تأبين
كـارل ووز (1928-2012)
مكتشِف عالَم البدائيات.
- Nature (2013)
- doi:10.1038/493610a
- English article
- Published online:
واجه كارل ووز أعقَدَ أسئلة البيولوجيا بعقل متوقد الإبداع، ومحنّك بالصرامة. ومن خلال إظهاره - بمفرده تقريبًا - أن الكائنات الحية تنقسم إلى ثلاثة عوالم: البكتيريا، وحقيقيّات النوى، ومجموعة ـ غير معروفة من قبل ـ تُدعى بدائيات بكتيريا «أركايا» العتيقة، غيَّرَ مفهومنا لكيفية ارتباط الكائنات الحية ببعضها البعض، وكيفية تطورها.
وُلد ووز - الذي توفي في 30 ديسمبر 2012 - في سيراكيوز بنيويورك في عام 1928. وأتمّ تعليمه الجامعي في الفيزياء والرياضيات في أمهرست كوليدج في ولاية ماساشوستس. وفي عام 1953، حصل على درجة الدكتوراة في الفيزياء الحيوية من جامعة ييل في نيو هيفن بكونيتيكت.
بعد شغله وظيفة باحث في مختبر أبحاث جنرال إليكتريك General Electric Research Laboratory في سكينكتدي بنيويورك، بدأ ووز في التفكير في تَطَوّر الشيفرة الوراثية. وفي عام 1964، عرضَ عليه عالِم الأحياء الجزيئية سول سبيجلمان وظيفةً في قسم الأحياء الدقيقة في جامعة إلينوي بأوربانا، حيث أمضى كل مسيرته الأكاديمية بها.
في إلينوي، فحص ووز تسلسل مكونات نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي 5S (أحد مكونات الريبوسوم، الذي يعمل في بناء البروتينات)، المستخلص من كائنات حية مختلفة. وسرعان ما أدرك أن الحمض النووي الريبوزي هو مقياس زمني مثالي لقياس المسافات التطورية بين الكائنات الحية. إنه ذو معدل طفرات بطيء، ويؤدي وظيفة مماثلة في جميع الكائنات الحية. ولمّا كان الحمض النووي الريبوزي يتفاعل على وجه التحديد مع عديد من البروتينات، فمن غير المرجح أن تقفز الجينات التي ترمزِّ إليه بين الأفراد من مختلف الأنواع.
هكذا اكتشف ووز نافذة تطل على علاقات القرابة بين الكائنات الدقيقة. وحتى هذه النقطة، كان المجال راكدًا لدرجة تثير اليأس، ويقوم على تحديد هوية الكائنات الدقيقة بالاعتماد على الخصائص النوعية، مثل الاختلافات في الشكل. وفي أوائل السبعينات من القرن العشرين، أدرك ووز أن تسلسل الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي 5S يحتوي على عدد أقل بقليل جدًّا من النيوكليوتيدات (120 نيوكليوتيد) من أن يسمح باستخدامه كوسيلة لتصنيف الآلاف من الكائنات الحية. وهذا ما دفعه نحو القيام بالمهمة الشاقة المتمثلة في تحليل الحمض النووي الريبوزي ريبوسومي 16S، الذي يحتوي على أكثر من 1500 نيوكليوتيد.
وشرع ووز في سلسلة أجزاء من الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي 16S من كل الكائنات الدقيقة التي تقع تحت يديه، وذلك باستخدام تقنية بصمة الحمض النووي الريبوزي، وهو منهج طوّره البريطاني الكيميائي الحيوي فريد سانجر. تقوم التقنية على فصل أجزاء من الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي ضمن مجال كهربائي، وذلك تبعًا لمكونات النيوكليوتيدات. وقد أثمر مجهود ووز أيّما إثمار.. ذلك المجهود الذي انطوى على تحليل أكثر من 100 نوع من الكائنات الحية، وامتد لسنوات عديدة.
وفي أحد الأيام، أسفر تحليل الحمض النووي الريبوزي S16 من كائن حي من الكائنات المنتجة لغاز الميثان عن نتيجة مذهلة، إذ تم تغيير النمط المألوف لنحو 100 موقع، أو ما يقارب ذلك العدد - كل موقع يحتوي على قطع صغيرة من الحمض النووي الريبوزي - بطريقة غير معتادة، إذ لم يُعثر على عديد من المواقع الموجودة في جميع عينات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي البكتيري S16. وظهرت مواقع جديدة، تتوافق مع تسلسل الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي، لم يسبق العثور على مثيلها من قبل. هكذا عثر ووز على علامة لعَالَم مختلف من عوالم الحياة.
HARRY NOLLER
كذلك أنتج الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي لبعض الكائنات الدقيقة الأخرى هذا النمط الغريب أيضًا، بما في ذلك الكائنات التي تقطن البيئات المتطرفة، التي يعيش بعضها عند درجات حرارة تصل إلى 100 درجة مئوية، وتفرز حمض الكبريتيك. وفي عام 1977، نشر ووز وطالب ما بعد الدكتوراة جورج فوكس - الذي كان يشرف عليه- اكتشافهما للبكتيريا «أركايا»، وذلك في دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم Proceedings of the National Academy of Sciences، وأشارا إلى أن هذه الكائنات هي كائنات بعيدة الصلة بالبكتيريا، كبعدها تطوريًّا عن حقيقيات النوى.
وبالإضافة إلى تغيير مفهومنا للعلاقات بين الكائنات الحية، كان لتحليل ووز أثر كبير على بيولوجيا الريبوسوم، إذ أدرك ووز أنه يمكن للمرء استخدام تسلسل الحمض النووي الريبوسومي لتحديد كيفية طيّ الهيكل الحلزوني - أو الهيكل الثانوي - لجزيئات الحمض النووي الريبوسومي. واستخدمتُ أنا وكارل ووز هذه المقاربة لتحديد الهياكل الثانوية لكل من الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي S16، وS23. وحدَّدت هذه المقارنات نيوكليوتيدات الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي المُحافَظ عليها عبر جميع صور الحياة - ومن ثم فهي النيوكليوتيدات الضرورية لقيامه بوظيفته - في الوقت الذي اعتقد فيه الكثيرون أن الحمض النووي الريبوزي لا يعدو كونه مجرد سقالة هيكلية للبروتينات الريبوسومية.
كما ولّدت أبحاث ووز أيضًا فرعًا جديدًا من بيولوجيا الأحياء الدقيقة: استخدام تحليل التسلسل لدراسة المجاميع الميكروبية الطبيعية.. فبالجمع بين تقنية تحليل التسلسل وتقنية تفاعل البولميريز المتسلسل - الذي يضخِّم أعداد أجزاء الحمض النووي، وصولًا إلى الآلاف أو الملايين من النسخ - أصبح بالإمكان تحديد الميكروبات في عينات مأخوذة من أي مصدر، بما في ذلك المحيطات وجسم الإنسان.
في البداية، استُقْبل اكتشاف ووز لبكتيريا «أركايا» بالشك، بل والعداء. ونتج عن هذا ـ مضافةً إليه نظرة ووز لنفسه على أنه الدخيل المتمرد ـ لجوء ووز إلى أسلوب كتابة جدلية في كثير من الأحيان؛ فتصدّى لخصوم منيعين مثل الميكروبيولوجي روجر ستينيار، وعالِم التصنيف إرنست ماير، بل وحتى تشارلز داروين، إلا أن ووز تلقّى في نهاية المطاف الاعتراف الذي يستحقه، بما في ذلك «جائزة كرافورد للعلوم البيولوجية» من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم في عام 2003.
صرّح لي كارل يومًا ما بأن مفتاح نجاحه هو «مبدأ عدم الكفاءة الديناميكية». وكان زوّار مختبر كارل يعجبون بالتأكيد من عدم مبالاته بجبل البريد المتراكم، دون أن يفتحه. وقلقت زوجته جابرييلا، لدرجة أنها أقنعته بالسماح لها بفتح المظاريف. وقد وجدت من بينها رسالةً بختم بريد هولندي أُرسلت منذ أشهر. أبلغت الرسالة كارل بأنه قد مُنح وسام «ليوفنهوك» من قِبَل الأكاديمية الملكية الهولندية للفنون والعلوم، وهو شرف يُمنح مرةً واحدة فقط كل عقد من الزمن، يتشاطره مع لويس باستير.
إنّ كارل سيُفْتقَد بشدة من قِبَل الأصدقاء والزملاء والأسرة.. كما إنّ تأثيره على فهمنا للبيولوجيا تأثير عميق، لا يمكن دحضه.