تأبين
جِيرالد إيدِلْمان (2014–1929)
عالِم الأحياء الذي فاز بجائزة «نوبل»، لاكتشافه بِنْيَة الجسم المضاد.
- Nature (2014)
- doi:10.1038/510474a
- English article
- Published online:
كان جِيرالد إيدِلْمان رجلًا متعدد المواهب، وذا معرفة واسعة. وكان عالِم الأحياء البارز أيضًا كاتبًا بارعًا، وموسيقيًّا، ومُطَّلِعًا على مدى واسع من الفلسفة. وقد أسبغ هذا كله أسلوبًا أنيقًا على علمه، ومَنَحَ أعماله الفكرية ذات الطبيعة الأكثر نظريةً صيغةً أدبية مميزة.
Claudio Vitale
توفي إيدلمان يوم 17 مايو في لا جولا، كاليفورنيا. وكان قد وُلد في كوينز، نيويورك، في عام 1929. درس إيدلمان الطب، ثم التفت إلى علم المناعة، وقضى معظم حياته المهنية البحثية في جامعة روكفلر في نيويورك. قاد تركيزه على بِنْيَة الأجسام المضادة في ستينات القرن العشرين إلى حصوله على جائزة «نوبل» في عام 1972 في علم وظائف الأعضاء أو الطب، التي تقاسمها مع رودني بورتر. كرّمت الجائزة عمل إيدلمان على وصف سلاسل عديد البيبتيد الثقيلة (H) والخفيفة (L)، وكذلك عمل بورتر على مناطق الارتباط المميزة (ارتباط المستضد أو الشُّدفَة الرابطة للمستضد) للأجسام المضادة (التي تُسمى أيضًا الجلوبيولينات المناعية). كانت هذه أحجار الدومينو الأولى التي تقع في أبحاث استكشاف هذه التقلبات الهيكلية التي تكمن في صميم تعرُّف العوامل المعدية ـ مثل البكتيريا والفيروسات ـ بناءً على الأجسام المضادة.
اكتشف إيدلمان مع الزميل جوزيف جالي أن سلسلة عديد البيبتيد L تفرز في بول الشخص المصاب بورم النخاع الشوكي. ولما كانت سلسلة عديد البيبتيد L متجانسة (أي تحتوي كل سلسلة حمض أميني واحد)، فقد كانت هذه السلاسل الخفيفة قابلة للتوصيف الهيكلي، على عكس مزيج من الأجسام المضادة في الدم.
بعد الجائزة، وسّعت مجموعة إيدلمان اهتماماتها في عديد من المجالات، بما في ذلك البروتينات التي ترتبط بالكربوهيدرات، والتصاق الخلايا ببعضها بواسطة البروتينات الموجودة على سطح أغشية الخلايا، وكذلك مجال تخلُّق الأنسجة، لكن تركيز إيدلمان الشخصي كان قد بدأ يتحول نحو الجهاز العصبي، مما أدى في عام 1981 إلى تأسيسه وإدارته لمعهد العلوم العصبية في نيويورك، الذي انتقل معه في عام 1993 إلى سان دييجو، كاليفورنيا، حيث أصبح جزءًا من معهد سكريبس للأبحاث (والذي استقل عنه مجددًا في عام 2012).
وقد شغف إيدلمان طوال حياته المهنية بالإمكانات التفسيرية الهائلة لنظم التعرف الانتقائي selective-recognition systems. فقد استُخدمت هذه النظم لمعالجة وتوضيح اثنين من المشكلات الأكثر تحديًا في مجال البيولوجيا: تطور الأنواع، والاستجابة المناعية التكيُّفية. فيعتمد تطور الأنواع الدارويني على الانتخاب القائم على المواءمة من مجموعة من الصفات الوراثية المتباينة؛ والجهاز المناعي يتعرف على الأجسام الغريبة عن طريق مجموعة من الخلايا التي تتعرف على المستضد.
خلال الفترة نفسها تقريبًا من دراسات الأجسام المضادة، اكتشفت فِرَق بحثية مختلفة اثنتين من الخصائص الأساسية للخلايا العصبية ووصلاتها المتشابكة: أنّ الخلايا العصبية القشرية تنتظم في مجموعات منفصلة من الخلايا، وأنّ التشابكات العصبية تُعزّز بالاستخدام. ويجادل إيدلمان بأنّ قدرات التعرف والمعالجة الهائلة لجهاز عصبي متطور تعتمد على اختيار مجموعات الخلايا من بين الخلايا العاملة التي تختلف في أنماط التواصل فيما بينها. إن المعلومات الحسية الواردة تستثير ردّ فعل من مجموعات الخلايا المتمايزة عن بعضها؛ وقد افترض إيدلمان أنه يمكن تعديلها، من خلال التعرف المتكرر (وهو ما يُسمّى إعادة الدخول) الذي يوفر الفرص للتعزيز والتجريد والتداعي. وهكذا، جادل إيدلمان بأن بساطة الاختيار المتكرر من مجموعة متنامية قد تُفسِّر القدرة المذهلة لمعالجة المعلومات في النظم العصبية المتطورة.
عرض إيدلمان هذه الفكرة في عديد من الكتب، بما في ذلك كتاب الداروينية العصبية (Basic, 1987)، الهواء المشرق، النار المتألقة (Basic, 1993)، كَوْنٌ من الوعي (Basic, 2001)، الذي ألَّفه مع زميله جوليو تونوني. وغالبًا ما تكون الأوصاف والحجج ـ التي يستخدمها ـ كثيفة وتفصيلية، فينظر إليها بعض القراء على أنها ذات نوعية أدبية تثير الإعجاب، في حين يرى آخرون أنها مفرطة وغامضة.
ونظرًا إلى خلفيته متعددة الأبعاد وذكائه الثاقب، فليس من المستغرب أن إيدلمان كان شخصًا معقدًا ومثيرًا للجدل في أبحاثه وعلاقاته. فيمكن أن يتراوح بين كونه شخصًا ساحرًا وملهمًا أومتعجرفًا وحادًّا. وعلى الرغم من أن الزملاء كثيرًا ما وجدوه شخصًا فظًّا، إلا أن إيدلمان في مجموعته كان من الممكن أن يكون قائدًا فعالًا ومِعطاءً. فقد استمر في التعاون مع عديد من العلماء البارزين، بما في ذلك جالي، وبروس كننجهام - الذي كانت مهاراته البيوكيميائية أساسية في المهمة الهائلة المتمثلة في تحليل الأجسام المضادة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين - وجورج ريكي في النمذجة المبكرة لوظائف مختارة من وظائف المخ منذ ثمانينات القرن العشرين وما تلاها.
كما كان إيدلمان معلمًا استثنائيًّا. فقد كانت لديه موهبة صياغة الفرضيات المهمة؛ فأَسَّسَ توجُّهًا براجماتيًّا بالنسبة إلى التصميم التجريبي: فصياغته لـ«مبدأ الثلاجة» عبّرت عن أن الأفكار قد تأتي أحيانًا من العوامل المتاحة بسهولة. وحذّر من مخاطر التشتت - «لا تلتفت» - وشدّد على قيمة تفسير النتائج ضمن سياق أوسع.
كان التدريب تحت إشرافه تدريبًا مكثفًا. فقد قال يومًا لطالب في سنة التخرج: «هذا العام هو دورك، يا ولدي، أن تجلس في حوض حمض النيتريك». وكانت عروض الرسائل العلمية في قاعة كاسباري الأسطورية في جامعة روكفلر تسبقها أسابيع من التمحيص المباشر من قبله. وهي تجارب قيِّمة لبناء مهنة البحث، حتى أصبحت ملهِمة للجيل القادم.
بوفاة إيدلمان، تتبقى مهمة اختبار نظريته حول وظيفة الدماغ القائم على الاختيار. وكما هو الوضع في نظرية تطور الأنواع لداروين، والاستجابة المناعية التكيُّفية، اقتُرِحت النظرية قبل أن يفهم أي شخص الآليات الخلوية والجزيئية الكامنة تحتها، وقبل وجود الأدوات التحليلية المناسبة. وقد حدثت بعض التطورات المدهشة في السنوات الخمس الماضية في مجال استخدام الأدوات الوراثية والجزيئية لوصف نشاط التشابكات العصبية، التي مَكَّنَت من تقييم كَمٍّ كبير من مجموعات الخلايا في الأنسجة الفاعلة في المخ في الوقت الفعلي لحدوث النشاط. ومن ثم، يمكن للمرء أن يبدأ في تصوُّر خط البحث الذي يمكن أن يعالج التحدي الذي طرح عمل إيدِلْمان الاستفزازي على علم الأعصاب.