تأبين

جيـروم كـارل (1918 - 2013)

الكيميائي الرائد في مجال استخدام الطرق الرياضية؛ لتحديد البِنَى البلورية.

وين. أ. هندريكسون
  • Published online:

بعد فترة وجيزة من اكتشاف الفيزيائي ماكس فون لاو لحيود الأشعة السينية بعد اصطدامها بالبِلُّورات عام 1912، تَبَيَّنَ الفيزيائي البريطاني لورانس براج أنّ بمقدوره أنْ يستخدم نمط الأشعة السينية المُحَلَّلة من البلورة؛ لكي يحدد بدقة مواضع الذرات المكونة لها. ومع ذلك.. ومع بداية دراسة مواد ذات صعوبة متزايدة، أضحت هناك حاجة غير مسبوقة لطُرُق أكثر ذكاءً؛ من أجل «حلّ» البِنَى البلورية. أرسى جيروم كارل، أو جيري لأولئك الذين عرفوه عن قرب، طُرُقًا جديدة لتحويل أي نمط حيود ملاحَظ إلى مجموعة من المَواضِع الذَّرِّيَّة. تمكن جيروم من فعل ذلك من حيث المبدأ عن طريق اشتقاق صيغ رياضية بالاشتراك مع هربيرت هوبتمان، وتَمَكَّن من فعل ذلك من ناحية عملية عن طريق تطبيق تلك الصيغ على بِلُّورات حقيقية، بالاشتراك مع زوجته، إيزابيلا كارل. وقد ساعدت المقاربات الرياضية التي أنشأها كارل وهوبتمان ـ التي تُعرف بالطرق المباشرة ـ الباحثين في التعرف على بنية جزيئات بالغة الأهمية، مثل الفيتامينات والهرمونات، كما ساعدتهم على سبر غور الآليات الكيميائية الحيوية. وقد تَقاسَم كارل وهوبتمان «جائزة نوبل» في الكيمياء لعام 1985 على أبحاثهما.

NAVAL RES. LAB.

وُلد كارل في بروكلين بمدينة نيويورك. ودَرَسَ في المدارس العمومية في نيويورك، وتفوَّقَ على أقرانه، وأكمل دراسته في المدرسة الثانوية في سن الخامسة عشرة فقط، ثم التحق بعدها بسيتي كوليدج في نيويورك. وتخرج في عام 1937 مع هوبتمان وآرثر كورنبرج، من بين خريجي سيتي كوليدج الكثيرين الحائزين على جائزة نوبل. بعد ذلك، ذهب كارل إلى جامعة هارفارد في كمبريدج، ماساتشوستس، حيث حصل من هناك على درجة الماجستير في علم الأحياء. وبعد أن قضى عامًا في مصلحة الصحة بولاية نيويورك في ألباني، سعى كارل لإجراء دراسات عليا إضافية، كان مجالها هذه المرة هو (علم الكيمياء) في جامعة ميتشيجان، آن أربور. وفي ميتشيجان، درس كارل أنماط الحيود الناتجة من إطلاق الإلكترونات على الغازات. وفي ميتشيجان أيضًا التقى بإيزابيلا لوجوسكي، زميلته في الدراسات العليا، التي تزوجها في عام 1942؛ وأنجب منها ثلاث بنات.

وبعد أن أكمل أطروحته في عام 1943، انتقل كارل إلى جامعة شيكاغو؛ لكي يعمل في مشروع مانهاتن. ثم رجع إلى ميتشيجان في عام 1944؛ لكي يعمل في مشروع بحثي للبحرية الأمريكية، شمل دراسة بِنَى هيدروكربونات مواد التشحيم. وفي عام 1946 انتقل كارل وزوجته إلى «مختبر أبحاث البحرية» NRL في الولايات المتحدة في واشنطن دي سي، حيث ظلّا هناك إلى حين تقاعدهما في عام 2009. وقد توفي كارل في السادس من يونيو الماضي.

في البداية، واصلا تركيزهما على تجارب حيود الإلكترونات. وبصورة موازية، بدأ كارل في التحليل النظري والتنبؤ بأنماط الحيود المتوقَّعة من الهيدروكربونات الموجَّهة. وتَسَبَّبَ هذا التحليل في جَعْله يتساءل عن إمكانية تطبيق نظرياته على تحليل بِنَى البِلُّورات. وفي هذا الوقت تقريبًا انضمّ هوبتمان إلى كارل.

كانت المشكلة التي واجهاها هي أنه بالرغم من أن الأشعة السينية المُحَلَّلة من البِلُّورات تحمل معلومات يمكنها أن تنتج صورة للبِنْيَة الذرية، إلا أنّ جزءًا فقط من هذه المعلومات يمكن الوصول إليه بصورة تجريبية. ويمكن ملاحظة اتساعات الموجات الكهرومغناطيسية المرتدّة من الذرات بواسطة الكواشف فقط، بينما لا يمكن قياس إزاحة المرحلة لكل موجة دوريّة عند مقارنتها بالأخريات. ولحسن الحظ، نجد أنه بالنسبة إلى البِلُّورات المعتادة، يفوق عدد الانعكاسات عدد الذرات، وهذا يعني ضمنًا أنه يتحتّم وجود علاقات رياضية بين هذه الانعكاسات. وبدءًا من خمسينات القرن العشرين، اعتمد كارل وهوبتمان على المعرفة الأساسية بطبيعة المادة (وبالأخص، حقيقة أنه لا يمكن أن تكون هناك كثافة إلكترونية سالبة)؛ من أجل إيجاد علاقات رياضية بين الموجات المُحَلَّلة. بعد ذلك بقليل، أسَّسا نظرية الاحتمالات، التي أعلناها بصورة جريئة في عام 1953 في كتاب مليء بالغموض، حمل عنوان «حل لمشكلة المرحلة».

كان الاستقبال الأوَّلِي لأبحاث كارل-هوبتمان فاترًا. ويمكن القول ـ حسبما أعرب كارل ذاته ـ إنه «خلال بدايات خمسينات القرن العشرين لم يصدِّق عددٌ كبير من زملائنا العلماء كلمةً مّما قلناه». وانعكس تيار المَدّ حينما طبقت إيزابيلا أبحاثهما على التراكيب المعقدة، مثل الببتيدات. وفي عام 1966، نشرت هي وكارل ورقًة علمية بالغة الأهمية في دوريّة «أكتا كريستالوجرافيكا» Acta Crystallographica، أوضحت الطريقة التي تحدّد بها بِنَى البِلُّورات خطوة بخطوة. انضم آخرون إلى هذا المشروع ببرامج الحاسب، وتم تحديد أعداد تزيد كثيرًا عما قبل لبِنَى أكثر تعقيدًا بكثير باستخدام الطرق المباشرة. وعندما حصل كارل ـ بالاشتراك مع هوبتمان ـ على «جائزة نوبل»؛ أصبح كارل شخصية بارزة في دوائر علم البِلُّورات، لكونه قد عمل رئيسًا للاتحاد الدولي لعِلْم البِلُّورات في بدايات الثمانينات.

وقد اكتشفت من خلال إجرائي لأبحاث ما بعد الدكتوراة مع كارل في أوائل السبعينات أنّ قوة الطُّرُق الإحصائية التي تشكل الأساس لمقاربته هو وهوبتمان محدودةٌ (إذ حاولتُ ـ بدون جدوى واضحة ـ أن أطبِّق طرقه على بِلُّورات البروتينات)، إلا أن تأثير كارل امتد إلى الجزيئات الكبيرة. كان كارل مفتونًا بالرنين في الحيود (حيث تتصرف بعض الذرات بصورة شاذة، حينما تتفق طاقة الأشعة السينية الساقطة مع طاقة المدار الإلكتروني)، كما قام بإضافات بالغة الأهمية إلى النظرية التي تقف وراء المقاربة، التي تُعرف الآن باسم «الحيود الشاذ متعدِّد الأطوال الموجية» MAD. ويُستخدَم الآن «الحيود الشاذ متعدِّد الأطوال الموجية» ونظيره «الفردي» SAD بصورة شائعة؛ من أجل تحديد بِنَى الجزيئات الضخمة، مثل بروتينات الغشاء. وتتطلب هاتان المقاربتان تحديد الذرات الرَّنّانة كخطوة أولى، كما أن طُرُق كارل-هوبتمان المباشرة تُعَدّ الآن المقاربةَ الأكثر تفضيلًا للعثور على هذه الذرات.

كان مجال اهتمامات كارل واسعًا، حسبما يوحِي بذلك الاسم الذي أطلقه على وحدته في مختبر أبحاث البحرية (مختبر بِنْيَة المادة). وتتراوح الأبحاث هناك ما بين حيود إلكترونات الغازات، والكيمياء الكمية للحالات المثارة، ودراسة الغازات والمواد غير البلورية، والبِلُّورات بطبيعة الحال. وبالرغم من أن هذه الأنشطة تشغل عددًا من أعضاء المجموعة، وبالرغم من كونها تجريبية إلى حد كبير، إلا أنّ جيري الذي عَرَفْتُه كان عالمًا نظريًّا منفردًا، نشر عديدًا من الأبحاث بمفرده، وكان تفاعله الأساسي في العمل مع مبرمِج الحاسوب الذي كان يتعامل معه ويختبر نظرياته.

وفي نهاية المطاف، كان إسهام كارل الأساسي هو أنه سمح للباحثين أنْ يحولوا بؤرة تركيزهم من صعوبات وتعقيدات علم البِلُّورات إلى الجزيئات، وإلى الآلِيّات الكيميائية الحيوية. لقد حوَّل كارل علماء البِلُّورات إلى كيميائيِّي بِلُّورات.