المحررة جينيًّا فقط 1 ـ %3 من عدد الخلايا الكلي (أقل من مثيله في دراسات أخرى2)، ولكن هذه ليست مشكلة حقيقية، لأن تقنية التحليل العميق للقواعد يمكنها التعرف حتى على أكثر تتابعات الحمض النووي ندرةً.
بعد أيام قليلة، حدث تغيُّر مذهل. فقد قَلَّ عدد الكثير من التتابعات الجديدة، أو اختفت تمامًا. كان هذا هو "البقاء للأصلح" في صورته الخلوية. وجد الباحثون أن الخلايا قليلة الحظ التي اكتسبت طفرة في نيوكليوتيدة ضرورية لعمل الجين قد ماتت فورًا، بينما نَجَت الخلايا ذات الطفرات الحميدة. توفِّر هذه التجربة خريطة وظيفية رائعة لهذا الجزء من النص الجيني، حيث أصبحنا نعرف ما إذا كان كل موقع على الجين يسهم بشكل فعال في آلية عمل البروتين، أم لا.
بعض التغيرات الجينية لا تؤثر على ما يفعله البروتين، بينما ما يؤثِّر حقًّا هو الكيفية التي توضع بها جزيئات الحمض الريبي المرسال، بحيث تُزال المقاطع التي لا تحدِّد أحماضًا أمينية في البروتين الناتج (عملية تُعرف بالقَصّ). قام فيندلاي وزملاؤه بدراسة كيفية تأثير تتابع القواعد في الحمض النووي على عملية القص في الجين BRCA1، وهو الجين الذي تُسبِّب الطفرات به سرطان الثدي، في بعض الحالات بسبب أخطاء في عملية القص.
قام المؤلفون بتخليق كل التتابعات الممكنة تقريبًا في قطعة طولها 6 أزواج من القواعد في جين BRCA1، ثم درسوا أيّ تلك التتابعات ساعدت الجين على أن يُنسَخ إلى حمض ريبي طبيعي، وأيها منعت ذلك. قاموا أيضًا بأخذ تلك المجموعة الرائعة المكونة من 4,048 نوعًا مختلفًا من الخلايا، تنمو جنبًا إلى جنب في طبق استنبات، ثم قاسوا المعدل الذي يظهر به كل تتابع في الحمض النووي الخاص بالجين BRCA1 والحمض الريبي المقابل له. بعض التتابعات لم تظهر على الإطلاق في الحمض الريبي، مما يعطى فكرة عن أي الإشارات الجينية تتحكم بالطريقة التي يكتسب بها الحمض الريبي صورته الوظيفية الكاملة.
قدمت مجموعة فيندلاي البحثية طريقة يمكن بها إيجاد معنى فى نصوص الحمض النووي البشري، وذلك بالتحليل النظامي لكل نيوكليوتيدة في الجين في وسطها الطبيعي على الكروموزوم. كل ما نحتاجه هو طريقة قوية لتحرير المنطقة الجينية محل الدراسة3-5، وتقنية لمتابعة آثار هذا التحرير الجيني على الخلايا. في العلم، عادةً ما يكون لكلمة "عشوائي" رنين سلبيّ، لكن ليس هذه المرة. إنّ إحداث تغييرات عشوائية في جين ما، ثم تَرْك الطبيعة لتأخذ مجراها قد يقدِّم كمية ضخمة من المعلومات. فعلى سبيل المثال.. بالنسبة إلى النساء اللاتي تحملن طفرة في جين BRCA1، يُعتبر تحديد ما إذا كن عرضةً للإصابة بالسرطان كنتيجة لنوع معين من الطفرات تحديًا كبيرًا. ويمكن استخدام طريقة فيندلاي وزملائه لحل هذه المشكلة، ولتحديد أي طفرة بعينها، من الطفرات التي تحدث في جين BRCA1، هي الأكثر مدعاة للقلق.
عمومًا، حين تُوضع طريقة تحرير الجينوم بجانب تقنيات التحليل العميق لتتابعات القواعد الجينية، فإن ذلك يوفر ـ بلا شك ـ أرضية يمكن أن نتقدم على أساسها في مسعانا لفهم كيف يجعلنا الحمض النووي الخاص بنا مَنْ نحن عليه. يقدِّم عمل أولئك الباحثين مثالًا ممتازًا يدعم كلمات خبير الوراثة سيدني برينر11: "إنّ التقدم العلمي يَنتُج من تقنيات جديدة، واكتشافات جديدة، وأفكار جديدة، بهذا الترتيب غالبًا".
References
- Findlay, G. M., Boyle, E. A., Hause, R. J., Klein, J. C. & Shendure, J. Nature 513, 120–123 (2014).
- Carroll, D. Annu. Rev. Biochem. 83, 409–439 (2014).
- Urnov, F. D., Rebar, E. J., Holmes, M. C., Zhang, H. S. & Gregory, P. D. Nature Rev. Genet. 11, 636–646 (2010).
- Joung, J. K. & Sander, J. D. Nature Rev. Mol. Cell Biol. 14, 49–55 (2013).
- Ran, F. A. et al. Nature Protocols 8, 2281–2308 (2013).
- Urnov, F. D. et al. Nature 435, 646–651 (2005).
- Goldberg, A. D. et al. Cell 140, 678–691 (2010).
- Doyon, J. B. et al. Nature Cell Biol. 13, 331–337 (2011).
- Sexton, A. et al. Genes Dev. http://dx.doi.org/10.1101/gad.246819.114 (2014).
- Braberg, H. et al. Cell 154, 775–788 (2013).
- Robertson, M. Nature 285, 358–359 (1980).