أنباء وآراء

فيزياء المواد المكثفة: زجاج مصنوع من معدن نقي

الإنجاز التجريبي لمعادن نقية غير متبلورة يفتح الباب لإجراء الدراسات على العمليات الأساسية لتَكَوُّن الزجاج، كما يشير إلى أن البِنَى غير المتبلورة هي أكثر صيغ المادة المكثفة شيوعًا.

  • Published online:

في العدد الصادر في منتصف شهر أغسطس الماضي من دورية Nature الدولية، سجَّل ماو وزملاؤه1، طريقةً تسمح لهم بالوصول إلى هدف استعصى على علماء المواد لفترة طويلة من الزمن، وهو تكوين مواد زجاجية من معادن نقية. ستمكِّن هذه الطريقة من إجراء دراسات، لطالما احتجنا إليها، على تكوُّن الزجاج في الأنظمة البسيطة، كما ستسمح بإجراء نمذجة حاسوبية للعمليات ذات الصلة.

لأسباب تتعلق بالديناميكا الحرارية، تصبح معظم المواد السائلة متبلورة حينما تبرد لدرجات حرارة تقل عن درجة حرارة "الإسالة"، وهي درجة الحرارة التي تصبح فوقها المواد سائلة بشكل كامل. يحدث التبلور في مقاييس زمنية مختلفة، ويمكن أن يتم تثبيطه بواسطة التبريد السريع للسائل، الذي يؤدي إلى تكوّن زجاج2. وتحدث عملية التزجيج للمواد المختلفة بمعدلات تبريد حَرِجة (Rc) متباينة بدرجة كبيرة، الحد الأدنى لمعدل التبريد الضروري لتكوين زجاج.

تم تسجيل تكوُّن زجاج في حالة السبائك المعدنية من قَبل3. وتزيد مقدرة السبيكة على تكوين الزجاج مع زيادة عدد مكوناتها، خصوصًا إذا ما احتوت على عناصر تختلف أحجامها الذرية بنسبة تزيد على %12، وإذا ما كان ثمة دافع ثرموديناميكي لامتزاج هذه العناصر4. تتميز بعض السبائك التي تبدي هذه الخواص، والتي تُعرف باسم زجاج الكتلة المعدني، بمقدرات عالية على تكوين الزجاج, وتصل قيمة معدلات التبريد الحرجة الخاصة بها إلى قيم تقل عن 1000 كِلفن في الثانية (أي أن معدل تبريدها يقارب المعدل الضروري لتكوين البوليمرات غير المتبلورة). لهذه المواد أيضًا سُمك صبٍّ حرج - وهو السُّمك الأكبر الذي يمكن عنده استخلاص الحرارة بدرجة تكفي لتفادي التبلور - تزيد قيمته على مليمتر واحد. وحتى الوقت الحاضر، تم تسجيل تكوُّن مئات السبائك المعقدة من زجاج الكتلة المعدني.

لا تستوفي المعادن النقية الشروط المذكورة أعلاه، لأنها تفتقد التعقيد الضروري "لتشويش" عملية التبلور5. ونتيجة لذلك.. كان يُنظَر إلى هذه المواد باعتبارها مواد ذات مكونات ضعيفة للزجاج6. وحتى تقنيات التبريد الفوري المتقدمة كانت بطيئة جدًّا لتفادي تبلور المعادن النقية السائلة، ما عدا في بعض الحالات الاستثنائية7. استحدث ماو وزملاؤه الآن طريقة تسخين وتبريد فائقة السرعة، تسمح بتزجيج المعادن النقية السائلة.

استخدم المؤلفون أداة تسخين نانوية تجمع بين قمّتين معدنيّتين، يصل طول كليهما إلى 100 نانومتر. وتم إنجاز التسخين باستخدام نبضة كهربية قصيرة (استمرت لمدة 4 نانوثانية)، قامت بصهر القمتين بصورة فورية. تشتّتت بعد ذلك الحرارة بسرعة عبر العينة المصهورة في اتجاه الأداة، مستحثةً معدلات تبريد تقارب 1014 كِلفن في الثانية عند مركز العيِّنة. تنبأ الباحثون بحدوث هذه المعدلات المرتفعة للتبريد على أساس النمذجة الجزيئية-الديناميكية، وقد تسببت في حدوث تزجيج لجزء من المعادن النقية يصل حجمه إلى ما يقارب 40 نانومترًا في 50 نانومترًا.

والزجاج المعدني مطلوب للتطبيقات التجارية، لأنه يُظْهِر خصائص ميكانيكية جذابة، مثل القوة العالية، والمرونة، وسهولة المعالجة8. وتمثل نشأة تكوين الزجاج المعدني، والتقدم في الطرق التي تسمح بدراسة الحالة السائلة للمعادن عند المقاييس الزمنية البطيئة، التي يمكن إجراء التجارب عندها، مصدرَ إثارة بالنسبة إلى العلوم الأساسية. وقد مكَّنت هذه التطورات من دراسة خواص السوائل المعدنية، واستقصاء انتقالها إلى الحالتين المتبلورة والزجاجية، ولكن حقيقة الاحتياج السابق إلى سبائك متعددة المكونات لتكوين الزجاج عقّدت من دراسة الزجاج المعدني.

في الأنظمة متعددة المكونات، يعتمد تكوُّن الزجاج على الفروق ذَرِّيَّة الحجم، وعلى التجاذب ما بين ذرات العناصر المختلفة. ويتأثر تكون الزجاج كذلك بحقيقة أن التبلور في السبائك عادة ما يتطلب تغيير التركيب الذري، وهو انتشار طويل المدى لإرساء الفرق في التركيب ما بين السائل والطور المتبلور النامي. ويستغرق هذا التبلور فترة زمنية طويلة، كما أنه يبطئ من عملية التبلور، الأمر الذي يسهل من تكوُّن الزجاج. وكل ذلك يعتم الأوجه الرئيسة والشائعة للتزجيج، التي يمكن ملاحظتها في الأنظمة البسيطة. ويسمح الفتح العلمي ـ الذي أنجزه ماو وزملاؤه ـ بدراسة تكوُّن الزجاج في أكثر صيغِهِ نقاءً، كما أن نتائجهم تؤكد التنبؤات النظرية، وتنبؤات النمذجة، التي تقول بإمكانية تكوُّن الزجاج في المعادن النقية.

درس هؤلاء الباحثون المعادن التي تتراصّ ذراتها على هيئة مكعبة مركزية الجسم (bcc) في الطور المتبلور الصلب، لكنْ ما الذي يمكن أن يحدث للمعادن التي تأخذ بِنًى بلورية مختلفة، من قبيل الهيئة المكعبة مركزية الوجه (fcc)؟ يتم تحديد تكوُّن الزجاج فقط بالنمو البلوري في أداة التسخين التي استخدمها ماو وزملاؤه، كما أن معدلات النمو البلوري تكون أبطأ بالنسبة لبلورات البِنَى المكعبة مركزية الجسم عند مقارنتها ببلورات البِنَى المكعبة مركزية الوجه. لذلك.. يُتوقع أن تكون قِيَم معدلات التبريد الحرجة للمعادن ذات البِنَى المكعبة مركزية الوجه أعلى حتى من تلك التي سجّلها ماو وزملاؤه للمعادن النقية ذات البِنَى المكعبة مركزية الجسم.

تتضمن عملية التبلور في صيغتها الأكثر عمومًا تكوُّن النواة - التكوين الابتدائي لبلورات دقيقة النواة - والنمو. ويتنافس تكوين الزجاج مع مزيج من هاتين العمليتين، إلا أن التبلور يتقدم عبر النمو في الطور السائل، دون المبرد للسطح البيني بين البلورة والسائل في تجارب ماو وزملائه (الشكل 1). ولذلك.. لا يعتمد النمو البلوري على تكوين النواة في نظامهم، وهو ما يعني أن قِيَم التبريد الحرجة التي سجلها المؤلفون هي ـ على الأرجح ـ تقديرات زائدة للصيغة الأكثر عمومًا من التزجيج في المعادن ذات البِنَى المكعبة مركزية الجسم. ولإشراك عملية تكوين النواة، ينبغي تفادي الاحتكاك المباشر ما بين الطور السائل، والحدّ البلوري. سيسمح التحقيق التجريبي لما سبق بدراسة المراحل المبكرة من عملية تكوين النواة، وهي أحد أكبر ألغاز علم الفيزياء.


 توضح الصورة الميكروية جزءًا من تانتالوم مصهور بين منطقتين متبلورتين. يذكر ماو وزملاؤه1 أن المناطق المتبلورة تنمو في اتجاه المناطق السائلة (الأسهم الزرقاء) عند التبريد السريع، إلى أن تعجز حركات النمو عن مواكبة المجال الحراري الذي يحدده معدل التبريد. بعد ذلك، "يتجمد" السائل الموجود في مقدمة السطح البيني في هيئة زجاج. وعند التسخين، يتحرك السطح البيني بين البلورة والسائل تجاه الأقسام المتبلورة من العيِّنة (الأسهم الحمراء).

كبر الصورة


تم الاستقصاء التجريبي لتكوُّن الزجاج في العادة على عيِّنات كبيرة تزيد عن 108 ذرّات, وعند مقاييس زمنية طويلة تزيد عن ميكروثانية. وعلى العكس، اقتصرت المحاكاة الجزيئية الديناميكية على عينات صغيرة تقل عن 105 ذرّات، ودُرِسَت عند فترات زمنية قصيرة (تقل عن 1 نانوثانية)، بسبب القيود التي تفرضها القوة الحاسوبية المتاحة. لذلك.. كانت مقدرتنا على التنبؤ بالنتائج التجريبية لمثل هذه المحاكاة محدودة، بسبب تأثر خواص الزجاج المعدني بحجم العينة9 ومعدّلات التبريد10. تسمح لنا طريقة ماو وزملائه الآن بإجراء تجارب عند مقاييس مكانية وزمنية شبيهة بتلك التي تستخدم في المحاكاة. وهذا يفسح الطريق أمام استكشاف تكوُّن الزجاج ومنافسته للتبلور. وبالأخذ في الاعتبار أن التزجيج سبقت ملاحظته في صهر الأيونات، والمحاليل المائية، وصهر السبائك، والسوائل الجزيئية، والبوليمرات، فإن النتائج التي توصلت إلى إمكانية أن تصبح المعادن النقية زجاجًا تبيِّن أن البِنَى غير المتبلورة هي الهيئات الأكثر شيوعًا للمادة المكثفة.

  1. Department of Mechanical Engineering and Materials Science, Yale University, New Haven Connecticut 06511, USA

    • جان سكرويرز
  1. Zhong, L., Wang, J., Sheng, H., Zhang, Z. & Mao, S. X. Nature 512, 177–180 (2014).
  2. Angell, C. A. Science 267, 1924–1935 (1995).
  3. Klement, W., Willens, R. H. & Duwez, P. Nature 187, 869–870 (1960).
  4. Inoue, A. Acta Mater. 48, 279–306 (2000).
  5. Greer, A. L. Nature 366, 303–304 (1993).
  6. Turnbull, D. Contemp. Phys. 10, 473–488 (1969).
  7. Bhat, M. H. et al. Nature 448, 787–790 (2007).
  8. Schroers, J. Phys. Today 66, 32–37 (2013).
  9. Volkert, C. A., Donohue, A. & Spaepen, F. J. Appl. Phys. 103, 083539 (2008).
  10. Kumar, G., Neibecker, P., Liu, Y.-H. & Schroers, J. Nature Commun. 4, 1536 (2013).